قليلا من الوضوح/ أين مسرح "البانتومايم"
ناصر الملا
بادئ ذي بدء لا بد أن نعرف ان معنى كلمة"مايم" في اللغة اليونانية "يحاكي"
وحرفيا «محاكاة» أما أصل «البانتو مايم»، فيحوطها الغموض؟ ويقال انها مشتقة من
الكلمة اليونانية «ميموس» وتعني تقليد كل شيء، وانها مقسمة إلى «بان» كل و«تو» هم.
و«مايم» يقلد، ويتفق الكثير من الباحثين على ان «البانتو مايم» عبارة عن لغة الفعل
أو العرض الصامت، ويرون ان «البانتو مايم» الحديث هو
«فن التعبير عن العواطف» بينما البانتو مايم المعروف بالكلاسيكية «هو وسيلة
ترجمة الكلمات باستخدام فن الايماء، وبالتالي فان كلمة «مايم» تدرج مسرحيا تحت مسمى
«الممثل» الذي يعبر عن نفسه بالايماءة، وكلمة «بانتو مايم» تشير الى المسرحية
المؤداة عن طريق التمثيل الصامت... وفي أوروبا أخذ فن «البانتو مايم» المسرحي حظه
بالتنفيذ والدراسة والتنقيب... لان الدارسين والمهتمين هناك كالناقدين الكبيرين
«فرنسيس فرجسون، ومارافين شيارد لوشكي» والعشرات غيرهم رأوا فيه الفن الذي
باستطاعته التعبير عن الادراك الانساني حركة وتمثيلا دون استخدام الحوار، وكذلك
يشكل واقعا جديدا ورافدا غزيرا غنيا بالثقافة والمعرفة وشاملا لمختلف الفنون التي
تعزز الفهم الفني للمسرح وبالتالي خلق الوعي المسرحي لتثمر هذه المدرسة حدثا دراميا
نافذا الى عقل وقلب النظار، وبالتالي تخلق مدرسة البانتومايم لنفسها قاعدة فنية
مسرحية يتلقفها العالم من كل حدب وصوب. والحديث عن فن «البانتومايم» قد يبدأ ولا
ينتهي أبدا لانه فن رافق الفن المسرحي منذ الاغريق والرومان الى العصور الوسطى في
اوروبا وانتهاء بعصر النهضة، كذلك في اوروبا على الرغم انه فن لم يتماسك كما الفن
الدرامي الحواري، الذي يعتمد على شخصيات توجه حوارها مباشرة الى الجمهور، ولعل
اللافت للنظر ان عمر «البانتومايم» يتجاوز الثلاثة آلاف عام، ويقول أحد النقاد انه
من المحتمل يكون عمره أقدم من ذلك... لان الدراما ولدت مع البشرية ذاتها والايماءة
هي الشكل الأول للتعبير والتواصل الاجتماعي... ويذهب آخر الى ان فن «المايم»، كان
قد تطور وتنوع بالفعل ولكن الأوصاف الأولى قليلة... فالمؤرخون يبدأون عادة بمناقشة
«المايم» المسرحي مع الاغريق والرومان... واهتمام الباحثين الاوروبيين كما ذكرت
سابقا رسم لفن البانتو مايم المسرحي خطوطا جديدة لتناول المادة، ومن ثم تنفيذها حسب
المنهجية الفنية الموضوعة لها... مثلا «الدويتو الثنائي الكوميدي» هو شكل من اشكال
«المايم» يفرض اشتراك المؤدين بقدر متساو في الحدث الذي يجمعهم معظم الوقت، وأحيانا
يلعب ممثل من قطعة اكسسوار... او ضوء ويحرص على الصراع مع المحافظة على «الصولو»
وحدة البناء في فن «البانتو مايم» وهناك الثلاثي «تريو» الكوميدي ويحتاج المؤدون
الثلاثة الى حبكة لتمكين الثلاثة أشخاص ان يتورطوا بقدر متساو في الصراع معظم الوقت.
