المكان وفراديسه السود

في قصيدة سهيل نجم (رباعية الباب الشرقي)

-

الرباعية مفردة أطلقت على نظام شعري ذي أربع أبيات تتشابه قوافيه وقد يشذُّ عنها بيتها الثالث أحياناً كقول الشاعر

لا تشغل البال بماضي الزمان

ولا بآتِ العيـــــــــــــــش قبل الأوان

واغنم من الحاضر لذاتـــــــــــــــــــه

فليس في طبع الليالي الأمـان

 والرُباعية مفردة جمعها رُباعيّات، ولا علاقة لنظامها التقليدي هذا بالمعنى الذي أراده الشاعر في عنونة قصيدته ( رباعية الباب الشرقي) إلا من حيث كونها عدداً لأربعة قصائد فرعية هن على التوالي: أزقة، اللعبة، الثمن، البخت، وتشكل هذه الفرعيّات الأربع أعمدةَ القصيدة التي ثبتت بوساطتها واحدة من أهم البوابات القديمة (الباب الشرقي) وهو الباب الشهير الذي يتوسط بغداد حالياً والى جواره أكبر معالمها الحضارية كنصب الحرية للفنان الكبير جواد سليم، وجدارية السلام للفنان الكبير فائق حسن، وحديقة الأمة، وساحة التحرير، وقريباً منها ساحة الطيران وساحة النصر. إن كلّ معلم من هذه المعالم الكبيرة يعد حاضنة مهمة لتاريخ العراق النضالي الطويل، ومعاناته من أيام سومر وحتى بداية خمسينات القرن الماضي، وإن الوقائع والأحداث اليومية لهذه الأمكنة المهمة هي ما أهتم بتفاصيله الشاعر سهيل نجم الذي حاول أن تكون كلّ قصيدة فرعية من رباعيته مرآة تنعكس عليها معاناة الإنسان العراقي، ومكابدته، ومواجهته بشكل يومي لتيارات الدم. لندخل إلى عالم القصيدة إذن من بوابتها المركزية:

بوابة للموت وللمنأى.

 هذه البوابة لم تكن مجرّدَ بيت من أبيات القصيدة الفرعية (أزقة) حسب، بل هي مقطع أول من مقاطعها الخماسية. فان تأملناها ملياً سنجد أنها تضمّنت على مفردتين كبيرتين: الموت، والمنأى أو الغياب الكلي والجزئي. وهما مفردتان تجبراننا على الولوج، شئنا أم أبينا، إلى الخوض في غمار الفلسفة والتصوف لاستكناه معنى الغياب لكننا سننعطف عنها لنتأمل محاولة الشاعر في تقديم وصف دقيق للباب الشرقي الذي لم يجد أكثر دقة من وصفها بالموت والمنأى فهما جوهر ما آلت إليه الوقائع اليومية والتفصيلية في هذا المكان الذي وضحت فيه كلّ معالم الدمار والخراب والفساد والانهيار. وما الباب الشرقي إلا صورة مكثفة للواقع العراقي بكلّ تناقضاته وويلاته واحتراباته الطائفية والمذهبية و.. و.. إلخ.
 
في الجزء الثاني من خماسية الـ(أزقة) يصبُّ الشاعر بوحه في ثلاثة أسطر من النقاط المتساوقة الممهدة للدخول إلى فضاء الأزقة، وهو فضاء مشبع برائحة الجثث المهملة، والدم المتخثر، والرؤوس المقطوعة، والأعضاء المسلوبة و.. و.. إلخ. فالنقاط هنا تروي تاريخ المكان (الأزقة) وتحوّله إلى بؤرة للقتل على الهوية، أو للذبح بأنواعه المختلفة. ومن المؤكد أن لكلّ قارئ رؤيته لما وراء النقاط لكن خصوصية القراءة لا تقف حائلاً بينها وبين ما هو عام فيها فكلّ القراءات وإن اختلفت رؤاها تصب في مصب القتل والدمار والانهيار. بعد هذا البوح المكتوم الذي شكّلت النقاط جوهره الخفي، ورسمه غير المرئي يبدأ الشاعر بوحه بصريح العبارة مطالباً بسقوط المكان:

