ذكريات يوم المسرح العالمي مع  صباح الانباري

 

 

 

 

       للذكريات البعقوبية طعم البرتقال وعبق القداح وشذى البساتين الممتدة على ضفاف نهر ديالى. ولشهر آذار طعم خاص منذ الصباح مروراً بظهيرته الهادئة وحتى أواخر المساء . الصديق والفنان الرائع صباح الانباري مذ عرفته في منتصف التسعينيات هو هو حتى هاجر الى استراليا ذلك الإنسان المتخم بالهدوء والسكينة والمثابرة في نشاطاته الأدبية من تمثيل وإخراج وكتابة.

 ستوديو الأمل في بعقوبة والذي كان يعمل فيه كمصور فوتوغرافي يجمعنا به مع كثير من الأصدقاء الأدباء والفنانين. أسماء كثيرة منها من هاجر ومنها من استشهد على أيدي الإرهابيين ومنهم من هجّر قسراً. كان ذلك زماناً جميلاً لا اظنه يعود أبدا.

 في عام 1998 اخبرني المخرج سالم الزيدي أن لديه مشاركة في مهرجان المونودراما الثاني بمسرحية (مساء السلامة أيها الزنوج البيض ) للكاتب الكبير محيي الدين زنكنه وبطولة صباح الانباري وطلب مني وضع الموسيقى التصويرية للمسرحية فوافقت دون تردد. حينها اتاح لي العمل مع الانباري أن اكتشفه أكثر فأكثر وكم استفدت منه حينها .

 بعد سقوط الصنم وتحديداً في بداية آذار  2004 رشحني صباح الانباري لوضع الموسيقى التصويرية لمسرحية (قطار الموت) التي كتبها وقام بإخراجها لصالح فرقة الشبيبة التابعة للحزب الشيوعي في بعقوبة فرحت أعيد التجربة مع الانباري واعتبرتها إنجازا مهماً في مسيرتي الفنية.

بروفات مكثفة:

    بناية السراي أهم مركز ثقافي وأدبي وفني في كل ديالى، ففيه يقع مقر اتحاد الأدباء، وجمعية الشعراء الشعبيين، وبيت المقام العراقي، وجمعية المصورين، وجمعية حقوق الإنسان، ورابطة الإعلاميين الموحدة، وجمعية الصم والبكم، وغيرها من المؤسسات، أختاره صباح الانباري ليكون مكان التدريبات اليومية لأفراد الفرقة.

 بدأت بالحضور بشكل يومي لمتابعة البروفات والتعايش مع فكرة العمل ومناقشة أشياء كثيرة مع الانباري ، أتذكر جيداً كيف كان حريصاً على الاهتمام بالطاقات الشابة الواعدة وهم مجموعة من الطلاب والطالبات الذين أناط بهم مهمة الوقوف على خشبة المسرح لأول مرة بأدوار مسرحية صامتة تتحدث عن حقبة مهمة وحساسة من تأريخ العراق الحديث والتي تتحدث عن حركة (حسن السريع) في معسكر الرشيد وانقلاب شباط الأسود.

 لقد بذل جهوداً مضاعفة وجبارة كي يتقن الشباب أدوارهم . الغريب في الأمر أنني لم أره غاضباً أو منزعجاً أبداً كان محافظاً على هدوءه في أزعج المواقف التي تتخلل التدريبات كان ذا سعة صدر كبيرة إضافة الى  ضحكته الوادعة وتعليقاته الظريفة.

 كان يتعامل مع أولئك الشباب بخبرة وحنكة. لا أعرف كيف استطاع المراهنة على طاقات أولئك الشباب ولكن يبدو لي أن ايمانه بالشباب هو السبب وراء اختياره لهم لتجسيد أدوار المسرحية.

