ألوان: محسن الشيخ في الذكرى الخامسة لرحيله

توفيق التميمي:

 تمر علينا هذه الأيام ذكرى رحيل الفنان المبدع محسن الشيخ “ الذي لم يفاجأني رحيله المبكر..لمعرفتي بقدرته العجيبة على اختزان الألم والمعاناة وإحالتها الى فن الإيماء الجسدي الذي برع فيه وتميز عن غيره إبداعيا..

ولكن فجر هذا الرحيل في داخلي نزيف ذاكرة عمرها عشرين عاما.. عندما التقيت به طالبا في متوسطة الثورة في مطلع السبعينيات وكان آنذاك متميزا على أقرانه من الطلبة بولعه المبكرة بالكتاب والقراءة وعشقه الجنوني للمسرح المدرسي آنذاك وتذوقه الرفيع لروائع الموسيقى الكلاسيكية العالمية..ظهرت عليه علامات الموهبة المبكرة آنذاك عندما قدم على خشبة المسرح المدرسي بعضا من الأعمال المحلية والعربية وكان لا يخفي إعجابه الكبير بالممثل العالمي”تشارلي شابلن“ وكان يعجب أكثر في اقتران موهبته بخطورة القضايا التي عبرت عنها هذه الموهبة واقترابها من هموم الإنسان ومشاكله.ولذا فمنذ ذلك الوقت كان”تشارلي شابلن“ هو المثال الأول للفنان محسن الشيخ الذي أدرك منذ البداية أن امكاناته الفنية ومواهبه الجسدية وثقافته العالية كلها تشير الى انه سيصبح ذا شأن في هذا المجال الفني والمسرحي الذي لم يسلكه إلا القليل في تاريخ المسرح العراقي.ورغم أنا كنا نعمل كمجموعة مسرحية واحدة في المسرح المدرسي أتذكر من بينهم الآن فنانون عراقيون مبدعون وأدباء (ياسين إسماعيل، والفنان صباح البيضاني والفنان ناظم فالح والفنان كريم جثير والقاص محمد إسماعيل والشاعر كاظم اسكندر والمخرج طالب محمود السيد وآخرون).غير أن محسن الشيخ كان الأكثر من بين هؤلاء حرصا وعشقا للمسرح والتزاما بمواعيد التمارين المسرحية واذعانا لتعاليم المخرجين.وعندما تخرجنا من المتوسطة وتفرقنا في دروب الحياة ظل محسن الشيخ رغم ظروفه المادية الصعبة مواصلا مشواره الإبداعي الصعب ودخل معهد الفنون الجميلة رغم أجواء أسرته المحافظة وميولها الدينية.
وكنت وأنا أتابع ارتقاء محسن الشيخ سلم الإبداع عبر ما أنجزه من أعمال مسرحية هامة في مسرح الإيمائي الصامت”البانتومايم“ يملأني الزهو والسرور والاعتزاز لزميل من زملاء الطفولة والصبا شاطرني أحلامي الأولى ومغامرات القراءة المبكرة والولع المشترك بالمسرح كأداة متاحة للتعبير عن همومنا وآلامنا وقدم أعمالا رائعة مثل:”محاولة القبض على الصدفة“ وغيرها من الأعمال التي تقوم ثيمتها على موضوع”الوجود الإنساني“ وأعداء هذا الوجود الذي يحاولون سلبه من الإرادة ويثلمون كرامته ليجعلوه كائنا مقادا ضعيفا كان تمجيد الإنسان والاعتلاء بمكانته وادانة الاستبداد بكل أشكاله هي إحدى أهم القواسم المشتركة التي قدمها محسن الشيخ في قاعات العرض المسرحي في بغداد.
ولربما كان محسن من الموهبة والذكاء الى الدرجة التي جعل من هذا الفن التعبيري إحدى وسائله المشروعة في الاحتجاج على الاوضاع القائمة آنذاك مستغلا بلاهة وسذاجة الرقباء الذين لا يفقهون أسرار اللغة الإيمائية وحركات الجسد الصاخب.نال محسن الشيخ كل شيء محبة زملائه الفنانين والسجل المشرف للفنان الملتزم الذي لم ينحدر الى جوقة المهرجين والمداحين لكن لم ينل سوى اهمال وافكار المؤسسة الرسمية لمواهبه واقصائها وتهميشها..وكنت قد شعرت بالأسى عند قراءاتي لكتب المسرح الإيمائي للناقد علي مزاحم عباس الذي صدر مؤخرا من دائرة الشؤون الثقافية في سلسلة كتاب” الموسوعة الثقافية “ لأنه لم يذكر إنجازات وأعمال الفنان الراحل محسن الشيخ إلا عبر سطور قليلة في سياق البحث الذي كنت أتوقع أن يخصص لها فصلا متفردا بل كتابا مستقلا.. لخصوصية التجربة المسرحية لهذا الفنان وفرادتها في ظل وحشة طريق قل سالكوه.في العروض الأخيرة لأعمال”محسن الشيخ“التي شاهدتها في مهرجانالبانتومايم“ على قاعة الرشيد كنت ألمح بوادر النهاية على جسده الآخذ بالذبول وطال نضارته وشعرت بالقلق من انه يعاني من مرض خبيث سوف لا يمهله طويلا ورغم يقيني بان الشيخ“ كان يعلم كل ذلك ولكنه بإخلاصه المعهود وعشقه اللامحدود للمسرح كان لا يدخر وقتا او جهدا لتقديم أعماله التي كان يؤلفها ويخرجها ويؤديها بنفسه بما يعادل طاقة فريق مسرحي كامل وكان يوظف في هذه الأعمال خلفيته الثقافية الموسوعية وما تعلمه من الدرس المسرحي في معهد الفنون الجميلة وما تذوقه من روائع الموسيقى الكلاسيكية التي عشقها في المراحل الأولى من عمره القصير.حتى لحظة موته المباغت كان محسن لا ينفك من الشروع بعمل ما او التخطيط لعمل اخر..وكأنه في سباق خفي بين أحلامه العريضة وطموحاته التي ليس لها حدود وبين تلك الفسحة المتبينة من عمره المضني.ظلت الصورة الاخيرة المطبوعة في ذاكرتي عن هذا الفنان الرائع تلك الابتسامة الرائعة التي كان ينتصر بها على ما كان يعانيه من الداخل وما يشعر به من الاستياء من الأوضاع القائمة والأمل بتغييرها وتبديلها برؤية الفنان المرهف وحسه النبيل.

 

عن/جريدة الصباح