بمعاطفنا الدموية 

سنطيح بالمدينة

 فالمكان الذي تلوث بفعل من جاءوا ومن رحلوا لا تقوم له قائمة إلا ببنائه من جديد، على وفق رؤية الشاعر، وهذا هو ديدن أمكنتنا بالأمسِ البعيدِ أو الحاضرِ القريب. لقد اتّشح المكان بالسواد، واغرورق بالحزن، وملأت أرجاءَه صرخاتُ العذارى واستغاثتهن، وداهم النحيب البيوت مستعمراً صدور النساء الثكالى والرجولة المؤجلة، وظلّت الأنصال تتلمظ بشهوة ابتلاع الأزقة والحارات والمدينة.
 
الباب الشرقي مكان مركزي تتحلق حوله أمكنة الشاعر وأزقته الأثيرة متنقلاً فيها من (البتاوين) إلى (كنيسة الأرمن) ومن كنيسة الأرمن إلى (جسر الجمهورية):

تجاوزوا "البتاوين" إلى الجسرِ.

هناك فضوا بكارة الغنيمة

 وهي غنيمة كبرى لم يحلموا بها من قبل وصلت إليهم ففضوا بكارتها فسال الدم العراقي ملطخاً الشوارع بالعار، والأزقة بالدمار، والبيوت بالرذيلة دون سقف زمني لغسل العار، وإيقاف الدمار، وإنهاء الرذيلة. 
 
الباب الشرقي شرفة تطلُّ منها بغداد على بيوت العراق، أو لأقل إنها العراق، فردوس الحاضر والماضي، وقبلة المشرقين والمغربين، والمكان الذي دونه كلّ أمكنة الدنيا. تلوث بقذارات الزمن الرخو فاستبيح كلّ شيء فيه، وما من كريم فيه إلا وذل. تلك هي اللعبة التي استنهضت أصولها القديمة الجديدة ووضعتنا أمام ضمائرنا محرجين خائبين نحن الذين مللنا اللعب بنا كخاسرين على الدوام.

في ( اللعبة) وهي القصيدة الفرعية الثانية من رباعية الباب الشرقي كنا:

نبيع النهار على الأرصفة

ونعلق الليل

على الأعمدة

 فأيُّ عار لحق بنا، وأيُّ انهيار طالنا حتى غدت البيوت قبوراً، والأزقة أوكاراً، والمدينة أوجاراً، وأرواحنا وجعاً بلا بلاسم شافية. في كلّ لعبة اعتدنا أن يكون الغرب خصماً لكنه في الأخيرة حطّ علينا من مشرقنا ليستأثر بـ(سور بغداد العتيق)، ومقبرة (أبو غريب) وعيونه ترنوا لبقية الأمكنة. لقد تحوّل المكان الفردوسي الجميل إلى فردوس جحيمي أسود مهلك لمن لا يصفّق للملثمين الملفعين بالسواد والعتمة والافتراس. لذنا تحت (نصب الحرية) بحريتنا المبددة، ونمنا كشحاذين في (الحديقة) حديقة الأمة البائسة. فأي ثمن دفعنا وأي ضريبة سندفع في قادم الأيام؟ لندخل إلى الفرعية الثالثة ونرى كيف كانت الكلاب تخور بين البشر في (ساحة الطيران)، وكيف التففنا في (ساحة النصر)

وكمنا لهم خلف تمثال "محسن السعدون".

كانوا يرتدون الموتَ

بينا قلوبنا تحرقها الضغينة.

