بواكير التجربة العراقية للسنوات 1919-1967

علي مزاحم عباس

 تمهيد:
أرجو أ
لا يخامر القاريء شك بان الكاتب وهو يتوغل في خفايا بعض أيامنا الخوالي نابشا ومنقبا عن بواكير فن التمثيل الصامت، يزعم لنفسه أيما زعم، بأنه سيكشف النقاب عن القارات المجهولة، بل كل ما ينشده أن يهمس في آذان البعض بان تاريخ هذا الفن لم يبدأ بهم وحدهم. فقد أفزعته مواقف هذا أو ذاك من مجمل تاريخنا المسرحي.. فتراهم يشيحون عنه وعن رواده البواسل بوجوههم، لا لشيء إلا لضآلة تجارب ذلك الرعيل وتفرقها وتباعدها وضعفها. ومن الجائز أن تقول إن شحة معلوماتنا عن تاريخنا احد أسباب الجهل به وتجاهله.
وقد هاله أيضا أن يسعى البعض لطي صفحات كتبها بالكد والتعب والصراع القاسي كتاب وفنانون شجعان نالوا شرف المبادرة وأحرزوا قص السبق وان لم يشملهم التقدير وينصفهم التقويم لكن جهودهم مهدت السبيل للسير على منوالهم والبنيان لا يشيد من السقف وباقة الزهر لا تتم بوردة..
ولعل هؤلاء الفنانين الذين يحسبون أنفسهم بلا جذور ولا يشك في حسن نياتهم- يوافقونني بان الحماسة والأماني الطيبة وحدهما غير كافيتين لخلق فن (ميم) أصيل فلابد من معرفة عميقة الغور بتاريخنا .. ومرة أخرى لا يزعم الكاتب بان هذه الصفحات الوجيزة هي كل التاريخ .. ففي الانتظار وعلى الطريق أشواط ومحطات ينبغي معرفتها وحسبي أن احفز وأثير فضول وأثير أسئلة عسى أن يقدم من وأكثر جلدا وأقوى مراسا على البحث عن الصفحات الكثيرة المجهولة واليتيمة!
المرحلة الأولى : 1919-1957

في مطلع عام 1919 ولما يمض عامان على احتلال الإنكليز عاصمة العراق. قدمت من انجلترا فرقة مسرحية للترفيه عن قوات الاحتلال وعرضت على مسرح مدرسة الصائغ ببغداد ثلاثا وعشرين مسرحية! منها « تشخيص بالإشارات بعنوان «مدينة الجنون» مع حركات ومشاهد هزلية. (27) وفتح للجمهور العراقي من كلا الجنسين باب الدخول، فأقبل ربما من باب الفضول البحت على مشاهدتها إقبالا شديدا. ويفهم من تعبير « تشخيص بالإشارات» انه يعني « التمثيل الصامت» وكما يبدو أن « التشخيص « اتخذ عنوانا واحدا وربما حول موضوع واحد أيضا ، واقترن بالحركات والمشاهد الهزلية من غير كلمات. كما يفهم من الخبر- وان كان ذلك خارج الموضوع- إن المسرحيات الأخرى عرضت بمناظر «مجسمة» مما لا عهد لمسرحنا بها وقتذاك. كما استخدمت فيها المصابيح الكهربائية في الإضاءة المسرحية مما لم يعرفه مسرحنا كذلك !- فكانت هذه وتلك مثار دهشة وانبهار المتفرجين والصحيفة التي أوردت الخبر بإعجاب مقصود!.
