البانتومايم بذرة المسرح على الارض
منعم سعيد
التمثيل الإيمائي (Pantomime)
هو إظهار المشاعر على شكل حركات أو انعكاسات للحس عوضا عن الكلمات.انه قريب الى
النفس البشرية من كل محاولات التعبير الصوتي ، وهو فن يستطيع التعامل بدقة مع
الطبيعة بكل عناصرها ومع البشر أيضا-كمتلقي-وبواسطته(أي التمثيل الصامت)يمكن
التعبير عن أمور غير مرئية لأنه يتعامل مع الذات الإنسانية بأدق التفاصيل التي تصل
الى أكثر من الهواجس أحيانا أو قد يصل الى مفاتيح السحر والاستلاب الذهني ومن خلال
هذا الفن الذي أطلق عليه في كثير من الأحيان تسمية(فن التكوين الصامت(تجد
أن الممثل يستطيع ان يكون الأشياء من فراغ أو فضاء المسرح ويضع لها ثقلا ووزنا
يتعامل معه في ذهن المتلقي وليس في حركاته فحسب..بل يتعدى ذلك في إنشاء زمن للتعامل
مع هذه التعبيرات وهذا الزمن الإيقاعي المحسوس في نبض المتفرج وسرعة دورته
الدموية.والتي تعمل كرقاص ساعة..يكونها ذلك الفنان المسرحي لزمن الفعل الذي يقوم
بأدائه دون الحاجة الى استخدام (الإكسسوارات) أو الأشياء كمادة ملموسة لان الممثل
الصامت(The
mime)
مثل النحات تماما،لكنه لا يستعمل الأزميل والمطارق والشفرات وحتى الحجر،بل يستخدم
يديه أو بقية جسده ليكون الأشياء والأفعال ويبني بها الحدث الدرامي الذي يريد
إظهاره،وبكلمة أخرى أن فن التمثيل الصامت قادر على ترجمة الأحاسيس البشرية بدقة
وصدق وبتأثير مباشر في النفس والروح الإنسانية في حين ما تزال اللغة المنطوقة غير
كافية للتعبير بشكل نقي مبسط يترجم مكنونات البشر.فكلمة(حب) مجردة لا تصل الى ذهن
المتلقي ما لم نعيشها او نطلع عليها..ثم ما نوع هذا(الحب)وفي أي نفس،او أي روح..كل
ذلك يستطيع الممثل الصامت احتوائه بتعبير بوجهه وروحه وبلا حروف تختلف من بلد الى
آخر..انه يستطيع اختصار كل تلك اللغات بلحظة تعبير لا تتجاوز بضع ثوان،فلغة الكلمات
ما تزال عاجزة عن ترجمة مكنونات البشر،بل في كثير من الأحيان تصبح هذه اللغة بداية
خلاف مقيت بسبب سوء الفهم في تحليل المعنى لتلك الكلمات المحددة بالحروف والمكبلة
بالاصطلاحات بين السامع والمتحدث،هذا برغم كل التطورات والتصاريف التي توصل اليها
علم اللغة من قواعد وقوانين والتي أصبحت فيما بعد جزء من جملة تعقيدات وإطارات
وتقنيات جعلت من الكلمة حبيسة لها.
لو تسائلنا كيف يمكن ان يتأمل الإنسان القديم - وهذه اللغة ما زالت في بداية أو قبل
تكوينها - والرد على هذا التساؤل يحيلنا الى ان الإنسان
آن
ذاك قد اضطر الى استخدام أسلوب جديد من ابتداعه،ذلك الأسلوب الذي كان يساعد على
التنفيس عن مشاعره في اصدق ما يتمكن ان يعبر عنه من حالات وأحداث - بواسطة الحركة و
الفعل التجسيدي فكان عندما يسجل بطولة ما في صيد حيوان متوحش - على سبيل المثال -
فلا بد ان يكون بحاجة لنقل تجربته الى أفراد عائلته أو قبيلته لكي يستفيدوا من هذه
التجربة وليتعلموا منها أصول وفنون الصيد،هذا إضافة الى هاجس(الأنا)الذي كان وما
زال متأصلا في النفس البشرية بأشكاله المتعددة من فخر وبطولة وشهامة..الخ،فكان يمثل
تجربته وبأدق تفصيل-غير خال من التنميق والجمال والمبالغة-لكي يعجب الآخرون بصفاته
وبطولته وهم يتجمعون من حوله يتحمسون ويتفاعلون وينحازون لأفعاله الجريئة والذكية
ويترقبونها على محيط دائرة من الأرض والتي يوهم بها الممثل متفرجيه بأنها مكان
الحدث الذي جرى بمحاكاته لهذا الحدث أمامهم،وربما يستعين بأحد أو بعض أصحابه
ليكونوا مساعدين له في تمثيل وحش أو أي شيء آخر قد يحتاج اليه لتوضيح،الفعل الذي
يحاكيه.
ومن هذا نلاحظ أن المسرح نشأ - بدون قصد - على مساحة محددة من الأرض وممثل يروي
الأحداث(لفعل ماضي)بحركاته التجسيدية المفصلة والمبالغ بها أحيانا وجمهور من
المشاهدين.
منذ ذلك الحين غرست أول بذره للمسرح على الأرض وكان بلا كلمات، ببساطة تعلق بالروح حتى غدى مكانا مقدسا لطقوس تلك الروح بأصدق تعبير يمثل اصدق وأدق الهواجس خاليا من التعقيدات التي اكتسبها فيما بعد من قوانين الحضارة اللاحقة والتي ما انفكت تكبل كل شيء بإطار محدد المعالم أجوف الحدود والتي استغلت لهاث الإنسان لتحوره الى حرف ثم الى كلمة تناقلها البشر كل على هواه ليجعل منها ومن غيرها ادخل عليها وجهات نظره وتوقعاته وتقنياته لتكون مختلفة عن غيرها من اللغات الأخرى لتحفظ سر ما يمكنه عن غيره حتى غدت لا تستسيغ كلمة(حب)بلغتين أو بين شخصين على الأقل تلك العلاقة.
