من ملامح المسرح العراقي
لماذا البانتومايم؟
عبد الخالق كيطان
من البداهة القول بأن فن المسرح يمثل المرآة الحقيقية البارزة لقراءة الواقع المجتمعي والسياسي والاقتصادي لشعب ما..هكذا كان المسرح منذ بواكيره الأولى في اليونان القديمة واستمر كاشفاً،في مراحل عمره الطويل،لنظم المجتمع المختلفة.. والمسرح في العراق لا يشذ عن هذه القاعدة أبداً،ولطالما كان دليلاً لقراءة الخارطة السياسية للبلد على سبيل المثال،فحين تنفس العراقيون بعضاً من نسيم التعددية في سبعينات القرن الماضي كان المسرح يحث خطاه بجد نحو صناعة عرض مسرحي متقدم فنياً وفي الوقت ذاته حامل لفكرة الحرية التي شغلت المثقفين العراقيين في تلك السنوات..والمثال يتكرر بصورة معكوسة في مسرح التسعينيات العراقي حيث الغلبة لمسرحيات الاستهلاكية التجارية(في تعبير دقيق عن واقع الحال في عراق اليوم حيث تصير التجارة)شطارة من أجل الحصول على لقمة العيش...
وفي سنوات التسعينات هذه،وما بعدها،كان المسرح في العراق يفرز العديد من الظواهر التي تصلح مقدمات لقراءة الواقع العراقي،ومن تلك الظواهر سيادة المسرحية الاستهلاكية التجارية(ومسرحية المونودراما) الشخصية الواحدة(ومسرح البكائيات والمناحة)ومسرحيات البانتومايم(المسرحيات الصامتة)والتي نحاول هنا التوقف عندها تحديداً.
لقد كانت المسرحية الصامتة حاضرة في المشهد المسرحي العراقي بدرجات متفاوتة بين موسم مسرحي وآخر،بل أن كبار الفنانين العراقيين قد اشتغلوا على المسرحية الصامتة في فترات متباعدة،صلاح القصب على سبيل المثال في مسرحيته(أحزان مهرج السيرك أواسط الثمانينات،فيما عرفت مجموعة صغيرة جداً من المسرحيين العراقيين بعنايتها بهذا النوع المسرحي الحديث،وعلى رأسهم الفنان عدنان نعمة والفنان الراحل محسن الشيخ وأكرم كامل وعصام علي..وقد هاجر الأول واتجه الثالث لمعترك الحياة في عراق جائع فيما تبع الرابع خطوات الأول ليعمل الآن مدرساً في أحد معاهد التمثيل في عمان..هذه المجموعة كانت أبرز نتاجاتها في ثمانينيات القرن الماضي،وتوقف نتاجها بالتدريج مع تفاقم الوضع العراقي بعد حرب الخليج الثانية..ومضت سنوات غابت فيها المسرحية الصامتة عن الحضور حتى عادت للظهور،وبقوة هذه المرة،من خلال مجموعة جديدة من الشباب المتعلم( طلبة معهد الفنون الجميلة في بغداد)، فكانت مسرحية (هاملت) برؤية بصرية صامتة للفنانة سندس علي خيون،المدرسة في المعهد،ثم انفرط عقد المجموعة التي عملت معها لتتشكل فرقة جديدة وفتية حملت عنواناً لافتاً هو: فرقة مردوخ،والمتكونة من الفنانين أنس عبد الصمد وياسر عبد الرزاق وعلي طالب وعلي حسن وبان جميل ومحمد عمر وانمار عبد الأمير وفائق شريف وطلعت السماوي،وقد قدم أعضاء هذه المجموعة عدداً من العروض الصامتة في دورات مهرجان بابل الدولي ثم عرضهم الصامت،الأشهر،(نار من السماء) والذي يعتمد الرقص التعبيري،والذي عرض في بغداد ثم ترشح ليمثل العراق في احتفال المسرح التجريبي في مهرجان القاهرة الأخير،وهذه هي المرة الأولى التي يمثل العراق فيها عرض صامت في مسابقة مسرحية كبرى،وخاصة أن منتجي هذا العرض هم من الشباب الذين لم يكن لهم ذاك الحضور المسرحي قبل هذا العرض.. ومسرحية( نار من السماء) حازت على الإعجاب في عرضها البغدادي وكذلك حين عرضها القاهري،والسبب في ذلك هو اعتمادها الخطاب الصامت،والراقص في آن للتعبير عن محنة العراق الآن من خلال ربط الواقع المعاصر بسجال تاريخي وميثولوجي يمر عبر مراحل مختلفة من تاريخ العراق وحضاراته القديمة.
