قراءة أولية في قصيدة سعد جاسم

(هو يشبه أنكيدو)  

       

            الشاعر سعد جاسم                                       الناقد صباح الأنباري

في قصيدة الشاعر سعد جاسم (هو يشبه أنكيدو) تبدأ العنونة بتحديد ذكورية الشبيه (هو) متبوعة بمفردة تعريفية تشبيهية (يُشْبه) وأخرى حددت المشبّه به (أنكيدو) فمن (هو) هذا الذي يُشْبه (أنكيدو) ويثير فينا الفضول لمعرفة هويته الشخصيّة والمكانيّة؟

هو الذي أتى

من ينابيع الفرات

يحيلنا مفتتح القصيدة إلى ملحمة (كلكامش) على الرغم مما أدخله سعد جاسم من تغيير في جوهر الفعل الكلكامشي (هو الذي رأى) ليصبح في قصيدته (هو الذي أتى) وليضعنا أمام شخصية جديدة هي شخصية (الآتي) بدلاً من شخصية (الرائي).

 في هذا المفتتح ثمة محددان: الأول اجترح فعل الشخصية (أتى) فأضفى عليها سمة المجيء إلى ما لم يحدد بعد ولا لأي غرض أتى، والثاني حدد مكان المجيء فأضفى عليه صفته الفراتية. ولما كانت هذه الصفة تنطوي على معنى عام متضمن على مساحة غير محددة فإن الشاعر منحه التحديد المطلوب ضمن مساحة ما اشتهر به المكان وهو هنا (رحم النخلة) الحاضن الدافئ، والهوية الملحمية للقادم من:

فحولة المراعي

وغواية الحقول

وهما منطقتا الاشتغال على التحول بصفتين متاخم بعضها بعضه الآخر: الأولى مقيدة بقوانين الطبيعة البكر والبراءة الخالصة (المراعي)، والثانية متحررة ومطبوعة بطابع الغواية المفتعلة (الحقول). الثانية نتجت عن التلاعب بمكونات الأولى وتغيير مساراتها الحية والحيوية وتجييرها لصالح قوة ثالثة بشرية متحكمة بفعل قانون استبدال المشاعة العامة بالملكية الخاصة ومن ثم عزل الطبيعة بمكونيها النباتي والحيواني عن الحواضر بمكوّنها البشري والتقني وهذا هو بالضبط ما حصل للشخصية الملحمية أنكيدو الذي وجد نفسه في برية خالصة متآلفة ومنسجمة لم يتركه فعل البشر ليستمر فيها بل عمد إلى إغوائه بمفاتن المرأة وما تملك من قوة الغواية والسحر، بها استنفدت كلّ فحولته، ومن أجلها غادر عالم المراعي لينخرط في عالم الحقول بمباهجها، ومفاتنها، وسحرها الآسر. (الآتي) في القصيدة إذن قدم من تلك الربوع التي ادّخرت فحولة أنكيدو وبراءة المراعي (كمستودعات لطفولة الأرض) وابتكرت لحقولها الغايات، والتحولات، والمحفزات لزعزعة تلك الطفولة وتنحيها عن مسار الشخصية القادمة حيث يتحكم الشخوص بإدخال التغييرات الحداثية التي تسم الأشياء بميسمها التطويري الذي يزيح، أو يغير البيئة بمحددات تقع خارج تلك البيئة حيث الفعل البشري المؤثر والمغيّر لمسارات الطبيعة. (الآتي) إذن لم يختر الحقول إلا مكرها بغواية خطفته لتلقي به:

"الى مدن الصيرورة"

التي جعلته قابلا للتحوّل إلى كائن مختلف بعد أن فضّت بكارة المكان، وفرضت المدينة كحاضنة جديدة تزخر بكل ما يجعله نقطة ترزح تحت هيمنة مسارات عديدة ينوء بثقل موجهاتها من:

"الذهول... النساء.."