وعرف مسرحنا عام 1929 تجربة محلية هذه المرة وذلك حينما عرضت «جمعية التمثيل العربي» مسرحية «عائدة» الأوبرا الشهيرة لفيردي بعد قيام رئيس الجمعية و مخرج أعمالها محمد خالص الملا حمادي بإعدادها للمسرح. وقام عناية الله الخيالي ( 1911-1990)، احد شهود الحادثة وبطلها وراويها، بتقديم ارتجالية صامتة وساخرة تمثل شخصية ضابط إنكليزياً على هامش قصيدة لمحمد مهدي البصير ( 1895-1974) كان يغنيها الطالب ادهم اسماعيل، مطلعها:
قل لمن يخطب ليلى بزواج يزدريهـا رمت أمراً مستحيلا والسما من ترتقيها فأحست سلطات الاحتلال – ولا نعلم كيف؟ - بالمغزى السياسي المعادي الذي انطوت عليه اللوحة المرتجلة، فقامت بتطويق المسرح بغية القبض (28) على الممثلين الذين افلحوا في الإفلات عدا حمادي! ولا يعرف ما إذا كان الخيالي مجرد مقلد أو مبتكر للتشخيص؟ غير انه يستنتج أن تلك التجربة الإيمائية الساخرة والمرتجلة والفردية، كانت تنطوي على مغزى نبه الى خطورة فني التمثيل الصامت والصائت! ولم تنفرد العاصمة بمثل تلك التشخيصات! أو اللوحات الصامتة، فان «ثانوية الموصل للبنات». في محاولة لافتة للنظر، أقامت في 29 ك 2 ( يناير) عام 1939 حفلة تنكرية نظمتها « جمعية بنات الفن» التي يعد اسمها دليلا على بواكير الوعي القومي النسوي في الموصل الحدباء. وبعد كلمة الافتتاح « أعقبتها مسرحية صامتة كانت غاية في الإبداع بموضوعها وتمثيلها» ! ومن المؤسف ألا تكلف المجلة التي نشرت الخبر نفسها مشقة الإفصاح عن مكمن « الإبداع» أو محتوى « الموضوع» ! فأضاعت علينا فرصة ثمينة للإطلاع على تفصيلات تلك المسرحية الصامتة! وفي سنة 1957م اشترك لفيف من العراقيين المناهضين للحكم الملكي في مهرجان دولي للشباب في عمل ألفه لهم يوسف العاني بعنوان «جحا والحمامة» (29) عبارة عن عمل صامت قدمه مع زملائه على احد مسارح موسكو. وبذلك وجدوا حلا ناجعا للتعبير عن قضية سياسية تخطوا به حاجز اللغة! المرحلة الثانية : 58-67 شهدت مدينة الديوانية عام 1958 أول عمل للميم قدمه – كما روى لي ذلك منعم سعيد – لأحد الهواة كان يعرف باسم الجابي لأنه يعمل قاطع تذاكر لإحدى دور السينما وقتذاك. لعله خاض تجربته تقليدا لأفلام السينما الصامتة! وبعد عشرة أعوام تشهد المدينة تجربة أخرى على يدي المدرس رياض الشبلي.. استغرق عرضها عشر دقائق. وفي عام 1962 دعت عمادة معهد الفنون الجميلة بعضا من طلابها كسالم الزيدي وكاظم فارس وسامي السراج وآخرين غيرهم للاشتراك في مسرحية يحتفى بها بإحدى المناسبات. والمسرحية صامتة هي « قصة شعب» (30) على شكل لوحات تجمعها وحدة الموضوع. قام بتأليها وإخراجها احد أساتذة المعهد الفنان الراحل جعفر علي ( 1930-1998) كانت تجربة مثيرة حقا ورائدة تماما وجديدة على المعهد. ولما كانت التجربة غريبة على مناهجه وطلابه، فقد عمد جعفر علي الى وضع برنامج نظري وعملي استعدادا لخوض أول تجربة في التمثيل الصامت، اشتمل على تمارين في الرياضة المسرحية وفي التمثيل الإيمائي.
والمسرحية سياسية تندد بطغيان العهد الملكي ضد شعب كان يكافح من اجل حريته واستقلاله وكرامته، وتم بثها تلفزيونيا بصورة حية ووقتها لم يكن قد عرف التلفزيون التسجيل المسبق وهكذا شاهد المتفرجون هذا الضرب من الفن.. ويكون جعفر على قد سجل لنفسه فضل الريادة في تقديم عمل فريد في محتواه وأسلوبه ولم يتعرف الطلاب قبل ذلك إلا على درس في الابتكار والصامت بذرة فن التمثيل الصامت.
