عن مسرحية(مرايا)

المسرح داخل المسرح..واحتمالات الصمت

بقلم سليم ابو جبل

*تقدم مسرحية "مرايا" ثلاثة أشخاص يتشحون بالسواد ويلعبون لعبة ذكية مع الصمت والموسيقى التي ترافقهم على طول المسرحية. وهي من إنتاج "مسرح المغار" الذي يديره الممثل والمخرج عدنان طرابشه وقد عرضت على خشبة النادي التابع للمسرح البلدي في حيفا.

كرسي، صندوق وإطار هي ثلاثة أشياء استطاعت أن تكون أدوات نطق بدلا من المفردات، وكأن البشري يعود إلى تكوينه الأول ولم يتعلم بعد تسمية الأشياء ولم يتقن بعد غير لغة الجسد. ثلاثة شخوص لكل واحد منهم مرآة يبدأ معها الحوار مع الذات وينقل لنا عبر حقيقة المرآة التي لا تغلبها حقيقة من هو، وحين يبدأ حواره مع الآخرين يتصرف على نحو مختلف وتبدأ المناوشات بين رجل وامرأتين تتفقان عليه في أحيان، لكن النزاع باعتباره طبيعة بشرية متأصلة يسيطر على اللقاء الأول بين الثلاثة فيختلفون على أي شيء ويبدؤون لعبة الحرب، الضحك، الحلم.
**قوة السحر في الرقم ثلاثة

هذه ثلاثة أجزاء من العالم، كرسي وصندوق وإطار، وللرقم ثلاثة قوة سحرية فرضت نفسها على هذا العمل عبر اختيار ثلاثة شخوص، ثلاثة أشياء ترافقها على المسرح وثلاثة فضاءات: يمين المسرح وسطه ويساره، إضافة لثلاثة مرايا وثلاثة أماكن فارغة في الصف الأول من القاعة. وعبر هذا التقسيم استطاع مخرج العمل أكرم خوري أن يقدم المسرحية عبر جزأين، تمثل الأول في مشاهد مشتركة للثلاثة، وتمثل الثاني في تقديم مونولوج جسدي منفرد.


**صندوق، كرسي وإطار

يعيش (ربيع خوري) داخل الصندوق وخارجه يحمله عل ظهره ويمشي به، فنراه عتالا يحمل المشتريات، أو مهجرا منفيا ينزح عن موطنه يحمل أغراض بيته على ظهره. ونراه يدخل إلى الصندوق وقد أصبح بيته أو تابوته، ونراه يدفعه بكتفه وقد أصبح جدارًا يمنعه من مواصلة السفر، وفي أحيان يهزه في حركات رتيبة وكأنه آلة قد سيطرت عليه وجعلته عبدًا لها، ثم يجلس عليه ينتظر شيئا ما أو ينظر من موقع المشاهد إلى شريكتيه في العمل. وفي الغالب نراه في حيرة من أمره: ماذا يفعل مع هذا الشيء الوحيد الذي حصل عليه من الخالق، فتغلب عليه المعاناة وكأنه سيزيف لا يستطيع التخلص من الصخرة المشدودة إلى قدمه.
تجلس (رنين بشارات) على الكرسي وتقدم في أحيان أخرى مشهدا دقيقًا لأصابعها وهي تمشي على حافة الكرسي وكأنها تحكي قصة للصمّ، ويتحول الكرسي إلى سجن ثم إلى شيء يثير فيها الضحك بأعلى صوت ولكنها تموت من إطلاق الرصاص من طائرة مقاتلة تواصل إطلاق النار عليها.تستعمل (لنا زريق) إطارا مربع الشكل ليكون إرجوحتها ومكان لهوها، وتبدو كفتاة حالمة تعيش في عالم وردي لا تعاني ما يعانيه ربيع ورنين، فتستعمل الإطار في أكثر من صورة فتارة يكون بابا وتارة يكون شاشة تطل منها على المشاهدين ويشاركها في هذا المشهد السينمائي ربيع ورنين في محاولة اقتحام، فيكّون الإطار حدود التقاط الكاميرا، فيتوجب عليهم الابتسام لكي يبدون بصورة جميلة أمام الآخرين.


