التمثيل الصامت الحديث في فرنسا
عبد الله جواد:
في الثلث الأول من القرن العشرين المنصرم وفي فرنسا بالذات ظهر أسلوب جديد في التمثيل الصامت (المايم).وبالرغم من مقوماته الأساسية التي استمدها من جذور الفن الكلاسيكي القديم والمتعارف عليه منذ اقدم الحضارات التي سبقت الإغريق والرومان.
إن التمثيل الصامت كان معروفا لدى المصريين وسكان وادي الرافدين القدماء،إذ كان يمارس أثناء الطقوس الدينية.لكنه يختلف عنه كل الاختلاف،ولمعرفة تفاصيل هذا التيار الجديد لابد من إلقاء نظرة سريعة على التطورات التي طرأت عليه ـحسب الزمان والمكان الذي ازدهر فيه.من خصائص ممثل المايم انه يستطيع التعبير عن اعماق نفسه من خلال حركة اليدين وتعبير الوجه بالإضافة الى حركة الجسم دون الاستعانة بالحوار،لذا لابد له أن يمتاز بمواهب فذة من الصعب إيجادها إلا في النادر من الممثلين،فهو لا يكتفي بامتلاكه الحس العميق المرهف ولا بغنى أعماقه بل يتعداها الى ما هو أكثرـ عليه أن يمتلك الجسم الطيع المرن والذي يمتاز بالدقة كي يكون معبرا أكثر عن تلك المشاعر الغنية المستتر في أعماقه.ومن الملاحظ أن المايم ولوقت قريب كان يعتمد على البراعة الفردية،لم يرتكز على البناء العلمي المدروس والواضح ولا يستند في أثناء أدائه الى تكنيك له قواعده،لكن في أحسن الأحوال ـ يمكن القول ـ كان هناك نوع من الاهتمام لبلورة هذا الفن الذي كان يتفتح عن طريق الخبرة والتجارب المتوارثة من أب الى ابن.وعن طريق هذا الأسلوب أحرز تقدما،لكنه كان بطيئا.كانت العائلة التي تخصصت في مثل هذا اللون من التمثيل يتوارث بنوها هذا الفن ويتطور من خلال تعاقب أجيالها،لذا فقد اكتسبت وعبر الزمن خصائص ونضوجا الى الحد الذي أصبحت العائلة تعرف بواسطته.من هذه الظاهرة نشأ في فرنسا أول حد فاصل بين المايم التقليدي والمايم الجديد،لكن وبالرغم من التغيرات التي طرأت عليه بقيت أصوله مشدودة الى المايم الكلاسيكي الذي ـ كما هو معروف ـ ازدهر في أواخر الإمبراطورية الرومانية،وكذلك فيما يليها من فترة القرون الوسطى ثم عصر النهضة.ازدهر في ايطاليا،من خلال عروض مسرحية أطلق عليها آنذاك والى يومنا هذا تسمية:(كوميديا دي لارته) ـ تألق هذا اللون من المايم خلال عصر النهضة،متصفا برشاقة وسعة الحركة وجرأتها،نجده في كثير من العروض المسرحية على اختلاف أساليبها، فمثلا يمكن أن نجده في عروض المسرحيات التهريجية والمعروفة باسم (الفارس) أو يقدم على شكل مشاهد مضحكة بين فقرات عروض السيرك.يعتمد التمثيل الصامت ـ المايم ـ على ثلاث نقاط جوهرية وهي:حركة اليدين المرهفة الحس،والوجه المعبر،وأخيرا مرونة الجسم وقابلياته على التعبير،عن طريق هذه الأسس وفي كثير من الأحيان يكون للتمثيل الإيمائي من المعاني ما هو ابلغ بكثير مما تحمله الكلمة،التي مهما حاولت لن تبلغ التألق الذي يمكن أن يصل اليه التمثيل الصامت.استمر الحال على هذا المنوال دون أن يكون هناك أي تبويب أو نظريات محددة تنسق هذه الجهود وتأرشفها،ومع هذا فقد نشأ أول حد فاصل وبشكل واضح بين التمثيل التقليدي الصامت والتمثيل الصامت الحديث.