وفي عام 1963 اطلعت بغداد على عمل جديد لفرقة شكلت حديثا هي «فرقة الحرس القومي» يتألف من مشاهد صامتة سياسية المحتوى كانت تعبر عما كان يتلقاه السجناء السياسيون على أيدي الجلادين من صنوف التعذيب. وقام بتجسيدها وتأليفها كامل القيسي (1929-1985) واشترك معه سامي السراج وجودت العزاوي وموسى الخالصي وعز الدين طابو ومحمد وهيب البصري وكامل جبوري وآخرون غيرهم. وقام عبد المرسل الزيدي بإخراجها يوم كان طالبا في المعهد. (31)
لعل اشتراك السراج في هذا العمل وفي عمل جعفر علي قد أوحيا له وشجعها لخوض تجربة تقديم مسرحية « حلاق اشبيلية» لبومارشيه كأطروحة تخرج عام 1965. بطريقة التمثيل الصامت لم يسبق إليها طالب آخر. قام السراج بتقديم أطروحته على مسرح دائري نصبه في حديقة المعهد، وحدد للوصول اليه أربعة ممرات اجلس المشاهدين حولها. وقام بتحريك الممثلين كحركة عقارب الساعة ليتيح مجالا لرؤية ملائمة. واستخدم في إضاءة منصة التمثيل مصباحا كبير غمر المنصة وكشف عن حدودها. وقد اختار السراج الموسيقى والمؤثرات بنفسه واستغرق العرض الذي قدم في 14 مايس (مايو) ثلاثة أرباع الساعة. (32) وهي مدة طويلة. ملامح التجربة في بواكيرها: لا ريب أن أسماء العروض التي سلف ذكرها لا تمثل كل حيثيات التجربة للسنوات 1919-1967، فمن غير المعقول أن تتقدم إحدى ثانويات البنات عام 1939 وفي مدينة مثل الموصل، بأول عرض صامت في حين تشير أقدم الوثائق والمعلومات أن محافظة نينوى عرفت فن المسرح منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر فكان يفترض فيها أن تكون سباقة في الريادة. كما انه من غير المنطقي أن تختفي التجربة عن الظهور ما بين عامي 1939 و 1957 لتظهر عام 1958 في الديوانية وليس في أي من مراكز المحافظات وخصوصا مدينة البصرة إحدى الحواضر التي عرفت المسرح بعد الموصل وبغداد كما تشير المعلومات المتوافرة.. ولا تفسر هذه الظاهرة إلا بنقص المعلومات، فحتى الآن لم تمسح المصادر كافة ولم توثق أو تفهرس وهي وظيفة كان ينبغي أن يضطلع بها فن (المعلومات) وفن (المكتبات) ! ولا يقع في الحسبان أن إثارة أمثال هذه الشكوك يراد بها تثبيط العزائم، وإنما تحفيز الباحثين لتقصي جذور حركتنا المسرحية ومنها فن الميم، وإثارة الفنانين الرواد وبعضهم لم تتطرق الدراسة الى إسهاماتهم ولا انتبهت إليها الدوريات في حينه!
ومما يلاحظ أن الكثير من المحاولات التي عرفت خلال هذه الفترة ذات موضوعات سياسية قدمت في المناسبات لأيام قليلة وفي أماكن محدودة جريا على السنة التي اختطها المسرح وقتذاك. وهي تتوزع بين المسرحية المقدمة على شكل لوحات او ذات موضوع واحد. وتغلب عليها سمة التقليد ومحاكاة الواقع وبمصاحبة الموسيقى والمؤثرات الصوتية.. وهي في احد أوجهها مقلدة او متأثرة بالسينما الصامتة. كما يلاحظ انتقاد المتخصص بهذا الفن.. فكان للاجتهاد الشخصي الكأس المعلى وان غالبية العروض ولدت في رحاب معهد الفنون الجميلة وعلى أيدي طلابه.. وقد كان اتصال مسرحنا ومسرحيينا بالعالم الخارجي و المسرح العالمي باهتا. ولم يحدث الانفتاح إلا بعد عام 1958!
