قراءة في قصيدة الشاعرة د. اسماء غريب

 (اليكَ شمسي في عيد العشاق)

صباح الأنباري

العنونة:

   ارتكزت العنونة في هذه القصيدة على طرفين رئيسين هما: العاشق، وعيد العشق، وبينهما همزة الوصل، أو الكائن القائم الفاعل المصرّح بالقول أصالة ونيابة داخل القصيدة (العاشقة) أو الشاعرة لا فرق. تبدأ العنونة بحرف الجر إلى (بمعنى اللام المتبوعة بالكاف المبني على الفتح الظاهر( والمنسوبة للعاشق (إليكَ) وهي تعبر عن رغبة المتحدث في الإهداء إلى المتحدث إليه. المهدي إذن هو العاشقة (الشاعرة)، والمهدى إليه هو العاشق، والهدية هي الشمس (إليكَ شمسي) أما ظرفية الإهداء فقد وضحت من خلال عبارة العنونة الأخيرة (في عيد العشاق).

 في العنونة إذن تحددت الأطراف المعنية بفعل القصيدة (الشخوص، أو العاشق والمعشوق) وتحدد زمن الفعل (عيد العشاق) وموضوع الفعل (البيان والتوضيح) ولم يبق أمام القارئ إلا أن يبحر في عبابها ليستكشف جزر العشق وجمالها وسحرها الباذخ، وسرّها الدفين.

القصيدة:

   تبدأ القصيدة بجملة تعرّفنا بصفة العاشق وماهيّته من خلال تعاملها مع أيقونتين كبيرتين هما (آدم) وسيزيف. يشير الأول إلى بدء الحياة على الأرض، ومكابدة آدم من ظروفها، وطبيعتها، وملابساتها بعد عيش فردوسي قائم على المحبة والعشق الفريد لحوائه الوحيدة التي لم تنشغل بعد بذرية مجبولة على العقوق، والغياب، والخيانة، والقتل. ويشير الثاني إلى حجم المعاناة والعذاب والعناد، والاصرار على فعل ما يعتقد أو يتوهم أنه هدف أو غاية ينبغي الوصول إلى ذروتها وتكرار محاولة الوصول مثنى وثلاث ورباع بلا جدوى. والجملة بإشارتها إلى ما اتصف به آدم منذ نزوله على الأرض هي في جوهرها كناية عن العاشق المعنيّ بمضمون القصيدة والمثقل بمحمولاتها. هذا العاشق تعلن الشاعرة جهاراً إنها تعرفه بما وشم، وبصراخه اليومي، وشكواه الدائمة:

"إنه أبي الموشوم بصلبان المحبة

أبي الذي يصرخُ كلّ يومٍ

بين ثنايا قلبكَ الجريح

أرادت الشاعرة هنا تكثيف المعنى، واختزال الصور فقذفت بنا إلى المعنى من أقرب النقاط إليه موضّحة أنّ العاشقَ إنْ هو إلا آدمنا السيزيفي المعذّب بنار الحب ولهيبه عبر القرون، وإننا ابناءه العاشقون الوارثون لتلك العذابات وجنوحها للجنون إلى أبد الآبدين. وإيغالا في المعنى تعود لتؤكّد معرفة عاشقها به، أو توحده معه، أو تماهيه فيه:

وأنتَ أيضا تعرفهُ أكثرَ منّي

فهُوَ أبوكَ وفوقَ مرآة بئركَ أرى كلّ يوم

طامّتهُ الكُبرى ووجعَه الأزلي،

لقد طرد عاشق حواء من الجنة بعد أن اتبع هواه مدركاً أن لا عيش له بدونها حتى وإنْ كان العيش في فردوس إلهي فهل رأى منها ما يعادل تلك التضحية المصيرية؟

 تخبرنا الشاعرة إنه كان يشكو جفاء الأنثى، ومكر بنات حواء وهذا هو مصدر "وجعه الأزلي" وجع الرحلة الطويلة، والألم الممض، والرضا بالفناء دون البقاء فأي حب هذا الذي امتلأ به قلبه، وقاده إلى العذابات، والمعاناة، والاكتواء بنار حواء، وجفائها، ودلالها، ولوعتها الباذخة؟ وهل استوعبت العاشقة هذا كله؟

 تخبرنا الشاعرة دون انحياز أن ذريتها لم تستوعبه حتى الساعة وربما بسبب هذا راح يبحث عن عبث يرضيه، وحبّ يشفيه، ومغامرة تنسيه. ولأنها تدرك حجم وجعه، فعلاً وردة فعلٍ، فإنها تلقي تحذيرها المبين: "لا تعبث يا حبيبي بالعشق معي" نافية عنها وعنه ميراثهما من العشق الآدمي أو الحوائي:

 فلا أنت آدم ولا أنا حوّاء

ولا أنت تمّوز ولا أنا عشتار

ولا أنت باليُوسفيّ الهَوى ولا أنَا بالزّليخيّة الأبوابِ

وأمثلة النفي هنا تفيد بيان ماهية التجربة التي تنفيها الشاعرة جملة وتفصيلا بناءً على نوع تلك التجربة ومحصلتها فهي قد شكّلت انعطافاً خطيراً في علاقة آدم بحواء كما مرّ بنا، وشكلت انعطافاً كبيراً في علاقة تموز بعشتار التي جعلته، بعد حب عظيم، بديلا لها في البقاء داخل جحيم العالم السفلي، وكذلك هو الحال مع زليخة التي اتهمت يوسف الصديق باشتهائه لها لأنه رغب عنها عندما كانت راغبة فيه فأودع السجن. الأمثلة التي أتت بها الشاعرة انصب اللّوم فيها على فعل اتهام الأنثى (حواء، وعشتار، وزليخا) وهكذا يبدو تاريخ الأنثى حافلاً بالذّنوب، وتاريخ الرجل حافلاً بالطهر والبراءة. وإذا كانت الشاعرة قد ألقت اللّوم على الأنثى بقصدية حتى هذه اللّحظة فإنها أرادت من هذا الإشارة إلى مرحلتين هما: ما قبل ارتكاب الذنوب وما بعدها لتقرر حالها، وتنفي التهمة عنها مستبدلة الخطيئة بالعفة، والطهر، والقداسة. وراسمة من ذلك الطهر، وتلك القداسة هالة لشخصيتها تغلق طريق العبث أمام عاشقها الذي استمرأ الجنوح إلى الرغبة ما استطاع إليها سبيلا.

أنا منْ أعطاها المعمدانيّ اسمَه

ووهبَها النجّارُ المَرْيميّ قلبهُ

البيت الأول يشير إلى تطهّرها، أو اغتسالها، أو ارتماسها أو تعميدها بالماء على يدي المعمدانيّ (يوحنّا المعمدان) فهي تحمل اسم العماد كوثيقة طهر مما سبق من ذنوبها الأنثوية. ويشير البيت الثاني إلى طهر قلبها الذي أخذته عن المريميّ (يوسف النجار) المعروف بما جبل عليه قلبه من النقاء الأسطوري مقارنة ومقاربة بينها وبين عاشقها "صاحب القِدْرِ الكبير" الذي تحول مع تحولها إلى عاشق من نوع خاص. تقول مقررة حاله:

كلّ فجر تدخلُ غرفة حُروفكَ

وتنسجُ لي قصيدةً تُذيبُها في محلولِ العشقِ

وتصُبّهَا فرِحاً على حرفي المنقوعِ في قِدْركَ

فالعاشق هنا يصنع مزيجاً متجانساً من حروفهما التي يعمدها بنفسه ليس بالماء هذه المرة وإنما بالنار لتخرج نقطة معشوقته بيضاء من الطهر، وناصعة من القداسة. والعماد هنا موصول بالسيد المسيح كمتفرد باستخدام النار في العماد من جهة وبصبر المتصوفة العارفين من جهة أخرى. ولا تكتفي الشاعرة بهذه المواصفات بل تضيف اليها الكثير في محاولة لبلوغ الحب الخالص النقي. تقول متأوّهة من اجل ذلك الحب:

وأنا، آهٍ منّي، آهٍ منّي

أنا صاحبةُ الصّواع القمَري

كلّ ليلة أقرأ صحيفة قلبكَ وأسبرُ أغوارَها

فالحب يقتضي تلك القراءة، وذاك الغور في القلب من أجل اكتشافات جديدة تضع العاشقة على جادة اليقين وهي العارفة بجنوحه دوماً إلى حواء أخرى وأخرى كما هو حال آدم من قبل ومن بعد لا يهمه أن يقاسم الأنثى فراش الزهور، أو ينجب منها ما ينجب، أو يمتص الشهد من رحيقها الفردوسي، أو أن يطوف على سطح مائها الرقراق، أو يغرق ببحر أحلامها الزاهية، وفقط يهمه أن:

تداوي بيدهَا الطّاهرةِ

جراحَ فِراقِنا الأول عنْ معشوقنَا الأزلي

القصيدة كشفت عند هذه النقطة محنة حب مؤجلة، ومعضلة عشق كامنة قابعة في أغوار الروح، وفي جوانية النفس العاشقة العارفة. جعلت العاشقة تردد ثانية ناهية:

لا تعبثْ يا حبيبي بالعشقِ معي

 فأنا مثلكَ منْ هُناكَ

ومثلكَ شربتُ من معينِ الكوثرِ

وتعَمدّتُ كالأنبياء بمياهِ نهر الأردن،

وغطستُ وسطَ مياهِ دجلة والفرات والنّيل

ومثلكَ لا تستهويني الغيوم العابرة

ولا صاحبَ لي سِواه، حبيبي وحبيبكَ

الثابتَ الغائب، والظاهرُ الباطن

الحي القيوم، والديمومي الأبدي

*