قراءات تأويلية في مسرحية راهيم حسّاوي

(السيدة العانس)

  

   مسرحية (السيدة العانس) واحدة من المسرحيات التي لفتت انتباهي إليها وأنا أطالع نصوص العدد الخاص من مجلة (الموقف الأدبي) 474 ـ 475 الصادر في دمشق نهاية العام المنصرم 2010 .وما مقالتي هذه إلا بعض ما قرأته فيها.

قراءة العنونة:

   بنيت عنونة المسرحية على مفردتين: السيدة، والعانس لتوكيد حال أراد المؤلف جر الانتباه إليه، وإلقاء الأضواء على تأويلاته، وقدرته على الإيحاء بما سيتضمنه المتن من شخوص تقف (السيدة العانس) في مقدمتهم من حيث الصدارة، والأهمية، والأولوية، والهيمنة على أجواء المسرحية، ومساراتها الدرامية والفكرية. فالعنونة تشي بمكانتها من نص المسرحية من الناحيتين: الشكلية والمضمونية حتى يخال لمتلقي العنونة أن النص كتب لها ومن اجلها حسب. حالها حال الأعمال الدرامية التي حملت أسماء أبطالها المحوريين، ولنا في تاريخ المسرح نصوص لا عد لها مثل أوديب الملك، أنتجونا، الملك لير، هاملت، ماكبث، يوليوس قيصر، فاوست، كاليجولا، غاليلو غاليليه، كاوه دلدار، الحسين ثائراً....الخ. فهل جعل الكاتب من العانس حقا شخصية محورية؟ هذا ما سنتعرف عليه من خلال قراءاتنا اللاحقة.   

لنعاين المفردتين ثانية متقصين فيهما عن دلالتيهما اللغوية والدرامية. ولنبدأ من معناهما اللغوي وننطلق منهما إلى دخول عالم المسرحية. فالسيد أو السيدة حسب ما جاء في لسان العرب لقب:

"يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحْتَمِل أَذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم، وأَصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد، فقلبت الواو ياءً لأَجل الياءِ الساكنة قبلها ثم أُدغمت"

وهذا المعنى يعزز ما قلناه عن مكانتها من النص، وسيادتها عليه من قبل الدخول إلى متنه طبعاً. أما العانس (من الرجال والنساء) فهي تعني وحسب لسان العرب أيضاً:

"الذي يَبقى زماناً بعد أَن يُدْرِك لا يتزوج، وأَكثر ما يُستعمل في النساء. يقال: عَنَسَتِ المرأِة، فهي عانِس، وعُنِّسَت، فهي مُعَنِّسَة إِذا كَبِرَت وعَجَزَتْ في بيت أَبويها"

وهذا المعنى بدلالته الواضحة حدد لنا نوعها الأنثوي، وحالتها الاجتماعية والنفسية. فمما هو شائع أن للعوانس جنوحهن إلى السيطرة، والاستحواذ، وبسط النفوذ، والهيمنة على الآخرين بفعل ما تضمره من طاقة جنسية تتفجر في داخلها متحولة إلى فعل دال على الكبت دلالته السيطرة والنفوذ. وقد يأخذ أشكالاً أخر غير ما ذكر كتفجّر شعري أو أدبي أو علمي..الخ. المفردتان معا تمنحان المتلقي معنى يجمع بين قوة وسيادة الشخصية من جهة، وبين ضعفها وجنوحها إلى تعويض ذلك الضعف بالسيطرة والاستحواذ من جهة أخرى. وعلى ضوء هذا تكون العنونة (كثريا للنص) قد أضاءت بشكل استباقي بعض ما خفي من المطبات الداكنة المؤدية إلى النص، وعالمه الفكري والدرامي. لقد اشتغلت العنونة على كونها بوابة الدخول إلى المتن، وبسملته الافتتاحية، ونافذته المطلة على مشارفه كلها.

 قراءة المقدمة:

    من الأهمية بمكان قراءة المقدمة التي كتبها المؤلف لنصه، والتي جاء فيها:

"يفترض أن تكون هذه المسرحية مكونة من عدد كبير من الفصول، وهذا النص يمثل الفصل الأخير لتلك الفصول، وذلك لأننا لا ندرك من حياتنا شيئا سوى الفصل الأخير، فحياتنا التي نحياها هي فصل أخير لفصول ما قبل الولادة."

