الانشطار في قصيدة زهير بهنام بردى

 (نصوص لا تكتبني)

 

في عنونة الشاعر زهير بهنام بردى لقصيدته (نصوص لا تكتبني) ثمة إشارة ضمنية لانشطار قائم بين النصوص وكاتبها ضمن معادلة قائمة على النفي المراد منه اثبات فعل الكتابة واقتصاره على الكاتب حسب فالمعنى الجواني لهذه الجملة هو أنا فاعل الكتابة لا النصوص، وكأن النصوص انشطرت عنه وفرضت عليه إثبات فعله عن طريق نفي فعلها.

العنونة بنيت على مفرديتين: الأولى (نصوص) يفترض وجود منصص لها، والثانية (تكتبني) كفعلٍ تحوَّل فيه المتكلّم إلى مفعول به. بين مفردتي الجملة تقع (لا) التي تغيّر السياق إلى النفي لتراوغ المعنى وتقلب معادلة الكتابة ليكون الكاتبُ مكتوباً ظاهرياً وهو في واقع الأمر القائم بفعل الكتابة. انقلاب المعادلة باستخدام النفي الذي هو بمثابة الإثبات لها يوحي بالانشطار بين قوتين متفاعلتين هما: الكاتب والكتابة وهما في حقيقة الأمر كلٌّ متكاملٌ غير قابل للتجزئة أو الانشطار. من هذا المعنى يبدأ الشاعر الدخول إلى عالم القصيدة منشطراً عن ذاته إذ يقول مفتتحاً القصيدة:

 مرت جنازتي من أمامي

لم أفكر بالقبر

بل بالحقيقة

في هذا المقطع الافتتاحي ثمة كاتبان: الأول هو الرائي الحي الذي قام بفعل الرؤية المباشرة للجنازة وهي تمر من أمامه بقصد الوصول إلى مثواها، والثاني هو الميت الذي مرت جنازته أمام ذاته الرائية الحية والفاعلة. لقد ظل الأول يروي الأحداث بعد أن تخلص من متعلقات الثاني (القرين) ولم يشغل نفسه بالقبر وكيف ستحتضن الحفرة جسده المُسَجّى بقطعة من قماش وفقط كان يفكر بالحقيقة التي لم تعد تعني شيئاً لنصفه الراحل إلى الأبدية فللموت حقائقه الدامغة، وللحياة حقائقها المجهولة ويظلُّ الأحياء وحدهم من يعنى بالحقيقة دون الأموات. من هذا المدخل لشخصية الشاعر تتكشف لنا أول الفوارق التي سنحاول الكشف عن حضورها في المقاطع الأخرى.  

وكنت انظر للنساء خلفي
عاريات من البرد
وابصق من الفرح

اذن بعد رسم الشاعر لصورته واقفاً يرى إلى جثته يرسم لنا خلفية صورته مكونة من نساء عاريات من البرد. بوجودهن كخلفية له يكون قد شطر المنظر لشطرين: الجنازة التي تسير من أمامه، والنساء العاريات من خلفه وهو يتوسطهما باهمال بالغ إذ لم يهتم للأولى فانفصل عنها بالتفكير بالحقيقة، ولم يهتم بالثانية فانفصل عنها بانشغاله بالفرح. ويبدو ان ديدنه هنا هو الانشطار لا عن ذاته حسب، بل وعن مؤثثات حياته الواقعية أيضاً. الصورة العامة للمقطع إذن تشكلت من كتلتين كما تشكلت صورة المقطع الأول من مفردتين حالت بينهما (لا) كما حال الشاعر بين النساء وجثته في هذا المقطع الذي هو في الحقيقة تجسيد للمعادلة التي وضعنا طرفيها من قبل.