**الموسيقى شريك رابع

لعبت الموسيقى الفريدة والمتألقة لبشارة الخل دورًا أساسيا في العمل، فيصعب تخيل العمل من غير دور الموسيقى التي يمكن اعتبارها شريكا رابعا في فضاء المسرح، فتنكسر قوة السحر للرقم ثلاثة، وتصبح ذات أربعة أبعاد كما هو الإطار/الشاشة، مما يعيدنا إلى أبعاد المسرح بجدرانه الأربعة، فيسقط الجدار الرابع عن المشهد والكلام، فترتفع في حالة مسرح مرايا شخصية الموسيقى كستارة شفافة من غير لون لكنها تضيف الكثير من الألوان لحركة الجسد وقوة التعبير. وتقدم الموسيقى نفسها كلغة خاصة لكل ممثل، فنعرفه عبرها كما نعرف الممثلين من خلال ما يقولون في المسرح الناطق. إضافة لهذا أدخل بشارة الخل مؤثرات صوتية موسيقية تمثلت في أصوات الطائرات وصوت موج البحر وهطول الأمطار مما كان يخلق تعابير وجه مع كل صوت جديد على وجوه الممثلين الثلاثة. وقد أثار انتباهي في مقطع صوت الأمطار الغزيرة وصوت العواصف مشاهدتي ربيع خوري والعرق يجري على وجهه كأنهاحبات مطر فعلا. استطاعت الموسيقى في مسرحية مرايا أن تكون نصًا يكتب العمل المسرحي بلغة جديدة بعد أن كان عبارة عن أفعال أمر يوجهها كاتب المسرحية أنطوان شلحت إلى الممثلين والفضاء المسرحي.


**الكتابة الصامتة

يصعب القول كما يصعب السؤال، ماذا كتب أنطوان شلحت للمرايا الصامتة، وكيف يستطيع المشاهد العربي أن يفهم الكتابة الصامتة ونحن الذين أكثرنا من القول حتى أصبحنا لا نفهم كل ما يقال. فهل علينا العودة إلى كلاسيكيات الأعمال الصامتة التي حققتها السينما قبل أن تستطيع النطق؟... قد يساعدنا هذا حقًا، وذلك حين نعرف أن تشارلي شابلن إنما كان يكتب المشاهد الصامتة بلغة الصورة، ولكن هناك من يقول أن سينما الحركة هذه كانت ناطقة لأننا كنا نشاهد حوارا وكلمات بين الصور تساعد في فهم القصة، فالكتابة الصامتة إذن تتحدث بأكثر من لغة وهي تختلف في السينما عنها في المسرح، فيلجأ المسرح الصامت عن قصد إلى الصمت التام لفقر تقنية عرض الحوار أو لرغبة أصيلة للعمل المسرحي في أن تكون الموسيقى سيدة الموقف بالتمام.


**احتمالات الصمت

بدأ العرض والممثلون مستلقون على الأرض في حالة سكون، وحين يعلن المخرج الإذن بالبداية ينهض كل إلى مرآته يحاكيها بلغة الجسد وينزع ثيابه تماما ويبقى في جلده الأسود، وتنبئنا عملية نزع الثياب بخروج الشخصيات من عالم الألوان إلى عالم السواد، من عالم اللباس بما يمثله من تمايز إلى عالم العري الموحد، من عالم الكلام المبتذل إلى عالم الصمت والحركة،عالم يحمل الكثير من القوة والدلالة ويقدم الرموز والإشارات التي أرادها الكاتب من غير فرصة للخلاف، وذلك لأننا لم نتعلم بعد كيفية الخلاف على الدلالات والرموز كونها تحمل الكثير من محاولات التفسير، فتقضي بذلك على مقدمات الطعن والنفي.