 هذه الملاحظة التي اعتبرها المؤلف مقدمة لنصه سعت إلى التأكيد على أن النص الذي وضعه في متناول أيدينا إن هو إلا الفصل الأخير من دراما حياتنا التي لن تتوقف عن استمراريتها فدائما ثمة فصول ما بعد الفصول. وان حركة الحياة ستظل محافظة على ديناميتها إلى أجل قد يطول أو يقصر لكنه في النهاية يلتقي أو يفترق مع حياتنا وحركتها الدائبة. وعلى الرغم من أنه يعرف أن هذه المقدمة لن تدخل إلى عرض المسرحية إلا من خلال المعنى العام للعرض إلا انه ثبتها في النص على وفق احتمالين: الأول اختص بمتلقيها قرائيا والذين سيطّلعون على الصغيرة والكبيرة في النص من خلال قراءته. والثاني اختص بمخرجيها أدائياً حيث يفترض أنهم سيحملونها على محمل الجد كفكرة تتنفس من رئة أفكار العرض الشاملة. ولنا أن نفترض هنا أيضاً أنها ستوضع على (بروشور) العرض ككلمة ضرورية لمؤلف النص. فإذا سلمنا إلى أن لا شيء يوضع في المسرحية (من الداخل أو الخارج) إلا وله دلالة وصلة بجوهرها فاننا في خطواتنا المقبلة سنعاود الإشارة إلى هذه الدلالة وتلك الصلة. أما الإهداء فقد سعى إلى تقديم صورة جميلة لعامل القمامة المخلص لعمله الذي يتجوهر في تنظيف حياتنا مما لحق بها من قذارة واتساخ. ثمة علاقة بين هذا العامل وعمله وبين النص وأحداثه أو هذا ما تفترضه قراءتنا على الأقل لفحوى الإهداء وارتباطه بالنص. فالإهداء في مثل هذه النصوص ـ كما هو حال الهوامش أيضاً ـ لا يأتي اعتباطا ولا محض رغبة أو محبة للمهدى إليه حسب. بل هو غرض مهم يصب في مصب دعم الفكرة العامة للنص المسرحي.

قراءة المكان:

   بدءًا يمكننا القول أن المؤلف حدد الظرف المكاني لأحداث المسرحية، وترك أمر تحديد ظرفها الزماني لمتلقيها. فما هي مؤثثات المكان، وما الغرض منها في عمل ينحى إلى الرمزية المدخلة في الواقع الاجتماعي المعيش؟

يخبرنا توصيف الكاتب لبيئة النص أن أحداث المشهد الأول تدور في متجر للأحذية تعود ملكيته إلى (سيد متجر الأحذية) زجاج نافذته أصابه الكسر وظل على حاله، والكرسي الذي يجلس عليه أصاب إحدى أرجله الكسر وظل على حاله، والطاولة آيلة للكسر وظلت على حالها أيضاً. كل مؤثثات المتجر توحي بالجنوح إلى الكسر كدلالة على السلوك العام لـ(سيد متجر الأحذية) ولا مبالاته في إصلاح ما كسر فإذا ما خلصنا إلى أن المكان يشكل انعكاسا لمالكيه فأننا نجد أنفسنا أمام حالة سلوكية تشي باستمرار هذا الفعل (الكسر) على مدى مساحة النص المسرحي. وضمن توصيف الكاتب لبيئة النص أشار إلى وجود قبو داخل المتجر يستخدمه (ابن القبو) كغرفة للنوم والمعيشة أراد به المؤلف أن يميز بين حالتين مختلفتين تتمثل الأولى بمكانة صاحب المتجر، وامتيازاته الاستعلائية، والاقتصادية والاجتماعية، وتتمثل الثانية بمكانة (ابن القبو) المتدنية والغارقة بالمذلة أسفل الصرح العالي لسيد المتجر. ومن مؤثثات المكان الأحذية المعروضة على الرفوف وهي بألوان مختلفة يطغي عليها اللون الأسود ويعلوها الغبار وستتضح لنا نوع العلاقة بين هذه المعروضات ـ من خلال علاقة السيد بزبائنه الذين يرتادون متجره ـ عندما ندخل في باب قراءة النص المسرحي. وللألوان في هذه المؤثثات دور كبير في إبراز الجانب الآخر من حياة شخوص المسرحية.

 قراءة النص:

   يبدأ النص برؤية قاتمة للعالم الذي أوشك على نهايته (الزمان) والحكم على المكان (المدينة) بما يجعله غارقا بالشؤم، والتعاسة، والقبح، والنساء الأكثر قبحا منه في الواقع، والأشد رغبة في الفراش. كما تشي بداية النص بالفوارق الطبقية، واختلاف مستويات العيش، وانقسام مجتمع النص على ثلاث فئات اجتماعية يمثل فيها (سيد المتجر) قمتها، ويمثل (ابن القبو، وابن القمل) قاعدتها السفلى. أما المرأتان (الأرملة العوراء والسيدة العانس) فتمثلان الحالة التي تتوسطهما. وترتبط هذه الفئات بعضها مع بعض من خلال علاقتها بـ(سيد المتجر) بطريقة تشي بمحوريته وهيمنته على أحداث النص والشخوص. ونظرا لعدم ظهور (السيدة العانس) في هذا المشهد، واقتصار ظهورها على المشهد الثاني حسب، ونظرا لضعف تأثيرها من حيث الأهمية والهيمنة لذا احتفظت شخصية صاحب المتجر بمحوريتها. وفي هذا تعارض واضح لما افترضته العنونة التي كان حريا بها أن تفترض (سيد المتجر) بدلا من (السيدة العانس) وهذا أمر سنعيد النظر فيه لاحقا.