وقد استطاعت هذه المجموعة أن تواصل حماسها في مسرح البانتومايم فكان أن قدمت مسرحيات أخرى في بغداد كان آخرها عرض بعنوان( الصمت كالبكاء) وقدم على صالة المركز الثقافي الفرنسي في بغداد قبل حرب تحرير العراق.
ينبني العرض الصامت على بنية حركية تلعب الدلالة فيها الجانب الأبرز من الإنتاج المشهدي،ولذلك تتفوق الصورة المسرحية في مسرحية البانتومايم على أي عنصر مسرحي آخر من أجل تعويض غياب عنصر الكلمة عن العرض،وتتشكل الصورة المسرحية هنا من خلال جسد الممثل،فالجسد هنا هو مصدر الكود (الشفرة) الأساس وتعاونه غالباً مجموعة بسيطة ومتقشفة من الإكسسوارات بالإضافة لذلك الحضور القوي واللافت للموسيقى،سواء أكانت موسيقى حية أو مؤلفة..وبسبب من غياب الكلمة،مصدر العلانية الأساس في العرض المسرحي،فإن حضور شفرة الجسد تبعد صاحبها عن فخاخ التأويل السلبي (السياسي)وبالتالي تتيح للاعب المسرحي المزيد من الحرية للتعبير عن أفكاره وهواجسه دون خوف من رقيب أو غيره..
وبسبب من قسوة الرقابة في المسرح العراقي،تلك الرقابة التي لم تفتح لأهل المسرح سوى أحد بابين أحلاهما مر: المسرح الاستهلاكي(التجاري) أو مسرح البكائيات (اللطميات ومناحات الحصار) فإن فرص العمل الجاد والتجريبي بدأت تضيق شيئاً فشيئاً وهذا ما دفع بعض(المغامرين)من الشباب خاصة إلى ولوج مداخل أخرى للعمل المسرحي،تمثلت تلك المداخل بنموذجين أصبح لهما حضورهما القوي في المشهد المسرحي العراقي،وهما: مسرحية المونودراما ومسرحية البانتومايم.
إن فن البانتومايم،وما يتداخل معه من فنون بصرية حركية،مثل الكيروغرافيا،هي فنون حديثة فعلاً بالنسبة للمشهد المسرحي العراقي،وكذلك للمسرح العربي والعالمي،على أن دخولها المشهد العراقي لم يكن لضرورات تجريبية بالكامل،كما ظهرت في فرنسا مثلاً،وإنما فرض وجودها ذلك الاحتقان السياسي الذي يمر به العراق منذ عقود والذي ضيق المجال إلى أبعد الحدود بوجه حرية التعبير فكان أن لجأ مبدعوه إلى انتهاج فنون تعتمد البناء السيميائي) الدلالي) متعدد المعنى للهروب من التأويلات المضادة التي تتسبب في أحيان كثيرة موت الإبداع.
اليوم وقد تحرر الفن والفنان العراقي من قائمة الممنوعات والعقد والمخاوف يتطلع محبوه إلى فن رصين وجمالي،تكون فيه الفنون الأدائية مرآة حقيقية لنهضة العنقاء العراقية من أوجاعها الدامية.