احتضنتنا قاعة بناية السراي لنستمر في أداء البروفات على الرغم من قلة الدعم المادي من أي جهة كانت فقد اعتمد في إكسسوارات المسرحية على أشياء بسيطة مكتفياً بالقليل لإنتاج الكثير، وللتأريخ أقول إن الانباري هو أول من قدم عملاً مسرحياً مهماً بعد سقوط الصنم في بعقوبة مع غياب دور نقابة الفنانين وتشظيها الى جمعيات واتحادات لم تقدم أي شيء يذكر للحركة الفنية في المحافظة وهذا يحسب لصباح الانباري بالطبع.

 

يوم العرض ومكانه:

اختار الانباري يوم المسرح العالمي 27 آذار لعرض المسرحية تزامناً مع ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار أما المكان فكان على قاعة مسرح التربية تلك القاعة اليتيمة المهملة التي تخلو من ابسط أدوات العرض المسرحي والتي كانت تستغل لأغراض التطبيل الإعلامي إبان النظام البائد وأجزم أن الانباري قام بتطهيرها من دنس ومخلفات التصفيق الكاذب والكلام الفارغ الأجوف آنذاك فقد عمّدها بمسرحية حرة نظيفة عراقية بكل تفاصيلها وليست دخيلة على الواقع العراقي.

غصت القاعة بأعداد كبيرة من عشاق المسرح ومن السياسيين البعقوبيين والأدباء والمثقفين ووسائل الإعلام قام الانباري بتقديم المسرحية بكلمات ما تزال ترن في مسامعي إذ قال ما نصه (جئنا لنحتفي جئنا لنطلق الكلمة .. الكلمة الحرة .. الكلمة المناضلة التي أبت إلا أن تستمر وتبقى على مدى التأريخ ورغم العنف والإرهاب والعسر، ورغم سوداوية النظام الجائر الذي أراد خنق الكلمات، جئنا لنقول لكم إننا سنختصر لكم مراحل تأريخية طويلة في زمن قصير ربما سيصل هذا الاختصار الى لحظة واحدة تتجلى فيها صورة النضال صورة العمل ، العمل من اجل العراق ، العراق الحبيب ، العراق الذي عملنا من اجله وما زلنا وسنظل.

 بعشرين دقيقة فقط سنقدم لكم عملاً مسرحياً.

أيها الأحبة ما أسعدنا ونحن نحتفي مرتين مرة بمناسبة يوم المسرح العالمي ،وهذه مناسبة كنا قد نسيناها ..عفواً لم ننس هذه المناسبة بل أراد النظام أن ننساها، ولكنها بقيت في قلوبنا وفي اذهاننا وستستمر، وبوجودكم الجميل هذا تتجدد ويتجدد العيد. ومرة بمناسبة العيد الذي جئنا لنحتفي به ولنعبر عن محبتنا واعتزازنا به ، العيد السبعيني لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي).

 

تصفيق وقبلات حارة:

بعد أن قدم العمل المسرحي (قطار الموت) ضجت القاعة بموجة من التصفيق الحار اعجاباً ومباركة بولادة جديدة للمسرح البعقوبي الذي أراد الجهّال قتله لكنه أبى إلا أن يضوع بعطره. وقف الحاضرون إجلالا وإكبارا لكل كادر المسرحية وبدأوا بتهنئة صباح الانباري وأعضاء الفرقة واحداً تلو الآخر بأحضان وقبل وكلمات كانت تخرج من أعماق النفوس المكبوتة كأنها نبع صافٍ . قد أنسى أسماء كثيرة لكن من الذين أتذكرهم الشهيد نجاح كاظم حمدوش والكاتب الكبير محيي الدين زنكنه والقاص صلاح زنكنه والأديب الشهيد مؤيد سامي والأديب عباس حسين رشيد والقاص علي النعيمي.

 

كلمة أخيرة:

كم كنت رائعاً ومعلماً ومخلصاً وصادقاً يا صباح الانباري وأنت تكسر قيد العبودية والتجهيل في المجتمع البعقوبي وتعيد الحياة لخشبة كادت أن تموت.

 

 تحياتي لك وأنت في القلب أبدا رغم بعد المسافات بيننا.

 

ضياء السيد كامل