يبدأ المشهد الأول بحوار يتسم ببعض الغرابة بين صاحب المتجر وخادمه الذي يبرر سهره إلى ساعة متأخرة وإهماله تنظيف الأحذية إلى القط الذي لم يعد يموء منذ ستة عشر يوما ونصف على الرغم من انه حرك رجله اليسرى بينما لا يهتم صاحب المتجر لما يقوله الخادم وفقط يكتفي بإصدار الأوامر، والتلويح لخادمه بحرمانه من وجبة أكل كاملة أو أكثر قليلاً. في هذا المشهد يظهر صاحب المتجر متسيدا، ومتنفذا، ومتحكما بكل ما يحيط به داخل بيئته الخاصة (المتجر) وخارجها. كما يبدو ارتباط الخارج بالداخل واضحا من خلال الدور الذي يلعبه صاحب المتجر وتأثيره الكبير على الناس الذين يعيشون تحت رحمته منفذين له ما شاء من الرغبات، والشهوات. وفي الوقت نفسه يشعر أنه مهدد بأمور غامضة وأنها لا بد أن تثير المتاعب حوله يوما ما. يقول على سبيل المثال:

"أي فلاح حقير قد اختار رأسي وراح يزرع فيه مزارع الفلفل الحاد وأي بوصلة شمطاء حثت ثعابين الليل على الزحف نحو أوردتي(يتجه نحو باب القبو) وأي شئ يفعله ابن القبو بفردة حذاء نسائية (يمد رأسه نحو باب القبو) هيا أسرع أنت وفردة الحذاء إلى هنا هل تسمعني؟ إني لا أرى شيئا، أخاف أن يكون ندائي هو أيضا لا يبصر شيئا في ظلمة هذا القبو"

هذا القول المقتطع من بداية المسرحية يوحي بأشياء مهمة ربما لم يرد النص التطرق إليها بشكل مباشر فاكتفى بالتلميح متحاشياً التوضيح.

ومن المدهش أن العلاقة بين الداخل والخارج تقوم على الأحذية كواسطة للترابط والتواصل، وإشباع غايات الشخوص. المرأة العوراء تتحدث عن أبنائها وكيف يركلون الحجارة الصغيرة بأحذيتهم وصاحب المتجر يحدد علاقته بها من خلال توفير الأحذية لأبنائها ليقضي منها وطرا، والخادم يتشبث بفردة حذاء نسائية لغاية مضمرة في ذاته. وينتهي المشهد بذهاب (سيد المتجر) وراء (الأرملة العوراء) إلى بيتها.

في المشهد الثاني تظهر (السيدة العانس) ومعها خادمها (ابن القمل). المشهد يكشف عن وجود علاقة سابقة بين (سيد المتجر) وبين العانس. وتبدو الحوارات فيه ذات طابع غرائبي يشي أن الشخوص غير أسوياء، وأنهم يعانون من انتكاسات نفسية، وأمراض اجتماعية تأقلموا عليها، واعتادوها بفعل ممارستها يومياً وتفصيلياً. المشهد بعمومه إذن يكشف عن علاقات مشوبة باضطراب، وخلل دائم، يصب في مصب المنافع الذاتية حسب. فالمرأة العوراء ـ على الرغم من التشويه الجمالي الذي تقصده الكاتب فيها ـ تمنح (سيد المتجر) ما يريد منها مقابل منحها ما تريد منه. وهذا ينطبق على (السيدة العانس) التي أصاب وجهها التشويه أيضا. إن كل شخوص المسرحية يعانون من التشويه كدال على ما لحق العالم من الخراب والاضطراب. ولعلنا إذا دققنا في المشهد ثانية فأننا نتوصل إلى أن العنونة قد حددت نفسها بشخصية لا تمتلك امتداداً لها داخل النص مثل ما تملكه شخصية (سيد المتجر). وبما أن الفعل التسويفي الأخير اقترن بالقط المتوقف عن المواء فكان من الأجدر إن ترتبط العنونة به لأنه يمثل ما سيؤول إليه وضع الشخوص بعد اكتمال النص المسرحي، أو بعد قدرة القط على المواء.

 في الفصل الثالث يلتقي ابن القبو بابن القمل فيتفقان على ترك عالم الفوق (ظهر الأرض) للعيش في عالم التحت (القبو) وهما مستبشران بمواء القط ثانية: 

ابن القبو  : سيموء، لا بد أن يموء.

ابن القمل : نعم سيموء، ونحن سنموء معه.

ابن القبو  : سيموء

ابن القمل : سيموء

ثم يودعان القمل والأحذية لينتهي النص منفتحاً على ما يأتي من المشاهد المقبلة التي سوف تستمر باستمرار الحياة. قراءة المشاهد الثلاثة تشي أن الكاتب أراد الوصول إلى هدف صعب عليه تحديده، وتغليبه في النص. وهذا هو ما جعله يركن إلى الغموض (العلاقات المتشابكة والمعقدة) والترميز (العلاقات مع الأشياء كالقمل، والقبو، والأحذية) والتشفير (الزجاج المكسور، والكرسي، والمنضدة). فضلا عن استخدام الظاهرة الطبيعية (الرعد) لكسر ما تبقى من الزجاج في نهاية المسرحية كإشارة إلى نهاية زمن عسير، وغسل آثامه وقذارته بالمطر الذي سيعقب الرعد.