إن ما أردت القول بهذا المقدمة لا إنكارا للغة بل توضيح لمنشأ وجذور فن التمثيل الصامت باعتاره فن ذو أصالة وصدق،وانوه الى انه ليس بديلا عن (المسرح الحواري)بل هو فن من فنون المسرح العديدة كما ان الرسم من (الفنون التشكيلية) فالرسم ليس بديلا عن فنون النحت والسيراميك والكرافيك...الخ،فان فن التمثيل الصامت أو المسرح الصامت ليس بديلا عن المسرح الحواري أو المسرح الغنائي أو مسرح البالية...
كان التمثيل الصامت هو الطابع الذي اعتمد عليه فن المسرح في عروضه بعد أن وجد الإنسان أول طريق الى المسرح وتطورت أساليب العرض البسيط مع تطور تعقيدات الحياة حتى أصبح هنالك أماكن محددة تقام فيها الاحتفالات بالمناسبات الدينية و الموسمية وانتشر هذا الفن مع تنقل القبائل واحتكاك الحضارات بعضها ببعض - من مكان لآخر - وقد لاحظ الباحثون في علم الآثار ان الرسوم التي وجدت عل جدران الكهوف والبنايات في مصر والعراق وجنوب فرنسا وشمال اسبانيا،كلها تشير الى وجود نسق مكرر في كل الحضارات القديمة لأنها تعتمد على شكل واحد من العروض الدينية والقبلية تقريبا.
اذن هكذا ابتدأ المسرح - بالصمت - فحالما خلق الإنسان أحس برغبة في التعبير تلقائيا بواسطة مجموعة من الحركات والتعبير بايمائة الجسد..أنه فن يعود الأغوار تلك السنين العتيقة من حياة الإنسان ولقد كانت بداية نضوجه كفن له أسسه ومبادئه وأصوله عند اليونان القدماء(الإغريق)حيث وجدت الميمودراما * جمهورها الغفير فجاء نشاطها واضحا وأصبح لها كتاب معروفين أمثال (تايوكريت)والذي كان معروفا آن ذاك.وعن تقنية وضبط قواعد هذا الفن ومبادئه في زمن الفيلسوف اليوناني(ديوقراط)في القرن الخامس قبل الميلاد حيث كتب في مذكراته:(أنه ذات يوم وهو يشهد عرضا مسرحيا صامتا سخر من ذلك العرض لأنه عزا كل المؤثرات الى الآلات الموسيقية والأصوات المعبرة عن الأشياء_أي المؤثرات الصوتية-والديكور في حضرة ممثل تخصص في هذا الفن..فرد عليه الممثل الصامت قائلا :-أنظر إلي وأنا أمثل بمفردي بمعزل عن جميع المؤثرات وبعد ذلك قل عن فني ما تشاء،فصمت المزمار ومثل الممثل الإيمائي،فصاح الفيلسوف وقد تملكه الإعجاب:-(أنا لا أراك فحسب بل أسمعك أيضا تحدثني بيديك..)،كان ذلك اعترافا قد انتزعه فنان التمثيل الصامت عن لسان الفيلسوف(ديموقراط) ببراعته وإمكانيته في اتقان ودراية هذا الفنان لفنه واحتوائه للأصول التقنية التمثيلية بشكل واف جعلت منه ممثلا بارعا وقادرا على ان يسحر مشاهديه.وذلك بالطبع لم يأت من شيء،بل هي أسس مدروسة وقوانين قد جد واجتهد فناننا هذا حتى تمكن من ضبطها حد الدهشة التي بانت على الفيلسوف..فكيف إذن مع المتلقي البسيط الذي لم يشأ أن يتدخل في حرفياته كممثل.
* الميمودراما . . اصطلاح اخذ من كلمتي (mime)
والتي تعني الممثل الصامت و (Drama)
و التي تعني الفعل المسرحي .
منعم سعيد
28-06-2007, 10:48
أن من الأرجح-ومنذ زمن بعيد-أن يكون لهذا الفن مدارسه الخاصة ورواده الذين يتتلمذ على أيديهم ممثلو هذا الفن،لأنه فـن صعب المنال على الممثل ولا يمكن ان يكون ارتجاليا بعد كل ما عرفناه من دقة عروضه وقدرة ممثليه في إظهار تقنياته التي لايستهان بها،وان من الواضح،قد استطاع هؤلاء الممثلون من الوصول الى التجسيد(التكوين على المسرح بواسطة الحركة فقط) بواسطة أجسادهم بعيدا عن الأدوات الأخرى التي يستخدمها ممثلو المسرحيات الحوارية اليوم من إكسسوارات كثيرة وأزياء فخمة وديكورات واسعة تملاْ خشبة المسرح واجهزة صوت وإضاءة..الخ من عدد وأدوات وأجهزة ما عـاد للمسرح ان يتخلص منها بل من الصعب تقديم عروضه بدونها والتي أصبحت عائقا بين المتفرج وممثليه إنما هي أدوات يستخدمها المخرجون ضنا منهم أنهم بذلك يستطيعون الوصول الى ذهن المتلقي بأسهل ما يمكن من الوصول..ولسنا هنا بصدد هذا الموضوع فله مبحث آخر - بقدر ما نحاول الوصول بالقارئ الى بساطة أدوات من التمثيل الصامت رغم صعوبة أدائه على الممثل وبمعنى انه فن ممثل وليس فن تقنيات (تكنلوجية)ولم نجد مثله فتنة وجاذبية ومثار للجدل والإعجاب الذي يفوق الحد لممثلين يتميزون بالكفاءة والمقدرة منذ عهود موغلة بالـقدم وقبل ظهور الحوار في المسرح.