 الأماكن لا تأتي في هذه القصيدة نزولا عند رغبة شعرية حسب، بل تأتي من ضرورة قائمة على مجريات الأحداث ومسبباتها، فالباب الشرقي مكان منفتح على بقية الأمكنة وما يسيل عليه من الدم ينحدر إلى مكملاته الديموغرافية، والشاعر يريد ربط هذه الأماكن بنسيج الدم وشبكته العنكبدموية التي امتدت أذرعها لكلّ بقاعه المجاورة فلا غرابة أن يذكر بعد هذا (مبنى العيادات)، وفندق (أضواء بغداد) و(جدارية فائق حسن) ونهر (دجلة) وما سبق التنويه عنه، وما ارتبطت به القصيدة من الأمكنة.
 
لقد جاءوا بالموت للباب الشرقي، غرزوا انصالهم السود في الصدور المفتوحة على النور والجمال ومن ورائهم كانت تلاحقنا سكاكين الغدر والخيانة فتملّكنا خوف جديد فهربنا وشواخص جدارية فائق حسن تلاحقنا على امتداد شارع السعدون. 

في خاتمة الفروع ورابعة القصائد يظلّ الشاعر عالقاً في السواد بينما يظلُّ المخاطَبُ موغلاً في الطمأنينة والنوم محسوداً على بخته المريب. لقد تكدّس الحزنُ، وامتلأت الشوارع بالقتلى الأبرياء والقتلى المذنبين والشاردين من جحيم الأماكن إلى أماكن أشدّ جحيمية منها منتظرين بيأس وانطواء حلول الفرج الذي استعصى حضوره وما من فرج غيره قادم من الأرض أو هابط من السماء فالأبواب موصدة والباب الشرقي لم يعد بوابة للشمس وضوئها الهابط بكسل حديدي، ولم يعرف أحد لمن الرؤوس المهملة على الأرصفة وقد فارقت أجسادها مع أول خيط من خيوط الفجر. ولم يعد للأحياء من ملاذ سوى الشاعر الذي يقف منتظرا إياهم أمام (سينما غرناطة) وهو يناشدهم:

وفروا الرصاص لجولة أخرى. أقول لكم

إنني ابتلعت موتي كالقطط،

من هنا مرت ظلالهم، وهناك سيدفنون

سرَّهم، فأطيعون،

أنا الآن لا سواي، ورغم صغري،

ملاذكم الأخير.

 لكن المناشدة طارت أعلى من قاماتهم التي قزمتها الأوجاع فحفَّ بها السوادُ. وحده الشاعر دخل (دجلة) مثلما يدخل نبي مغارته فيرى ما لا يُرى ويفعل ما يعجز عنه العاجزون والخائبون والخارجون من القطيع إلى القطيع. في دجلة تعمَّدَ بنار الحقيقة، وجذوة الإيمان، ونار العشق، وجحيم الشعر الأبدي، ورأى رمل دجلة مخلوطاً بالخيانة الصريحة وظلام الخضراء.

كأن ماءه المسحور

بساط يطير بي إلى الوادي الكبير

 إن كلّ الأمكنة، في هذه القصيدة، مرتبط بعضها مع بعض في ذهن الشاعر الذي يرى ويتابع خيط الدم الممتد من المكان المركزي (الباب الشرقي) إلى بقية الأمكنة المجاورة ويرى كيف اصطبغت، من أولها إلى آخرها، بلون الدم مشكلة بمجملها صورة شعرية ومكانية قاتمة مؤطرة بفردوس أسود أثقل من جحيمٍ كابوسي يجثم على صدر المسرات بقوة عشرات الأحصنة العابثة. لقد نجح الشاعر، كما هو حاله دوماً، في الاشتغال على الواقع والوقائع بطريقة شعرية طردت بشكل مركزي كلّ ما فيه من رتابة، وترهل، ورخاوة، وتكرار ممرراً إياها من خلال مصهر لغته الشعرية وصولاً إلى قصوى حالاتها الإبداعية الخلاقة.