 
**كتابة من المثولوجيا.

"مرايا" هو اسم العمل ويختار المخرج أن يعيش كل منهم في مرآته، إنه نرسيس الذي يطيل النظر إلى نفسه في المرآة فيعشق صورته ويعلي من شأن نفسه، وتدفعه نرجسيته إلى قناعته بأفضليته على الآخرين، فيحاول أن ينتزع منهم كل ما لديهم، فهو الأفضل، الأقوى والأعظم، وهكذا تتصادم الشخوص في ما بينها، ويتحول مسرح الصمت إلى مرتعا لقصص كثيرة خلقتها طبائع الأنا، وتخلق عالم الأقوياء والضعفاء. سريعا يبدأ سكان المسرح الثلاثة بالخروج من مراياهم إلى الآخرين، وتجري بهم الموسيقى من غير رحمة من مكان إلى آخر، وكأنها هي لغة القانون وشريعة الصمت بلغة الرعد والبحر والكائنات، وتبقى الموسيقى تلعب دورا أسياسي عبر سياق محتمل لإعادة تمثيل قصة الخلق والولادة على نحو جديد، ولادة الكائن البشري وطبائعه المحيرة. فيقوم الثلاثة بعمل أشياء يومية عادية بعد أن سئموا من "لذة الحياة"، فتختار لنا زريق أن تكون حواء التي تاكل التفاحة ولا تعطيها لأدم، فيلجأ ربيع خوري إلى فصفة البزر مفكرا في دور آدم الذي لم يكتبه الكاتب عن عمد، وتبقى رنين بشارات تدخن من غير رغبة في العالم، تسحب من السيجارة ثم تنفخ في الهواء وكأنها أفعى الجنة التي أصبحت كائنًا زائد عن الزوج البشري، ولم يعد لديها دور وقد أكلت حواء التفاحة. ولكن، رغم هذا يطرد الخالق ثلاثتهم بتهمة عدم الرغبة في الحياة خارج الفضاء المسرحي إلى داخل الجمهور، فينظرون على الجنة/المسرح بأعين شبقه، ويعودون إليها/إليه من أجل التحية والفوز بالرضا.

 
**مشاهد متحركة، صور متحركة

اختارت مليحة حنا مصممة الديكور والملابس أن يكون الفضاء المسرحي شديد البساطة، يخلو إلا من المرايا الثلاثة الكبيرة واللون الأسود الذي سيطر على الجدران والملابس، لكن شاشة العرض كسرت هذه الرتابة. ففي لحظة ما تتحرك إحدى المرايا جانبا لتنكشف على الجدار المقابل للجمهور مساحة لعرض مشاهد لأفلام الصور المتحركة، والتي تعتمد على ذات المبدأ: الحركة، الصورة، والموسيقى في إشارة إلى نوع فني شبيه، الأمر الذي أعطى بعدا آخر من عالم الصور والرسومات. وبعد، فإن أفلام الصور المتحركة هي أيضا عمل صامت من غير كلام وتبدو أكثر إجادة من سينما الحركة الكلاسيكية، وأكثر تعبيرا والتصاقًا في مسرح الصمت رغم الاختلاف الكبير في كون الرسوم المتحركة تلجأ إلى الإضحاك ورسم الابتسامة والدهشة المفرحة، بينما لم تستطع مسرحية "مرايا" أن تخرج عن لغة الدراما والجو القاتم الحزين الذي تتصف به الكثير من الأعمال المسرحية الناطقة في المسرحالعربي المحلي.

  
**المسرح داخل المسرح

استعمل المخرج وببراعة تقنية "المسرح داخل المسرح"، فينقلب الممثلين إلى مشاهدين للآخر وهو يقدم مونولوجًا فرديًا، فيكونون جمهوره ويصبح الجمهور الجالس في القاعة جمهور الجمهور، وهكذا تنتج خشبة المسرح مسرحيتين في آن واحد، فيشاهد المشاهد كيف يشاهد الاثنان زميلهم في نقلة واعية إلى مسرح الممثل الواحد، فتتحول المنصة إلى عمل ميلودرامي مونولوجي متقن ومدروس.
وتتطور هذه التقنية ليصبح أحد الممثلين جزءً من الجمهور حين ينهي دوره الأخير على المسرح، ويخرج من اللعبة ويأتي دور الثاني لينهي دوره ويجلس في مكانه بين الجمهور ويأتي دور الثالث، فيصبحون جميعهم مقابل الفضاء المسرحي يشاهدون أشياءهم ومراياهم ومكان وجودهم الأخير، فيختبرون بذلك عملية المشاهدة بحيادية ويتركون الموسيقى لتقدم نفسها دون مساعدة إلا من الفضاء الصامت، وكأنها عودة إلى قصة الخلق الأولى حين لم يكن البشري قد عاث خرابا في الأرض. وتمكن رؤية هذه الخاتمة على أنها نذيرا بالدمار الذي قد يحيق بالعالم بعدما أن ينتهي كل قوي من تأدية دور السيطرة والعبث، فيكون الرجل هو الثالث والأخير في الدور، راسمًا نهاية قصة البشرية فوق الأرض/ المسرح.

 

عن موقع العربية للصحافة