ومن الشواهد للسجل التاريخي لهذا الفن تم العثور في عام 1890 على لفة من اوراق البردي تحتوي على مخطوطات لثلاث عشر مسرحية (بانتومايم) كتبها(هيرونداس) الذي عاش في الإسكندرية حوالي عام ( 270 )ق. م،وغير هذا فلقد كانت الحافظة لهذا الفن هي ذكريات المشاهدين..كما ان التأثير في التمثيل الصامت (البانتومايم)مسألة ذاتية بحتة فنحن نعتبره عظيما إذا ما أحدث تأثيرا عظيما في المتلقي.فتقول إحدى الحكايات القديمة ان(ليفيوس اندرونيكوس)استأجر بعد إصابته بالخرس بعد عام (240)ق.م ممثلا كي يلقي قصائده بالنيابة عنه فيما يواصل هو أداء الجانب الإيمائي متأثر بفن التمثيل الصامت في بلده (اليونان)حيث كان فنا قائما بذاته والذي أصبح فيما بعد البانتومايم اليوناني ذو أثر بقوة فاعلية عروضه وممثليه ذو تأثير على(البانتومايم الروماني)فقد استطاع تحقيق نجاح كبير،واتساع واضح على مستوى تعدد أماكن عروضه وكثرتها وقوة الأداء لممثليه.ومما يشار اليه من أسماء مشهورة والتي ما زالت باقية تذكر حتى يومنا هذا أمثال(بيلادس)ذلك الممثل الذي غدا علما من أعلام المسرح الروماني ومعلما بارعا في اقتناص تقنيات ممثل البانتومايم اليوناني ونقلها الى عصره مزاولا فنه ببراعة تذهل متفرجيه من العامة أو النخبة على حد سواء.ان فــن البانتومايم عند الرومان اتخذ أشكالا متعددة لطريقة العرض..إذ انه لم يقتصر عروضه على مسرح المعبد كما كان عند اليونان بل تخطى ذلك الى عروض خارج ذلك المكان منطلقا الى الصالات والساحات العامة.ويمكن تقسيم أشكال عرض البانتومايم الى شكلين أو قسمين:الأول يسمى(بانتومايم البيوت) الذي كان مكرسا للعروض التي تجري في صالات بيوت الأمراء والصالات الخاصة بالمسرح وقد كان جمهوره من الطبقة الخاصة من نبلاء وأمراء وحاشية القصر والذين كانوا بدورهم يدعون الممثل وفرقته ويلتزمون إنتاج عروضهم ومكافأة الممثلين. ولقد كانت هذه العروض غير خالية من التمحيك والتعظيم المغلف بالسخرية التي تؤدي بالممثل -أحيانا - الى رميه في أقفاص الوحوش.أو عروض أخرى جادة.والقسم الثاني الذي يسمى بانتومايم الشوارع والذي كان مكرسا لعروض التمثيل الصامت في الأماكن العامة والساحات والشوارع في المدن لعامة الناس من المتفرجين،وكان ذو أسلوب مختلف عن الأسلوب الذي تعرض به مسرحيات(بانتومايم البيوت)حيث ان الطابع الكرنفالي في هذه العروض هو الطاغي على الأسلوب التمثيلي بشكل عام حيث الكوميديا التهويل في الحركة والتعبير الجسدي والموضوع الشعبي الساخر الذي تتناوله تلك العروض وان الجمهور كذلك مختلفا عن جمهور(بانتومايم البيوت) والذي كان جمهوره خاصا -كما ذكرنا -أما(بانتومايم الشوارع) فكان جمهوره من العامة وطبقات الشعب المختلفة أما القسم الثالث والذي جاء كمرحلة متطورة لما سبقه من هذه العروض عند الرومان والذي فرض طابعه على ملعب(البانتومايم الروماني) حيث برز بعد تلك المرحلة..واتخذ شكله النهائي في تلك الفترة من القرن الثاني والرابع،إذ انه واصل نشاطه بصمت دؤوب ونجاح فقد كانت تلك العروض المأساوية (Trajedy Pantomime) أسلوبا جديدا يعرض في بلاط الإمبراطور أو في أسلوب (بانتومايم البيوت)الذي تحدثنا عنه.فقد أصبح العرض الكوميدي يكاد يكون معدوما بين تلك العروض التي اتخذت شكل عروض الصالات الى الجمهور النخبة من النبلاء والأمراء،بينما بقي استمرار عروض(بانتومايم الشوارع)يقدم عروضه الكوميدية والتي أطلق عليها (Mimus) فيما بعد والتي اتخذت لها أصولا وقواعد أكثر تطورا من ذي قبل لتظهر أمام جمهور اكبر خارج القصور والصالات وكانت تلك المهازل الكوميدية تختلط بذكريات المهازل الاتيلية والمهازل الإغريقية الأصيلة وقد كانت تلك العروض متنوعة بطابعها والتي أحيانا تتخذ شكل ملهاة الضرب والتعثر(Knuck and tumbel) أي المقالب،وأحيانا تعرض مسرحيات الملهات المحزنة وكانت لكل شكل من اشكال هذه العروض فرقها المتميزة عن غيرها في أساليب أدائها وعروضها وحتى طرق تقديمها للعروض والموضوعات المسرحية التي بالتالي قد استطاعت أن تجعل لكل نوع من تلك العروض جمهورها وروادها،حيث انتشرت الفرق المسرحية الصامتة والتي كانت في بعض الأحيان تتجاوز الست ممثلين من المتجولين والمسليين وأحيانا تتطلب بعض العروض فرقا يبلغ حجمها حجم الفرق اللازمة في ملهاة حديثة.وفيما بعد سقطت روما أمام الغزو في بداية القرن الخامس،وتغيرت الأحوال جميعا إلا التمثيل الصامت فقد كان عنيدا في استمراره وكان الممثلون في أداء هذا الفن يكثرون من عروضهم في طول الإمبراطورية وعرضها،ولابد أنهم قد لقوا أياما سوداء في تلك الظروف الجديدة،فلم يكن القوط ولا الوندال ولا الهوت من الأقوام الغازية على استعداد لتقدير هذه الجهود المسرحية،هذا إضافة الى غضب الكنيسة من الطريقة التي وضعت بها طقوسها موضع السخرية من على المسرح بشكل عام،غير انه يبدو أن هؤلاء الممثلون واصلوا عملهم الصامت حتى في عصور الظلام.