التجربة في طورها الجديد للسنوات 68-98 يبدو لي أن تحت السطح الظاهر للحركة المسرحية تمور حركة رديفة ينهض بجزء منها الشباب الطامح وعدتهم طاقات جياشة ومواهب لامعة. وغالبيتهم من خريجي المعاهد الفنية الأكاديمية او من طلبتها . تملؤهم الحماسة وتستبد بهم الرغبة وتحركهم الجرأة على الاقتحام وروح المبادرة لانتزاع فرصة العمر. وتنهض بجزء آخر المنظمات الجماهيرية والشعبية والمؤسسات الرسمية في سعيها لاجتذاب الشباب الى برامجها والانخراط في صفوفها. ورغم المصاعب التي تعترض الشباب وليس اقلها الافتقار الى مثال يركن الى مصداقيته او دراسات شاملة وعلمية تضع العلامات على الطريق لئلا تتكرر الأخطاء ويمتد زمن المصاعب، بل تتعقد المشكلات مما يخلف آثارا سلبية يتيه في خضمها الشبان. ومن ناحية أخرى تنامت معاناتهم لقلة الثقافة الميمية وغياب المصادر النظرية والعملية(التقنية،التدريب).والادهى من ذلك يحيط بجهودهم سوء الفهم وعدم الجدية.. فلا غرو أن يظهر من يستسهل أمر هذا الفن الصعب او يستصغر شأنه او يسترخص ثمنه بالرغم مما قطعه المجتمع والفن في بلدنا من تقدم! أما القلة التي اطلعت على نماذجه الأجنبية فيخشى على بعضهم خطورة الفن الوافد، خصوصا أولئك الذين لم يتحصنوا بالوعي ويتسلحوا بالإدراك فتعشى اصارهم وتتشوش بصيرتهم فلا يصدرون في أعمالهم من منطلق نقدي ومنظور وطني او قومي.. وليس في هذه المخاوف وصاية او وعظ.. فان بعض اعمال الشباب اصطبغت بروح التقليد والمحاكاة.. في حين يفترض فيها الفرادة والاصالة واستقلال الشخصية! و بالرغم من كل شيء فان لهؤلاء الشباب شرف المحاولة وشرف المبادرة فحري بالنقد والنقاد النظر الى جهودهم وإنجازاتهم نظرة غير متشددة والا أصيبوا بالإحباط واليأس وهم يرون خطر التقويم ولقد قرعوا باب الفن بقوة قرع مكدف لبوابة مكبث فعلى النقاد ألا يصفقوا الباب بوجوه الفنانين كما صفقت نورا الباب.. وأفضل ما ينبغي ان ينتهجه ان يقف موقفا متسامحا بين القرعتين والبابين!.. وحري بنا كذلك ان نذكر بالتقدير جهود فنانين أغفلت ولا يقلل من اهميتها او ينقص قيمتها، فنكتفي بايراد سريع لأسمائهم. من هؤلاء فوزية الشندي وناصر الناصر وأكرم كامل وسعد عريبي وخالد أيما وسهيل نجم وجمعة زغير وآخرين غيرهم ظلوا جنودا مجهولين او تحت ظلال فن صعب.. قدموا أعمالهم بصورة منفردة او من آخرين، ومرتكزين على سيناريو معد سلفا أصيل التأليف او مقتبس من مصادر أدبية.. او قدموها ارتجالا حيث ينحت الجسد الصورة ويرسمها الخيال و يصقلها التطوير..ومستثمرين عناصر التجسيد المسرحي المادية منها والمجردة.. من مناظر او ملابس عادية او لاصقة.. بالماكياج او بدونه .. مع موسيقى منتخبة وإضاءة غامرة او معبرة.. وغيرها من الوسائل التي لا تخطر على بال . مقدمين اياها على خشبة مسرح مقفل او في الهواء الطلق.. في أماكن تقليدية او غير مألوفة.. وما برحوا يفاجئون الوسط المثقف والمسرحي بمزيد من المغامرات! ولا يثنيهم تجاهل او لا مبالاة يبديهما هذا او ذاك ! فهم لا يجيدون لعبة الاعلام ولا يحسنون فن العلاقات! أتراهم واهمين او متعففين؟ لعلهم- وهذا رجم بالغيب- يفضلون ان يكونوا مجهولين من ان تسلط عليهم الأضواء فتبين نواقصهم.. وبعضهم يؤثر ان يكون ضحية او مغبونا من ان يتوسل بالغير لتقديم نفسه. أليسوا هم شباب؟
ورغم كل ما يقال او يتردد عن حجم وتأثير المثبطات والاحباطات والسوءات فان التجربة في طورها الجديد قطعت دروبا سوية تارة و متعثرة تارة أخرى.. وهي تشجعنا على ان نجد فيها ملامح خاصة وسمتها بميسمها وأكسبتها صفات متميزة استقرت او في طريقها للاستقرار والنضج.. ومهما يكن وسواء اتفقنا او لم نتفق فلا يسعنا إلا الفخر بانجازات الشباب وشد ازرهم بل ونغبطهم على ما فعلوه واجترحوه.