في الأصل يرجع المايم ـ التمثيل الصامت ـ الفرنسي الحديث الى الدراسة التي كتبها (فرانسوا دل سارتو (1811-1871) Francois Del Sarto منطلقا من تحديد جسم الإنسان الى ثلاثة أقسام،وان حركة الجسم تصنف كل حسب موقعها،انه أعطى خصائص كل حركة من هذه الحركات،ومن جراء هذا التنظيم ومعرفة تفاصيل وخصائص كل حركة حسب موقعها ومدى قابليتها في التعبير،ومن هنا انبثقت مدرسة جديدة لها الفضل الكبير في تطور فن الرقص الاميركي الحديث وكذلك الرقص الانطباعي،واستنادا الى هذه المفاهيم الجديدة أسست مدرسة للرقص الأوروبي،حيث أنها أوجدت لغة وأسلوبا جديدين في التعبير.اخذ هذا اللون من المايم معنيين،وذلك فيما يخص الشكل الفني.الأول:هو الابتعاد عن الواقع الى ما هو خيالي.الثاني: بث مضمون أو روح الموضوع في هذا الشكل الفني ليصبحا وحدة متماسكة لا يمكن فصلهما عن بعض.النظام الذي اهتدى اليه ـ دل سارتو ـ يتضمن ثروة لا مثيل لها في الغنى،استفاد كثيرا من تجاربه ودراسته لعلم التشريح وعلم المتحجرات وغيرها من العلوم التي كان مولعا بدراستها.نقطة انطلاقه من الملاحظات التي يستقيها من الحياة،بعد دراسة وتخطيط مسبق لها،فكان يلاحظ المايم الأساسي في سلوك الإنسان أثناء حياته اليومية،فيقتنص أدق المظاهر في اللحظات المعينة التي يجد الإنسان نفسه مندفعا عفويا ـ بعيدا عن التكلف والرياء الاجتماعي أولا ـ الأطفال أثناء انغماسهم في اللعب. وثانيا ـ المرضى أثناء وجودهم في المستشفيات وهم تحت العلاج. ثالثا ـ مراقبة ودراسة الشخص حينما يفاجأ بخبر غير متوقع..ملاحظة وتسجيل ردود أفعاله التي تتفجر عنه دون قيد.واستنادا الى قاعدته هذه،فانه يقسم جسم الإنسان الى ثلاث مناطق:أولا: المنطقة العقلية وتنحصر بين الرأس والرقبة.ثانيا:المنطقة العاطفية فتكون مساحتها الجذع والذراعين.ثالثا: الجسدية وتنحصر فاعليتها في الساقين.لذا فأن أية حركة تستمد اسمها وصفتها من المنطقة التي تنطلق منها. وكذلك تقسم كل منطقة من هذه المناطق الثلاث الى ثلاثة أجزاء (يلتزم دل لسارتو دائما بمبدأ الثلاثة ـ فكل قسم لديه يقسم الى ثلاثة وكل واحد من هذه الثلاثة يقسم الى ثلاثة..وهكذا...) ويسمى كل جزء منها بنفس الاسم الذي هو جزء منه،وكل هذه المناطق تتأثر بثلاثة عوامل وهي:الفضاء المحيط بجسم الممثل...وجسم الممثل وأخيرا الدافع الداخلي المحرك لجميع الأحاسيس.وهناك ثلاثة أنواع من الحركات هي:الحركة القوية ويمكن الحصول عليها عن طريق التجارب المبنية على أساس إعطاء الجسم القوة العضلية المعبرة والحركة المبنية على أساس خلق التفاوتات اللونية للحركة التي تضفي معاني جمالية على العمل المسرحي... (التجريب هو الذي يكسب الجسم المرونة والاسترخاء).تنشيط الجهاز العاطفي لدى الممثل المختص بأداء المايم عن طريق التمرين والتجريب ليكون باستطاعته أن يصل الى أعلى مستوى، وحينئذ لا يقف أمامه أي عائق دون تحقيق كل ما يريده. بالإضافة الى كل ما سلف فان الانفعال المتدفق بالحياة وبشكل مركب يمكن أن يصل اليه الفنان عن طريق التجريب والمثابرة والصبر والدقة.المنظر الحقيقي لهذا الشكل الفني (المايم البدني) هو (اتيان ديكرو Etienn Decrou) ومساعدته الأولى (اليان كوبون Eliane Guyon) اللذان توصلا سوية الى نظريات ساهمت الى حد كبير في دعم هذا التيار الجديد وبلورته بشكل أصبح علما له أبعاده المحدودة والواضحة.