هذا
ولم يكن فن التمثيل الصامت عند الإغريق والرومان فقط أو في مكان واحد من العالم فقد
عرف عند الصينيين
والفراعنة والسومريين القدماء وفي كثير من الثقافات القديمة،ويعتبر من أفضل الفنون
عند الشعوب الموغلة في القدم فلقد كان عند الفراعنة آلهة برأس ضفدع يطلق عليه اسم
آلهة الضحك كان الفراعنة يقدمون له مهرجانات تهريجية تتخللها عروض صامتة تتميز
بالطابع الهزلي،ويقول (اوستاندر ميريل)في كتابه تاريخ الملهاة :-(انه قبل الميلاد
كانت تمثل في بلاد الأهرام مسرحية تهريجية حركية يظهر فيها حمال يحتال على البائعين
والشارين على السواء وكان ذلك في عهد الملك(ساردانابال) و(رمسيس)وكانت عناصر
التعبير آن ذاك هي التكشير والتشويه الجسدي والاعتلال المصطنع والأوضاع المختلفة و
المشية الكاريكاتورية)وكان هناك أيضا نوع من التمثيل الصامت ذو الطابع الديني على
أكثر احتمال والذي يشبه الرقصات التي تسمى (Pyrrhic)
عند اليونان القدماء والتي تصور معركة بالدموع ضد الأشباح وشجار انفرادي،ويقول بعض
الباحثين..أن التمثيل الصامت قد جاء الى الإغريق عن طريق صقلية وهنالك من يقول ان
(ليفيوس اندروينكس )الانف الذكر-هو أول من قدم التمثيل الصامت في روما،ولا يمكن
البتة ضبط فترة ما يحدد بها اول عرض للبانتومايم لان-عند ابتلاج المدنيات تظافرت
عوامل حتمية تعود لنزوع الإنسان الى تشوق نواحي الحياة من خلال الطلاسم
والسحر..وهذه العوامل انصبت على توجيه غريزة التقليد والميل الفطري نحو تجسيد
المعاني في صور- وهنا لي وقفة قصيرة مع القارئ الكريم مع قضية السحر لغرض التنويه
لما أحسه ضمن تجربتي الخاصة كممثل لهذا الفن- ففي كثير من الأحيان وأنا على خشبة
المسرح اشك باني اقدم شيئا شبيها بالسحر ولا أستطيع حينها أن أجد مبررا لهذا
الشك،ولربما يكون ذلك متأتيا من التعامل المباشر مع روحية المشاهد أو من جراء
العلاقة الممتدة بيني وبينه بخيط وهمي والمنسابة بشفافية خالية من الحركات الراقصة
والتي تعطي نفس طقسيتها كما المصافحة بين صديقين حميمين لم يلتقيا منذ فترة طويلة.
إن
هذا الفن العريق وبالتحديد في الشرق أيضا له جذوره التي لا يمكن الاستغناء عن كشفها
وبالأخص علاقة المسرح الياباني الوثيقة بالتمثيل الصامت،ونذكر مثلا
مسرح(الباكوكو)أو(البوغاكو)هذه الطريقة اليابانية التي جاءت من الهند مجتازة
الصين،حيث كان التمثيل الصامت ذو المحتوى التاريخي والديني يشغل مكانا كبيرا ولقد
نشأ من( البوغاكو )فن(الكاغورو)و(السارانماكو )أي(مسرح النو) الياياني الذي مازال
حتى يومنا هذا.ومن المعتقد أن تسمية الممثل الصامت(the
mime)
قد جاءت من مسرح(النو) والذي فيه ممثل صامت يؤدي فواصل بين الحوارات والغناء يطلق
عليها كلمة (me)وهي
فواصل خالية من الحوار والغناء وعند تكرارها نشأت كلمة (meme)والتي
ما زالت تستخدم حتى يومنا هذا بعد تعديلها الى كلمة (mime)
أي الممثل الصامت.
أما
في الغرب و بالتحديد أوربا في العهد الوثني،فكانت تقام الاحتفالات بمناسبة عيد
الربيع والمناسبات الأخرى والتي كانت تصحبها أنواع عديدة من الطقوس والعادات
مثل(قصة الجمال النائم نومة المائة عام)والتي تمثل الشتاء الذي يصحو من لدنه الربيع
على قبلة الأمير،حيث كان يؤدي ممثلوا التمثيل الصامت بعض الحركات المضحكة وهم
يجولون الشوارع.
هكذا كان التمثيل الصامت(البانتومايم) بذرة المسرح على الأرض منذ القدم حتى تطورت أساليب العرض المسرحي وحددت أماكن العبادة التي تقام فيها العروض-أي في المعابد-وكذلك حددت أزمان العرض لمناسبات معلومة التاريخ في كل الحضارات،كأن يتكرر الاحتفال في كل عام مرة،وكان الطابع الديني هو الغالب على موضوعات المسرحيات الصامتة المراد تمثيلها أكثر من غيره.ولكن سرعان ما طرأت التقنيات الجديدة على شكل العرض المسرحي وأصبح للمسرحية مؤلف له الصلاحية في تسيير العرض،وتطورت الحال الى ان أصبح للمؤلف-لا للممثل-المكانة الأكبر على المسرح،بل وأصبح الميزة التي يمتاز بها العرض،مما حدى به الى إدخال الكلمة على التمثيل الصامت..ثم الشعر،وبالتدريج طغت الكلمة الى حد اختفاء فن الحركة،بعد أن مر ما بين الحوارات في بعض العروض بشخصية كانت تدعى(الكابوتات )والتي سنعرج عليها فيما بعد.