إن سعد جاسم وهو شاعر رافديني يشتغل على ملحمته السومرية (كلكامش) مستلهما منها بطريقة مشرقة حياة إحدى شخصياتها الرئيسة (أنكيدو) الذي أذهلته امرأة المدينة العاهر (شمخه) وتمكّنت من غوايته فأبعدته عن المراعي وبكارتها لتلقي به في المدن وغوايتها حيث:

"الغموض... الأيدولوجيات

الشهوات... المكائد"

في هذا المقطع المختصر الصغير يكثف سعد عالم المدينة الذي سيكون غامضا لرجل مثل القادم من ينابيع الفرات والذي يصدم، أو يصهر، أو يخضع لقوى ايدلوجية مختلفة تقتل فيه ما تبقى له من النقاء والبراءة. وسيذهل ثانية عندما يجد سلطة الكراسي متحكّمة بكلّ شيء من حوله وسيعمل بسذاجة للدفاع عنها، والذود عمن يمسك بها عن طريق النار والحديد وفي هذا إدانة واضحة للسذاجة والبدائيّة التي تقف منبهرة أمام الحضور المديني المهيمن:

"والمتلونين الذين يقايضون

الدم بالكراسي

والأسرار بدولارات المتعة"

إن نظرة سعد جاسم للسلطة كانت وما زالت منطلقة من أولويات تصب كلّها في خدمة المتلونين والمبدلين جلودهم على مر التاريخ ابتداءً من نظام المقايضة وانتهاء بنظم الدولار، ومن البراءة الى الغواية، ومن الملحمة إلى الواقع، ومن اولئك الذين (يقايضون) في الماضي إلى هؤلاء الذين يدفعون بـ (الدولار).

 في المقطع الثاني يستمر سعد في التعريف بجوهر الآتي الذي أجّل هذه المرة فعله الماضي (أتى) مكتفيا بالإشارة إليه:

هو الذي....

لأن المعرّف قد بلغ التعريف، والمشبه قد بلغ التشبيه، وأكتفى القارئ بالإشارة دون العبارة. الجديد في الشخصية هو التصريح عن جوهرها ذي الطبيعة الريفية المحض في نزعاتها ونزواتها وهذه مشتركات بين الشخصيتين. بين شخصية )أنكيدو( الملحمية التي ترعرعت في المراعي وشخصية )الآتي( الشعرية التي ترعرعت في الريف وما يقرّب بينهما هو قدرهما المكتوب على لوح رافديني واحد كجزء لا يتجزأ عنهما وان انفصلا واقعيا. فما يميز هذا اللّوح أنه:

"مصاب بالذكرى

وشظايا الفقدان

وأنيما الطين"

علل يرتبط بعضها ببعض على مرّ العصور والأزمنة بطريقة سلبية في الاسترداد، والنسيان، وفقر الدم التاريخي فتأتي الذكرى ناقصة أو مصابة بالتشظي والفقر مما جعل المرض يدور في حلقة أو حلقات تعيد نفسها دون الخروج إلى فضاءات أخرى خارجها وهذا هو حال العراقي العالق أبد الدهر بعلله على مرّ التاريخ.

في المقطع الثالث يعيد الشاعر الكرّة ثانية فيترك مساحة فعل الشخصية فارغة ليؤكد على ريفية الآتي في الحب وظيفة وغناءً، شغبا وصداقة، خمرا وولعا، وعلى ريفيته:

"في الخسارات

التي لا تنتهي"

وفي المقطع الرابع تدوير للمساحة نفسها، وتأكيد على ريفية الشخصية التي على الرغم منها بدت ملحميّة بما يكفل الشبه بينها وبين أنكيدو. ونتيجة لهذا يبلغ التناص ذروته في المشبهات فثمة طقوس للحانات ورحلات للأحلام وحروب هي في حد ذاتها مشتركات بين الشخصيتين تخرج منها الشخصية بمفارقة عجيبة ورأس مفقود:

"حتى أنه

وذات سكرة ملحمية

أضاع رأسه في حانة أفاقين

قبل أن يكمل

رقصته السومرية

وكأسه الأخيرة"

وهذه هي الذروة التقليدية كما يبدو للمأساة الرافدينية التي لا يكاد فعل الفرح فيها يبلغ نهايته حتى ينحرف الفعل عن مسار الفرح والانتشاء إلى التراجيدية والمأساة السوداء.

 (هو يشبه أنكيدو) إذن قصيدة نجحت في استخدام المفردات المكثفة استخداما أيقونيا بني على أساس التناص الملحمي، والاستلهام الأسطوري المشرق لملحمة بلاد ما بين النهرين. وهي من القصائد التي تجلّت فيها المأساة الرافدينية بشكل عام والفردية بشكل خاص.