أتعثر بظل أعمى

وحين انهض

أرى غطاء رأس الأعمى

يسير بسرعة خلف الأفق

ويختفي

في هذا المقطع ثمة انشطار آخر بين الرائي الذي يشاهد الحدث ويرويه وبين ظله الأعمى الذي يتعثر به فيرى غير غطاء رأسه سائرا بجموح الشاعر إلى ما واء الأفق ليختفي هناك. الظلُّ يسابق الشاعر في طيرانه الأثيري ذهنياً وعلى الرغم من عدم قدرته على الابصار عيانياً إلا أنه يشكّل الابصار الخارق لذهنية الشاعر بسرعتها الحركية الخارقة، وهو يروم الوصول إلى ما بعد الأفق الواسع الممتد إلى آخره. هكذا يبدو الشاعر مولعاً بابعاد ذاته الأخرى أو ظله الأعمى إلى أبعد ما يستطيع إلى ذلك سبيلا. إنه يشطرهما ليظلَّ وجوده منفرداً في عزلة لا تشبهها أية عزلة أخرى. وفي المقطع الذي يليه خلافا لسابقه يريد الشاعر بقاء روحه ملتحمة معه في علاقة أزلية مهددة بالانشار ان هو أقدم على وضع خطوة جديدة على الطريق وتأتي خشيته في هذا من تجربة سابقة عندما كانت تمشي خلفه مباشرة وكان يتقدم عليها بخطوة واحدة فماع جسدها وهو لهذا وبسببه لا يخاطر بخطوة اخرى تلغي وجودها وهي الملتصقة به التصاق الروح بالجسد.

بعد هذه الانشاطارات التي رغب بها والتي لا يرغب بها يسترجع بعض دواعي ذلك الانشطار فيروي لنا كيف كان يجمع بساطيل الجنود خارج الموضع القتالي مطلقاً عليها اسماء الأباطرة الذين كانوا ولا يزالون أسباب اندلاع حروب الحاضر والماضي وهم الذين ينتهكون حرمة الطفولة نهارا، ويحتضنون النساء ليلاً. وامعانا في بيان تلك الأسباب فانه يخبرنا أن كلّ ذكرياته الرمادية التي تتوسط ذكرياته السود والبيض والتي كتبها "عنكبوت أعزل" قد سقطت عندما وضعها أمام مرآة منكسرة تهشمت وتركت لجمرة النسيان. هكذا هي حياة الشاعر التي تتقلب على جمر العزلة والغربة والانكسار والانشطار والسقوط في هوة النسيان. عند هذه النقطة يترك الشاعر ذاته ليروي لنا عن انشطار المرأة إذ يقول في متن القصيدة:

قرب سوق مظلم

كانت امرأة معتمة

تشتري من بائع جوال

تركت ظلها

يجهش بالبكاء

مرة ثانية ينشطر الظلُّ عن الأصل، وتنشطر المرأة عن نفسها في السوق، في صورة عكست معاناتها حين لم تملك من إرادتها إلا ما يجعلها تنشطر عن ظلّها مبتعدة ومخلفة إياه وراءها وهو يجهش بالبكاء، فما جاءت من أجله خاب سعيها في الحصول عليه حتى من بائع جوال رخيص. هذه الصورة التكثيفية تظهر بشكل يكاد أن يكون واضحاً ما حصل ويحصل في الواقع الماردي المعيش. ولا نجانب الحقيقة إن نحن قلنا إن هذه المرأة هي صورة أخرى من صور انشطار الشاعر لاسباب أخرى مضافة لبقية الأسباب. في المقطع الشعري الذي يليه يستعرض الشاعر انشطار الجسم الأثيري (الشبح) عن الجسم المادي وكيف راح يكتب على الجدران بعضأ من الذكريات التي نست نفسها على الجدران. الصورة تشي بما يريد الشاعر كتابته ولم يستع ذلك بحرية كافية. لقد تسببت بعض القيود في حرمانه من التعبير عمار يريد وما لا يريد فشطرته الأمنية ليحققها بسلام واطمئنان.