منعم سعيد
28-06-2007, 10:50
وظهر اسخيلوس يمثل قصائده على المسرح لاغيا حتى شخصية(الكابوتات) في عروضه المسرحية
وجاء الذين من بعده-أي سوفكلوس-يقلدون أسلوبه بنفس المنهج مهتمين بالشعر وازادوا من
أهميته ، ذلك الشعر الذي كان في السابق يغنيه (هوميروس) ويرتله في باب المعبد بعيدا
عن المسرح-من أساطير تحكي قصص الآلهة الإغريقية في (الاورستية )أي(الالياذة و
الاوديسة)وعند هذه الموجه من أسلوب العرض المسرحي ذي الطابع الجديد للتأليف
والتمثيل بالأبواق مكبرة الصوت أصبح الممثل الصامت غير موجود على تلك المسارح وإنما
كان يراه الجمهور في العراء فقط وفي المناسبات،وأصبح محدود العمل،فعندما يدخل
الجهور الى المسرح ينتهي عمله فما من احد يرى فنه فالجميع على المدرج يستمعون الى
الشعر المسرحي هذا مما حدى به الى تهيئة أدواته قبل أن يهجره الجمهور لاجئا الى
إثارة الانتباه باستخدام الأزياء المزركشة بالونها الصارخة آخذا بتهويل حركاته وصبغ
وجهه كالبهلوان مهمته جمع الناس الى المعبد يضحكهم في الشارع بينما أصبح الشاعر
الديني يعظم الآلهة الإغريقية بكلماته المفخمة من اجل ان يحكي كثيرا وبلاف الأبيات
الشعرية عن المستوى الهائل والرفيع لآلهته ولم يعر اهتماما كافيا لذلك الممثل
المنفي من المسرح،وفي تلك الفترة كاد ان ينتهي فن التمثيل الصامت في العالم لان
الديانات الأخرى أخذت تقلد الشاعر اليوناني متأثرة بالأسلوب الجديد للمسرح-الحواري-
ولكن سرعان ما اتخذ بعض فناني هذا التمثيل-الصامت-مكانا آخر غير منصة المسرح يقدمون
فيه عروضهم الخالية من الكلمات ليبقوا شيئا من المسرح الصامت،ومعظم هؤلاء هاجروا
الى أماكن أخرى بعيدا عن الشعر ليجدوا متنفسا لفنهم.اما في المسرح الروماني فلقد
حصل العكس حيث التزم الاباطرة الرومان عروض المسرح الصامت وساعدوا ممثلي هذه العروض
على تجاوز الكثير من الصعاب الإنتاجية،بل ومكافأتهم
بجزل من الأموال والدعم المتكرر لعوائلهم ومن بين هؤلاء الأباطرة (اوغسطس)الذي شجع
هذا الفن وقد شغف بالتمثيل الصامت واستخدم عبيده لتهيئة متطلبات هذه العروض
المسرحية لتسهيل مهمة الممثلون الذين يؤدون مسرحيات من هذا النوع في قصره.ثم طور
القائمون على هذا الفن آن ذاك معتمدين على الميثولوجيا الرومانية فانتعش هذا النوع
من الفن المسرحي الصامت ليحيا حتى ظهور الجمعيات المسيحية المحاربة للمسرح بأشكاله
المتعددة والتي شنت حربا هجومية عنيفة عليه كانت الكنيسة توعز أسباب الهجوم على
المسرح الى محاربة لوثنية وأعمال الممثلين و إيماءاتهم الفاضحة التي تتعارض مع
تعاليم الدين المسيحي،فأغلقت جميع المسارح الخاصة والعامة وهذا ما اثر على نشاط
الفن المسرحي في العالم كله واستمر هذا الاختناق لفن المسرح بشكل عام حتى مطلع
القرن العاشر للميلاد حيث غيرت الكنيسة من رأيها في التمثيل والمسرح وأخذت تتقبل
المسرحيات التي تتحدث في عروضها عن المسيحية وتعاليمها داخل الكنيسة.وما أن ابتدأ
المسرح يتنفس الصعداء ويمارس نشاطه من جديد معتمدا على أولئك الممثلين التواقين
للرجوع الى خشبة المسرح فهبوا يشاركون في الاحتفالات الدينية والتي تحكي قصص
الإنجيل وبما أن الموضوعات التي تقدمها مسرحياتهم تختلف اختلافا جذريا عما كانت
عليه في المسرح الإغريقي والروماني من حيث الموضوع الذي يتحدث عن الوثنية والعظماء
في حين صارت عروض الكنيسة تهتم بمواضيع تخص الدين المسيحي وتعاليمه للإنسان البسيط
في حياته الدنيا،أما العروض عند الإغريق والرومان فكانت بأسلوب مختلف تماما من حيث
الشكل والموضوع وطريقة العرض مرورا بمرحلة الساتير وهي المرحلة التي تدعى بمرحلة
الاندماج الروحي و الجسدي لدى المحتفلين بهذا الطقس الوثني والذي يدعم بالعري
والمجون الجنسي وصولا الى إباحة الخمر وحمل أعضاء ذكرية على شكل تماثيل صغيرة
مجسدين توجههم الروحي الى الالهه(ديونسوس)اله الحب و الجنس والخير والنماء سابقين
بذلك العرض المسرحي في المعبد.بينما الكنيسة فقد انتهج القائمون على عروضها
المسرحية أسلوب جديد-لابد ان يكون مختلفا عن سابقه-أن يكون جديدا-و في التمثيل
بالذات والذي اتضح هذا التجديد فيما بعد والذي بدوره أحيا الممثل الصامت
بالتدريج،لان الطريقة التي تقدم بها المسرحيات مختلفة ليس بشخصياتها فقط
بل وحتى في قاعة العرض المغلقة (الكنيسة) ثم ابتداع شخصية(الكابوتان) ذلك الممثل
الذي نراه يظهر بين الحين والآخر بين المشاهدين ملوحا بجسده للمتفرجين يقدم لهم
مشاهد صامته خالية من الحوار تتخلل فترة تغيير الديكور بين الفصول والذي صار
أي-الكابوتان- وبعد فترة وجيزة من الزمن نصب اهتمام منظموا الاحتفالات
الدينية(المستريا)وبالتحديد في فترة القرون الوسطى والذين أدركوا القوة السحرية
لممثل البانتومايم ودائما ما تكون المشاهدة الصامته من أكثر المشاهد المثيرة
للعواطف في العروض الدينية في المسرح الفرنسي في نهاية القرن الرابع عشر و بداية
القرن الخامس عشر حيث كانت حركات الممثل الصامت تشرح مضمون العرض أحسن بكثير