وبموازاة مدرسة ديكرو نمت مدرسة جديدة في مفهوم المايم الحديث،لجاك كوبو،وكان أحسن من فهمها وطبقها:(جان داستا Jean Daste)كان الابتكار الصامت يحتل مساحة كبيرة في خطة جاك كوبو التعليمية،أما المواضيع التي كان يعتمدها بين الأسطورة والخيال والواقعية.حينما يضع الممثل قناعا على وجهه ويعتمد في أن يكون ـ هذا القناع ـ خاليا من أي تعبير،حينئذ يكون مضطرا لان يفجر طاقاته التعبيرية مستعينا بجسده كي يتخذ منه مختلف الأشكال.أما بالنسبة الى كوبو وهوراتسيو كوستا،فانهما استعانا بنظام المايم،كمادة تمهيدية لإعداد الممثل الشاب وجعله أهلا للولوج الى عالم المسرح الرحب.أي بمعنى انه لم يكن بالنسبة لهما فنا قائما بذاته.إلا أن الدروس التي خلفها كوبو، تعهدها كل من(جان داســــتا،وزوجته مــاريــا هيـــلين داســــتا)Jean & marie Helene Daste اللذين من الممكن اعتبارهما على رأس مدرسة أعطت صيغة جديدة لمفهوم المايم.انها تستند في بنائها على الابتكار الحر.ومن ثم اخضاع حصيلة العمل الى التعديل والانضاج وبالتالي ليتكامل العمل متخذا شكلا خاصا به.وبناء على هذه الطريقة في العمل اسس (جاك ليكوك Jacques Lecoq) مدرسة جديدة للمايم في العاصمة باريس.ومن اندماج هذين الاسلوبين:التكنيك الاكروباتيكي الذي يعود لـ ديكرو والابتكار الحر لـ (داستا) ـ نصل الى أسلوب جديد يمتاز بمرونته الدائمة للتجدد،وبمعنى آخر:إن جميع العناصر الأساسية التي تطور من خلالها المايم الفرنسي الحديث تأتي لتكون حصيلة في عمل الممثل الصامت.إن هذا الشكل الجديد من المايم فيه من الحيوية المتدفقة والجدة بحيث لا يمكن أن يتطرق اليه غبار الزمن،فيجعله مملا،وأصبح بامكان ممثل المايم أن يغرف بملء كفيه من معين لا ينضب ولهذا السبب نرى المؤسسات الفنية على اختلاف أنواعها تتلاقف مثل هذا الفن وتدخله في برامجها، نذكر على سبيل المثال المسارح الاستعراضية،والمسارح التي تجمع بين التمثيل الفكاهي والموسيقى الخفيفة وكذلك في المسارح التي تتخذ من الأدب الرفيع والصيغ الفنية،صفة دائمية لها لغرض التطوير والإبداع لأشكال فنية مختلفة وبخاصة في النوادي الثقافية الباريسية التي لها طابعها الخاص المميز،ويكفي أن نذكر بعض أسماء الفرق المسرحية التي تناولت هذا الفن من المايم الحديث والتي نالت حظا واسع الشهرة، منها: كرينيير هوسنو Grenier - Husseno لـ جاكو فابري Jacques Fabri وفريريه جاكو Freres Jacques لـ: جوليين وجيل Julien & Gille.... والى آخره...أما فيما يخص المكان الذي يقوم الممثل بأداء عمله من خلاله ـ فكل ما يحتاج من ديكور واكسسوار يجب أن يكون محددا وبشكل دقيق يتناسب وما يقدمه الفنان من مواضيع،لكن بالنسبة للعروض الكبيرة فان الديكور يجد حرية أكثر في استعمال مهمته،كذلك فيما يخص الموسيقى،فان التمثيل الصامت الحديث فيه المجال الواسع لاستخدامها بمختلف آلاتها وكذلك ينطبق هذا على الألحان والنوتات.فهناك المايم الصامت الذي لا يحتاج الى أية موسيقى أو المايم الذي يستخدم الموسيقى كفواصل معبرة بين كل حركة أو فقرة وما يليها،أو انها تتداخل في عمل الفنان كعنصر للتعبير.
عن الموسوعة الإيطالية لجميع العروض.
.............................................
هذه المقالة مأخوذة من موقع جريدة الصباح Wednesday, February 16