سينما ومسرح: جماليات نص البانتومايم .. (أيها الطائر.. مكانك الفضاء) أنموذجاً

أطياف رشيد

من بين كل الأنواع الأدبية التي تثير لدى القارئ،ولدي بشكل خاص،لذة الاكتشاف وخوض مغامرة التخيل،هو النص المسرحي لابتعاده عن السرد ولقابليته الفائقة في تحفيز المخيلة.فهناك فسحة،وبالحقيقة فسحة واسعة ليلعب الخيال دوره في إنتاج علامات وبناء تشكيل مواز يتأسس على ما يصدر من الحوار من علامات وإيحاءات وبعض ما يجود به المؤلف من إضافات هنا أو هناك.وإذا كان الحال كذلك مع نص يمتلك أداته في التوصيل/الحوار فكيف بنص صامت لا يوفر سوى لمحات،نص يقبض فيه الصمت على الزمن بشدة.النص المسرحي الصامت لا يتوفر في اغلب الأحيان ألا على رسم صوره تمهد لبنائها على خشبة المسرح.إنها مجموعة من العلامات التي تمكن المخرج،وبالتالي الممثل،من تجسيدها بالتعبير الجسدي بمصاحبة مفردات أخرى كالموسيقى والديكور والزي وأصوات أخرى غير الموسيقى في بعض الأحيان.ذلك كله يتشكل كنقاط دالة أو كإشارات مختصرة على الورق.فهل يمكن اعتبار هذا المخطط نصا أدبيا يمكن قراءته وبالتالي دراسته وفق المنظور الجمالي؟ ومنها عناصر الجمال تلك؟وفي النموذج الذي اخترناه وهو (أيها الطائر...مكانك الفضاء) لمحسن الشيخ*تأتي العلامات سلسة وتوفر قدرا كبيرا من التأمل

النص
.........
(أصوات طيور..ثم ينفرد صوت عصفور"لثوان"/..تكشف الإضاءة عن رجل متشح بوشاح اسود يجلس على دكة خشبية في متنزه/..يزداد صوت العصفور ارتفاعا وتفردا/الرجل يرفع رأسه تدريجيا ثم ينظر الى الأعلى/يكتشف الطائر/الرجل وجه خال من التعابير/لكن حين يقع نظره على العصفور تنفرج أساريره/..الرجل يداعب العصفور بنظراته الحزينة ويتبعه بنظرة هنا وهناك كلما اقترب العصفور من الأرض يطرده الرجل بعيدا ثم يفرح كثيرا لطيرانه في الفضاء/يزيح عن كتفه الوشاح الأسود/ويتابع بشغف العصفور/كل هذا وهو جالس على دكته العصفور يقترب من الأرض.الرجل يومئ له أن يبتعد،العصفور يقترب أكثر من الأرض،الرجل ينهره بشده العصفور يهبط على الأرض،سحابة من الحزن تلون وجه الرجل.. يرتدي وشاحه الأسود ويمضي حزينا..ظلام.)*

لقد بنى الشيخ ثلاث مستويات علامية :المستوى الصوتي_الذي مثله(أصوات طيور) (صوت العصفور منفردا)المستوى النفسي والعاطفي_رجل بوجه دون تعابير،تنفرج أساريره،يحزن،يفرح،يحزن،يحزن المستوى الحركي_يرفع رأسه،يزيح الوشاح،يومئ ينهر يرتدي الوشاح،يمضي.إن كل مستوى من هذه المستويات هو علامة أساسيه مهدت للعلامة التي بعدها بالظهور والانكشاف. فالمستوى الصوتي اظهر العلامة ألصوتيه ممهدة وكاشفه لما يتلوها (أضاءه) حيث الرجل جالس على الدكة،لتتفتح لنا العلامة ألنفسيه في المستوى الثاني والدالة على الوحدة والهم الذي يرزح تحته الرجل(الوشاح).هناك وحشه مؤلمه وضغط ما بل رغبة ما تجيش عميقا.مما حفز العلامة الحركية في المستوى الثالث للظهور حيث وصف للحركة وكشف عن (مغزاها العاطفي،خاصيتها ألمميزه والمقررة للدور) كما يعبر توما شفسكي .حيث الشعور بالفرح لطيران العصفور وانطلاقه تمثل في أوضح صوره في (يزيح الوشاح).إن هذه المستويات تكشف لنا عن واحدة من أهم العناصر الجمالية وهي الاختزال والتكثيف في رسم ألصوره وتصوير الفعل حيث (ان الدراما الصامتة(بوصفها نصا)ترتكز أساسا على وصف الفعل الدرامي)في أكثر إشكالها اختزالا.ويركز أيضا محسن الشيخ على مجموعة من المفردات من خلال تكرارها ك(الرجل،الأسود) فانه بالا مكان أن يذكر فقط يزيح يداعب يومئ فبعد الاضاءة صار واضحا وجوده المنفرد على ألخشبة/الورق وكذلك التركيز على مفردة الوشاح الأسود الذي تبين لنا لونه في البداية.التركيز هنا على إنسانية تطمح للحرية والانطلاق.ويضفي هذا التركيز تنويعا يزيد من جمالية النص وبذلك يتفوق نص البانتوميم في وصف ألصوره على الحوار في النص المسرحي من خلال رسم منظومة الفعل تمكننا من التوصل إلى مظهر علامي دينامي يشكل لنا تصورنا الجمالي التصوري أو التخيلي والمعرفي في آن.فان قدرة النص على إثارة الأسئلة عبر العلامات تمضي بنا من منطقة لأخرى ومن فتح لآخر عبر بوابات الصمت