من
جزالة الحديث الشعري والنثري ولا شك أنه عندما انتقلت تلك العروض الدينية في
البلاغة اللغوية الجافة للطقوس الدينية الى أشكال جديدة ممتلئة بالعناصر الانفعالية
في البداية انتقلت الى الخوارق ثم بعد ذلك الى المسرحيات الأخلاقية وفي النهاية الى
(الفارس)-أي المسرحيات التهريجية-والتي أنجبت الى النور شخصية المهرج أو البهلوان
مستقلا بحرفيته كممثل بالتعبير الإيمائي أو بلغة الجسد وبالرقص أحياناً وفي كل شكل
ووضع مسرحي أنه كان بحاجة الى أن يتطلب لنفسه قبل كل شيء قناعاً ثم أكبر قدراً من
القصاصات الملونة لبرقشة ملبسه وكم أكبر من الشرائط للزينة وكم من الجلاجل الصغيرة
بل وكل ما يمكن أن يعطي العرض رونقاً أكثر ودوية صاخبة.ولم تكن تلك الشخصية الخفيفة
الظل طموح الممثل الصامت لأنها سرعان ما بذخت بكل شيء غير واعية وبلا اكتراث لمهمة
المسرح وأهدافه النبيلة.ولكن شخصية (الكابوتان) ظل محافظاً على تقاليده وأصوله رغم
ولادة المهرج من صلبه ولكن ذلك الأب ما زال راسخاً في أسسه التي لم يتخلى عنها حتى
موته والذي كان بقاؤه بمثابة ضد
للمهرج الذي
ظل
محافظاً على انتهاجه الفارس في عروضه التي نفت الأب من القاعة المغلقة(في
الكنيسة)للدفاع عن نفسه في ساحة الكرنفال وجهاً لوجه مع المهرج العاق.فظهر
الكابوتان في أعياد الميلاد والكرنفالات الأخرى يقدم للناس مشاهداً صامتة في
الشوارع حتى تطور خروجه هذا الى خروج بل ولادة فرق مسرحية متكاملة تقدم عروضها
الصامتة على طريقة الكابوتان ولكن ليس ضمن عروض مسرحية حوارية كما كان الحال سابقاً
بين الفصول المسرحية الحوارية داخل الكنيسة بل كانت تلك العروض تقدم بالارتجال الذي
كان يتفق عليه(كالسيناريو)تجمع الخطوط العريضة لما ستعرضه المجموعة.وهكذا انتشر هذا
النوع من العروض التي تطبعت بطابع الارتجال الفردي أو الجماعي وأصبحت العربات التي
تجرها الخيول هي منصة المسرح وهي تجول في شوارع ايطاليا وعند خروج المسرحية من
الكنيسة ظهرت معها أشكال أخرى تنافس فن التمثيل الصامت منها المسرحيات الحوارية
الهزلية وبنفس الطريقة أي يضع الممثل له سيناريو كخطة يستطيع بواسطتها ان يلعب دوره
مبتكرا إبداعاته التمثيلية أثناء العرض لان النص المكتوب لا يفسح له الحرية الكافية
في الأداء وكان الممثل الصامت هو المهيمن على عروض المسرح في تلك المرحلة دون غيره
فصار يؤلف مسرحياته بنفسه لكي يحقق إبداعاته وحركاته الخاصة حتى صار التمثيل صامتاً
شكلا مسرحيا يحسب له الجميع حساباً فيه الكثير من التقدير.وقد عاش حينها ممثل
البانتومايم ازدهاراً جديداً في تلك الفترة وقد ازداد رصيده من الممثلين الحواريين
الذين ترك الكثير منهم التمثيل الناطق بالكلمات لاجئين الى فن البانتومايم حيث
كانوا يعانون بسبب يعود الى ان المسرحيات الحوارية عند عرضها في الشارع تستوجب على
الممثل ان يستخدم كل وسائله الجديدة الجسدية لتوصيل الفكرة أو الحدث الدرامي أو
الفعل المسرحي الذي يبغى توصيله الى المتفرج القريب والبعيد معا فإذا كان صوته يصل
الى القريب من الناس على منصته فكيف بالبعيدين عنها وهذا مما حدى به الى استخدام
الحركة كأسلوب للتوصيل أكثر من الحوار..ثم تطورت الحال حتى صار يعرض مسرحياته خالية
من الحوار تماماً وبذلك أصبح ممثلاً آخر يضاف الى ممثلي البانتومايم هذا إذا ما عاد
أدراجه الى قاعات العرض في الكنيسة واستنشق فن البانتومايم أنفاسه ليحيى الممثل
الصامت من جديد مدركاً ان عليه اتقان حرفية فنه وضبط قواعده بشكل أكاديمي صحيح في
تلك الفترة المميزة من تاريخ المسرح العالمي والتي أصبح فيها فن الارتجال فناً ذو
أصول وقواعد راسخة ومتينة وانتشر هذا الفن الى أرجاء العالم حاملاً معه تلك الأصول
القواعد لتنبت كالبذور في عروض تتوزع هنا وهناك لتكون مدرسةً أو مذهباً يلجأ اليه
فنانو العالم وبالأخص أوربا التي صارت تجول في أنحائها تلك الفرق المتناثرة لفن
الارتجال الذي أطلق عليه اسم (فن الديلارتي) وقد كانت ايطاليا مركزاً لهذا الفن
والتي كانت قد عاشت فترة ازدهار مسرحي لم تعشه فيما بعد ولكن-وللأسف الشديد لم
تكن هناك نصوص أو سيناريوهات مكتوبة إلا ما ندر يمكن الاعتماد عليها في دراسة أوسع
لفن البانتومايم مما حجب الكثير من المعلومات التي من المفروض ان يتسنى للباحثين من
خلالها دراسة هذا الفن بالشكل الأكاديمي الوافي بالتفصيلات إضافة الى
اعتماداتهم على بعض الشواهد والملامح القليلة الموروثة لهذا الفن والتي هي المادة
الوحيدة في دراسة تلك الأشكال والأساليب المبتدعة في فن البانتومايم والتي رغم كل
ذلك جاءت تأكيداً للتنافس بين الممثلين آنذاك وبعضها كان سبباً للإساءة في عروض
ماجنة والتي قيل عنها بأنها تخبط بين المصادمات وكسر الأضلاع وانتصار يمجد الرذائل
والإجرام تمجيداً ذعر منه الاخلاقيون بقدر ما أثار الجمهور وقهقته ورعبه ويبدو ان
ذلك سبباً لرقود فن البانتومايم بل المسرح بشكل عام في القرن الخامس عشر.
