عن مسرحيون
النحات يرقب ساعته
علي شايع
مثلما بقي"طائر" المايم يغير من شكله عبر العصور، ويغير جهاته أيضاً، تغير وتطور شكل وأداء المسرح الصامت "البانتومايم" مع تنوع أدوات الفنانين الذين أخذوا على عاتقهم تطوير وتغيير شكل هذا الفن الهام والصعب، فكل فنان من فنانى "المايم" العظام لديه طريقة مميزة للتغير من أشكال الحركة الى لغة شخصية خاصة به. وبالتأكيد أن كلمة "مايم" قد غيرت معناها ايضاً عبر الزمن، من دراما صامتة، تسخر من أخطاء المجتمع ، حتى"مطت" الكلمة نفسها لتسع مراحل الهزل والهجاء والتهريج ككل.
وتميزالمسرح الروماني بالتمثيل الصامت (البانتوميم) وهي الخصوصية الاكثر الصاقا بهذا المسرح. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر تطور هذا الفن بأوجه معينة من (كوميديا دي لارتي)، كما استعمل حسب وصف النقاد كجزء من ذخيرة التعبير الايمائي في فن الباليه والدراما عموماً، فاحتل مكانا بوصفه تسلية مسرحية بطبيعته. انه فن صعب متنوع الاشكال والقواعد ، متفاوت النهج حسب كل مؤد وقد كانت بدايته الاولى في العراق عام 1919واستمر ليصل الى مراحل عالية في التقنيات .
ولعل صعوبة اثبات الهوية الادبية للمسرح الصامت بمعنى التوثيق والتداول كنص ادبي ضاعف من صعوبات كتابة نصّه الذي هو في مجمل حالاته حركة وسيناريو يشاكس بقوة مقولة ان ليس هناك نص مسرحي من غير حوار حيث يقوم الجسد الانساني بأقصى طاقة تعبيرية مغايرة في محاولة التأسيس لحوار الحركات، والذي تنطبق عليه قواعد وشروط المسرح الاخر، وايضاً خشية الوقوع بالسردية مما يضطر المخرج والممثل الصامت الى التكثيف الشديد.
في ندوة على هامش احد عروضه المسرحية في الثمانينيات قال ذات يوم الفنان منعم سعيد مؤسس فرقة" جماعة الديوانية للتمثيل الصامت" حين سئل عن الفراغ الذي يتركه غياب الكلمة في المسرح الصامت:
الغريب ان الجميع يردد "في البدء كانت الكلمة" بينما أجد الكلمة نتيجة حتمية عن مجموعة حركات، ومجرد سقوط حركة واحدة يعطينا دلالة أخرى وكلمة مضادة أحيانا... التعامل مع الحركة.. هو تعامل حذر وقاس... الحركة هي الاساس في كل فعل.
والفنان منعم سعيد هو من أهم من اشتغلوا في " البانتومايم" العراقي على تطوير المنجز الريادي للفنان الراحل محسن الشيخ، وعمل في ظروف صعبة على تطويرالمسرح الصامت باعتباره فنا مرئيا يتجاوز الحوار نسقا يتكشف عن طبائع اصواته وتحولاته، وصولا الى (المونولوج) بين الحركة والصوت المفترض في ذهن المشاهد، صوت يضيء مساحة الحركة، ويتفاعل مع التحول الدرامي، ولم يتجاوز منعم سعيد الكلمة حد نفيها، بل كانت حاضرة شعراً، حضور الجسد بمعماريته وموضوعاته في السيرورة الذهنية والنفسية لشخوص العرض.
انتهى عقد الثمنينيات بعد عروض ونجاحات متميزة للمسرح الصامت، ومثلما كان لحرب التسعينيات تأثيرها الكبير في الواقع الثقافي عموما،تأثر المسرح العراقي الصامت كغيره من الفنون، بعد ان انفرطت الجماعات والملتقيات.
ومن جميل ما يتذكّره الاصدقاء بعد الانتفاضة بأشهر معدودات ، ايام احتجازنا في مخيم عزاب الارطاوية(( المخيم اللاجئين الصحراوي))، من جميل ذكريات تلك الايام ان اول عمل فني شاهدناه كان اعادة عرض (( النحات يرقب ساعته)) لمؤلفه ومخرجه منعم سعيد الذي ابدع فيه الفنان فائز البنا ،معتمدا على الذاكرة في استعادة النص والرؤية الاخراجية للعمل، وكان للعرض صداً عظيماً، ومنع في اليوم الثاني ككل العروض المتميزة في مدن الملح ،على رأي مسؤول لجنة الصليب الأحمر الذي حضر ذلك العرض وباءت جهوده في استمراره بالفشل.
تحية ل فائز البنا الذي احيا بالحركة والاشارات لغة قال خلالها كل شيء، بعد ان كان الكلام معطلاً من هول كارثة الحرب الكبيرة، نطق فائز يومها باللغة التي وصلت الى الجميع ؛ ممثل لجنة الصليب، والطبيب الاندنوسي، وعمال التنظيف الهنود، وحراس الصحراء ايضاً. وبعيون ملئها الرمل كنا نحدّق بالنحات، وتزاحمنا بالركب، لم تكن يومها من تذاكر تباع ،من كل معسكر سمح لعشرة اشخاص في الحضور من بين 400 لاجيء. كنا نذهب لذلك المهرجان الصحراوي بالشاحنات العسكرية، الى واد عميق غير ذي زرع ،في مكان موحش ومحاط بالثكنات والاسلاك الشائكة نصبت فيه خيمة هائلة، افترشنا رمالها مكدسين كالتمر في الخصاف... مثلما يطيب ل كزار حنتوش وصف رحلته في طريق استكشاف الديوانية، وكان لنا ايضأ ما نستكشفه في تلك الصحراء، يوم اكتشفنا وجود بعضنا احياء على قيد الامل الصحراوي .... تفرق الجميع بعدها، ولازال النحات يرقب ساعته هناك ويراقب الافق، ترقّب الالاف المنتظرة في ازل تلك الصحراء.
تحية للفنان منعم سعيد- الضائع الخبر- ، وللفنان فائز البنا..و...و.. وكل من اسعدنا وابدع في هذا الفن الرائع.... تحية مشفوعة بلوعة السؤال عن تراجع وانقطاع اخبار المسرح العراقي الصامت.