و«انتريو» الكوميدي الجيد ليس دويتو مع مؤد ثالث يتابع... والبانتو مايم لا هو رقص
ولا هو تمثيل، انه يحتاج مكانا بينهما.(البانتومايم)
تكنيك لكنه مشاعر أيضا، وهو تجسيد بصري خارجي وروح داخلية مفعمة بالنشاط والحيوية
وايضا عقل يعرف الى اين سائر هذا الممثل في ما يؤديه! فالعملية العقلية هي التوازن
بين تعبير العاطفة والانغماس في أخذ الشيء ورده والملاحظة وأخذ اكبر قدر ممكن من
التوظيف الفني السليم والمناسب لتسخير قيمة فن «البانتو مايم» على خشبة المسرح،
و«البانتو مايم» ليس بالفعل السهل أو البسيط الذي يدفع أي مخرج لتنفيذه... كما ان
هذا الفن آخذ بالدراسة والتحليل النظري والتطبيق الوقت الطويل حتى اجادته مسارح
فرنسا وايطاليا تنفيذا الى ان انتقل الى باقي المسارح الأوروبية... فالنقلة
واستحداث «البانتو مايم» ما قبل ثلاثة آلاف عام اوروبا عصر النهضة تطلب جهدا جهيدا
وفلسفة عميقة من خلال التدبير والاستحكام تصب عمقها الفني والمعرفي مما أثمر لهم
مسرحا غاية بالروعة من خلال الطرح والمضمون واخيرا استخراج المدرسة الجديدة
المتمثلة بالبانتو مايم وتعريفها للجمهور ومحبي المسرح من جديد... وأذكر انني حضرت
مسرحية «بانتو مايم» على مسرح «فلر» في سويسرا، وكنت حينها في الخامسة عشر من عمري،
وقد احاطني طلبة مدرسة «بوسلي» من كل صوب واتجاه، وكأن اتحاد أوروبا كله قد اجتمع
لمشاهدة مسرحية «المعلمة كرستينا».
والعرض رغم امكاناته البسيطة والمحدودة إلا ان قيمة طرحه التربوي طغى علي أي شيء
آخر، اضافة إلى ذلك شغف الطلبة الاوروبيين وهم من سني تقريبا بمشاهدة العرض المسرحي
بهدوء تام، ومحاولات استيعابه بشتى الطرق... ربما تكون الصدف هي التي جمعتني معهم
في مسرح «فلر» أو ربما تكون الفتاة البلجيكية التي ظللت الحقها من صالة التزلج إلى
ان دخلت مسرح «فلر» هي من عرفتني على مسرح «البانتومايم» لذلك مازلت اتذكر تلك
الأيام الجميلة والبريئة واتذكر كذلك مسرحية «المعلمة كرستينا» رغم مرور سنوات
طويلة، ولكنها لم تمح استفادتي المسرحية وتعرفي على فن التمثيل الصامت... والمسرحية
تحكي عن طريق «البانتومايم» ان معلمة تدعى كرستينا تحاول ان تعلم طلبتها الذين لا
يتجاوز عددهم الستة على العلم والمعرفة ولكن عن طريق الصدق! فتدخل شقيقة طالبة إلى
محيط الطلبة وتبدأ تزين لهم مباهج الحياة الخارجية، وان الإنسان لابد وان يكون
مستقلا بذاته، وفي الختام تتواجه شقيقة الطالبة والمعلمة كرستينا وترى المعلمة كيف
أخطأت في حق نفسها والآخرين حينما حاولت اغواء الطلبة... فتندم شقيقة الطالبة وتحضن
المعلمة كرستينا أملا منها السماح وقبول الاعتذار! كم هي جميلة هذه المسرحية،
وياليت تعود بي السنوات واجلس على مقعدي وبقربي تلك الفتاة البلجيكية الجميلة إلا
ان الماضي لا يعود!في
أوروبا يحظى فن «البانتومايم» بالجماهيرية الواسعة والاهتمام البالغ من قبل
الفنانين والمهتمين كذلك... وهم لم يتطوروا به ويصلوا إلى ما وصلوا اليه إلا من
خلال فهمهم الحقيقي له ولتاريخه العريق... ثم المد النقدي والدراسات المستفيضة حوله
خلقت اجيالا مسرحية واعية وعارفة ومضطلعة بحقيقة دوره «كامارسو، وكينبس، وشابلن،
وسكيلتون» والعشرات الآخرين من الفنانين المبدعين، فالبانتومايم سلاح خطير لأي مبدع
يعرف كيف يوظفه ويوصله إلى المتلقي... والحياة لا تنتهي عند رئيس أو وزير أو أي شخص
آخر... الحياة مليئة بالمواضيع وازعم ان الاوروبيين وتحديداً الفرنسيين والايطاليين
اخذوا الشيء الجميل منها ووظفوه.... لتأتي انكلترا وتتسيد أوروبا والعالم اجمع به!
اما في الشرق فمازال فن البانتومايم غير مفهوم إلا لحفنة من المهتمين، والجمهور
الشرقي الحديث وعلى مختلف درجاته التعليمية والحياتية لا يتقبله لأنه فن ممل من
وجهة نظره ولأنه لم ينشأ على ثقافة مسرحية وأدبية تعرفه حقيقة الحياة... كما ان
وزارات الثقافة والتعليم في الدول العربية والاسلامية وفي العالم الثالث أجمع إلا
ما ندر في دولة أو دولتين لا يهتمون بهذا الفن العظيم.