ان
هذا الفن قد حضي باهتمام متباعد من خلال الفرق التي انتقلت قبل ركود المسرح في
ايطاليا أبان القرن الخامس عشر إلى أنحاء أوربا كما ذكرنا عن طريق الفرق الجوالة
آنذاك فوصل إلى فرنسا وانجلترا وأسبانيا وألمانيا، ففي انجلترا اعتادت المسارح
الإنجليزية في أوائل القرن الثاني عشر تقديم عروض ترويجية فخمة في احتفالات عيد
الميلاد أطلق عليها في حينه اسم(بانتومايم)وكان يحرص كل أفراد العائلات الإنجليزية
على حضور هذا النوع المبجل من العروض لديهم،فهي بمثابة تقليد إنجليزي،وتربط هذه
العروض جمهورها بالصلة بينهم وبين تلك الحكايات الشعبية والخيالية وكانت تلك
المسرحيات تقدم بطريقة صامتة غير خالية من بعض الأغاني إلى ان استقرت أكثر تلك
العروض على الحركة دون غيرها كطريقة للعرض.وكان التمثيل الجسدي في انجلترا يصنف إلى
نوعين أولهما (البانتومايم الكلاسيكي)والذي يشمل على طائفة من الشخصيات المشتقة من
المسرح الارتجالي الإيطالي(ديلارتي)والتي كانت ارتجالاً لم يعدّه كاتب ولا الممثلون
قبل العرض وهذا هو الشأن في(الهرلكاندا)-أي الإيمائية الهزلية الإنجليزية-كما كان
يطلق عليها.والنوع الثاني هو(البانتومايم الواقعي)وهو أوسع اختصاصاً من النوع الأول
ونضرب له مثلاً بتلك المسرحيات لـ(ثورنتون وليدر) ومنها مسرحية (الرحلة السعيدة)
و(عذراء عيد الميلاد الطويل) والتي يؤدي فيها الممثلون أدوارهم بمساعدة أشياء
يتخيلونها-أي على طريقة (البانتومايم الأسود) الفرنسي والذي سنأتي لاحقاً على
تفصيله-وهذا النوع يتطلب تركيزاً وانتباهاً عظيمين من الممثلين والجمهور على حد
سواء وله إمكانياته التي لا يستهان بها وبقيمتها الكبرى بالفعل الجسدي وأفكار
المسرحية كمضمون.وهذين النوعين من البانتومايم أصبحا فيما بعد لهما الأثر الواضح
حتى في إنشاء(مسرح الطفل الإنجليزي)لما لهما من عروض وتقنيات متميزة.ويمكن تتبع
طريقة(البانتومايم الكلاسيكي)على قصة من قصص الأطفال،ويؤكد الفنان(جوليان
ويللي)-احد الثقاة في إخراج هذا البانتومايم-انه برغم إقبال الكبار على هذا اللون
من الفن،فإنه لا يأبه كثيراً بمطالبهم لأن التجارب علمته انه لو استطاع إرضاء
الأطفال لضمن نجاح العرض).لقد كان هذا النوع من العروض خاصاً(بمسرح الأطفال)أكثر من
غيره في تلك الفترة-وهنا لا نريد ان نتحدث عن مسرح الأطفال وتاريخه،بل لا بد من ذكر
فن البانتومايم ومدى تأثيره على أساليب العرض المسرحي المختلفة ومن بينها مسرح
الطفل.وفي القرن الثالث عشر ظهر في انجلترا شيء جديد من ممثلي البانتومايم وهم
الذين أطلق عليهم تسمية(المبدلون)أي المعروفين بتغيير هيئة أجسادهم والذين كانوا
يعتمدون على الموسيقى في تقديم عروضهم المتنوعة المواضيع والمستقاة من حياة الأشخاص
والعامة من الناس لتعزيتهم في أحزانهم ولوعة قنوطهم أو لمشاركتهم أفراحهم،ونجد
مثلاً على ضريح أحدهم وهو (فيتاليس)-من المقلدين الصامتين العبارة التالية(قلدت
وجوه وحركات مختلف الرجال وطريقتهم في الحياة فاعتقد الناس ان المقلد حاضر يتحدث
بنفسه وحدها..فالموت الذي أطاح بي لقد أطاح بجميع الشخصيات التي عاشت في
جسدي..).وكانت هناك إشارات كثيرة قبل ذلك لوجود فن التمثيل الجسدي بأشكال متعددة في
انجلترا ذلك الفن الذي جلبه الرومان وغيرهم،ويمكن أن نرى بوضوح تأثير ذلك في عموم
المسرح الإنجليزي بعد فترات طويلة من الزمن،من خلال مسرحية (هملت) للشاعر الكبير
(شكسبير)مثلا نرى ملامح هذا التأثير في استخدامه هذا البانتومايم في مشهد(مقتل
السيد هملت الأب)والذي فيه تقدم فرقة من المبدلون يمثلون قصة الخديعة التي قامت
بإبرامها زوجة الملك وبالاتفاق مع أخيه لاغتيال السيد هملت بالسم.وفي القرن السابع
عشر سار على خطى هذا الفن الكثير من الممثلين الانجليز ومن بينهم الفنان (جون ريج)
في أوائل ذلك القرن رغم تلك الفجوة في التراجع الذي حصل الفنان البانتومايم في
الفترة الواقعة بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر بسبب القيود التي فرضتها
الكنيسة آنذاك-معتمداً التشخيص الإيمائي الإنجليزي على المادة المستوردة من
الكوميديا الإيطالية والتي زحف تأثيرها للمرة الثانية إلى انجلترا وبشكل أكثر
قوة،كما هي الحال في بلدان أوربا وكان(ج كريمالدي)وهو إنجليزي محض-المساهم الأسبق
من غيره في إدخال حرفية هذا الفن في بلاده من جديد،وقد اعتمد البانتومايم الإنجليزي
طابعاً خرافياً وهمياً وتعبيراً يميل إلى اللامعقول والقسوة ويستعين بآليات خارجية
وحيل مسرحية تسهل التبديل السريع للشخصيات على مرأى من النظارة.وقد أضافت العبقرية
الإنجليزية للتشخيص الجسدي شخصيتين فيهما الكثير من الابتكار وهما شخصية (الكولون
CLOWN)والتي
تجذرت اشتقاقاً من شخصية الكولون عن (شكسبير)أما الشخصية الثانية فهي شخصية
(البونش) الشبيهة بشخصية(البونشيلا)والذي برز في كوميديا الدمى التمثيلية في
انجلترا.ويعرف (بودلير)الكولون بجعله نقيضاً لشخصية (بيرو)-التي سنتحدث عنها فيما
بعد في التمثيل الإيمائي الفرنسي-مبيناً أسلوب المقالات في التمويه والحركات التي
يتعدى فيها حدود بيرو الفرنسي،ويقول (بودلير)عن هذا الفن التجسيدي الإنجليزي:-(انه
روح الكوميديا الصافية،بل هو عنصر الكوميديا المحصور المبلور)،ان حذاقة الممثلين
الإنجليز الخاصة بالتعظيم والمغالات تضفي على جميع تلك المسرحيات الجسدية طابعاً
واقعياً أخاذاً بالتأكيد.
أما(جورج كرويكشا نكس)الممثل الكاركونوري والناقد يحدثنا عن شخصية (البونش)في كتاب مصور كرسه لوصفه:-(انه فن راق ولطيف)،كما إن اللورد (بيرون) مجّد (البونش) بقوله:-(انه شخصية كوميدية رهيبة لا تلاطف إلا عشرائها) وهي تدخل المسرح مكتسية الأخضر والأصفر-وهما اللونان التقليديان للشخصية-وهي تضفي أفراحا على لحن موسيقي يتكرر في أغلب العروض تقريباً ثم نرى البونش في أحد المسرحيات الجسدية يضرب كلب (سكاراموش).أحد الشخصيات التقليدية الشهيرة-وينشر حوله الموت حتى يقتل الجلاد المكلف بإعدامه ويتفوق على الشيطان.ومن المدافعين عن الصمت في المسرح يجيء(ولسون ديشر)موعزا الافتراض الشائع بأن البانتومايم فن خالص الصمت-إلى الدوقة (مين) والتي أرادت في عام (1706)ان نضيف إلى أمجاد الكمال في صالونها الثقافي،فقررت أن تقدم الفصل الرابع من مسرحية(هوراس)للكاتب(كورني)بشكل صامت،وكانت ترى أن العرض الأخرس-على حد قولها-هو فن القدماء،ومن الطريف انه منذ ذلك الحين أصر اللغويون الإنجليز على أن البانتومايم يعني العرض الأخرس لا لسبب سوى ان الدوقة (مين) قالت انه كذلك وكان دفاع الفنان الإنجليزي (جون ريج) لتوضيح مفاهيم أدق مما دعتها الدوقة (مين) عملياً وعلى خشبة المسرح مبارزاً بقدرته في استخدام يديه وملامحه والذي سرعان ما جعل من هذا الفن فناً شعبياً واسع الانتشار في انجلترا وعادت التجديدات الإنجليزية التي أدخلت على هذا الفن كي تؤثر بدورها على البانتومايم الفرنسي وسرعان ما أخذت فرق البانتومايم الجوالة الإنجليزية تجوب أرجاء فرنسا وهولندا وألمانيا والنمسا والدنمارك. وهكذا شق البانتومايم طريقه إلى أعلى قمم ازدهاره في انجلترا حتى القرن الثامن عشر والذي كان أكثر الألوان الدرامية الجديدة رواجاً آنذاك وبالتحديد عام 1715 ذلك العام الذي وصل إلى درجة الكمال على يد الفنان (جون ريج) وكان الأسلوب الجديد الذي امتاز به هذا الفنان في عروضه هو استخدام المحاكات الجسدية التي تصحبها الموسيقى والمناظر الغنية بالتوضيحات مع استخدام المؤثرات المختلفة-الصوتية(من غير الكلمات)والضوئية-أثناء العرض،وكانت الأحداث التي تجري على خشبة المسرح مستمدة من القصص الأسطورية أو الموضوعات التاريخية المألوفة لدى المتفرجين،كما أن القصص التي يعرضها على المتفرجين لم تكن ذات خط درامي واحد بل هي تنويع من الكوميديا والجد معاً وأن الأحداث لها بطل يملك القدرة السحرية التي يستطيع بها ان يغير الأماكن والأشخاص والأشياء كما يتطلب العمل الجاري على خشبة المسرح.ثم ظهرت المدارس المسرحية الجديدة في انجلترا والتي كان من أخطرها على فن البانتومايم ذلك المبدأ القائل(ان المسرح فن من فنون الأدب)عند ذاك عاد المؤلف من جديد ليهتم بالكلمة أكثر من غيرها بل تناسى المؤلفون الحركة وصار المسرح كثير الكلمات قليل الحركة،وفي تلك الفترة كاد ان يختفي فن التمثيل الجسدي(البانتومايم)بل اختفى في زمن الحرب العالمية الأولى وفي السنين التي سبقت الحرب العالمية الثانية مباشرة،وفي أثناء الحرب وبالتحديد عام 1936 عاد التمثيل الإيمائي إلى انجلترا مرة أخرى وذلك من خلال عروض فرقة مسرح الوحدة (Unity theater) الذي اكتسب مكانتة في المسرحية السياسية الصامتة ويتضح ذلك النفس في مسرحية(أطفال في الغابة)والتي جذبت الأنظار إلى مجهودات (البانتومايم السياسي) في سنة 1939 وتلتها مسرحية(حماقات كيس الرمل) ومسرحية مشابهة أخرى في نفس السنة وفي عام 1941 وقدمت فرقة مسرح الوحدة للتمثيل الصامت مسرحية (النجمة تغدو حمراء)وهنالك مسرحيات أخرى قدمتها تلك الفرقة بأسلوب آخر ففي عام 1944 عرضت مسرحية (قواقع وشمبانيا)وهي مسرحية كوميدية مرحة جامحة الخيال تحكي قصة صالات الموسيقى،هذا مع أن مسرح الوحدة كان منشأه مجرد هيئة من الهواة فقد نما أكثر وأكثر إلى الاحتراف في تطوره وساعد أيضاً على نشر الاهتمام بالدراما بين قطاعات كثيرة من المجتمع كان المسرح الصامت قد مات بالنسبة لها منذ عهد ليس بالقصير..
وهكذا أعاد المسرح الصامت أنفاسه من جديد في بريطانيا ولكن ليس كما حدث في فرنسا وما حققه فنانو هذا الفن التمثيلي من صدى عالمي واسع في القرن العشرين.
عن موقع الوزير
Alwazer.co.il
http://www.alwazer.co.il/artnews/showArticlenews.asp?aid=539