تراجيدية الأفكار

في مسرحية الكاتب السوري د.حمدي موصللي

إنتحار غير معلن

النهاية/البداية..النتيجة/السبب

  تبدأ مسرحية(انتحار غير معلن)للكاتب المسرحي السوري د.حمدي موصللي من نهايتها.فالمشهد الأول فيها مؤسس على فعل موت الشخصية الرئيسة التي سنعرف بعد اطلاع المحقق على هويتها أنها شخصية د.مأمون الرفاعي.وان موقع هذا الفعل(الموت/النتيجة)يأتي في نهاية جملة المسببات التي أدت إليه.فحياة مأمون الرفاعي لم تبدأ،منطقيا،بالموت.وما هذا التقديم والتأخير إلا لإضفاء الأهمية على المسببات التي أدت إلى هذه النتائج الاستباقية الظاهرية التي تقاطعت مع المنطق العام لاحتكامها إلى منطق مغاير هو منطق النص الذي فرض على الكاتب اشتغاله على الاستذكار(فلاش باك)ولكن دون أن يترك هذا الأمر لشخصياته،كما هو سائد في أغلب الأعمال الفنية،بل جعله مرهونا بشخصيته كمبرمج لأحداث المسرحية.وعليه استطاع أن يتحرر من التسلسل المنطقي،وأن يعتمد على التسلسل الفني للنص فأتاح له هذا أن يقدم النهاية ويؤخر البداية ويتلاعب فنيا بالزمن.

 فعل الانتحار إذن لم يكن فعل المسرحية الذي عوّل عليه د.حمدي موصللي.ولو كان قد عول عليه لجاء تسلسل المشاهد تسلسلا تقليديا،فضلا عن جعل المتلقي،في حالتي القراءة والمشاهدة،يتوق إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى هذا الفعل ألتدميري من ناحية،وجر انتباهه،منذ البدء،عن طريق تقديم فعل العنف الذي يستهويه ويستدرجه إلى عالم البروفيسور الرفاعي وأسراره الخفية من ناحية أخرى.

  ومع أن عملية التقديم والتأخير لم تكن جديدة على الفن المسرحي،ولم تكن من ابتكارات الموصللي إلا أنه استثمرها بشكل أضفى على النص تشويقا مطلوبا لشد المتلقي،منذ البدء أيضا،إلى عالم الشخصية المنتحرة وتثبيتا عمليا لطرفي المعادلة التي اشتغل عليها في نصه فكانت البداية مسبوقة بنهايتها،ونتيجتها مسبوقة بمسببها ففتحت هذه الاستباقية المجال أمامه ككاتب ليقفز من عام 1981،وهو العام الذي انتحرت فيه الشخصية،قفزة استرجاعية، إلى عام 1970،وهو العام الذي ألقى فيه مأمون الرفاعي آخر محاضراته في قاعة المحاضرات بكلية علوم الفيزياء والفلسفة في بون.

 موضوعة النص

     ركزت موضوعة النص على طبيعة العلاقات القائمة بين شخصيات المسرحية من  جهة،والوضع القائم،وظروفه المعطاة في المهجر،من جهة أخرى.فالشخصيات ما تزال تمارس دورها وتخصصاتها خارج دائرتها الاجتماعية بعيدا عن جذور مواطنتها وأصالتها بعد أن فرضت عليها ظروف بلدانها هجرة قسرية سببتها  الموازنة العلمية والمعرفية والسياسية غير المتكافئة بينها وبين أنظمة تلك البلدان الشمولية.

    تبدأ الإشارة إلى هذه الموضوعة داخل النص منذ المشهد الثاني عندما حاورت  الرفاعي  طالبة ألمانية مذكرة إياه بخبث ودهاء انه:

"مجرد لاجئ سياسي اكتسب الجنسية الألمانية"

 متعمدة نكران دوره كعالم في علوم الفيزياء وأستاذ في كلية علوم الفيزياء والفلسفة،في المعهد الحكومي في بون.

         الرفاعي  يعقلن هذا اللجوء ويلقي بتبعته على طبيعة الأنظمة السائدة سياسيا والمسيطرة على مفاصل الحياة كلها فيقول:

"صودرنا في أوطاننا..هاجرنا خفافا وثقالا"

 مستخدما فعلين حدد بهما مسار حركتهم:الأول(صودرنا)ويعني به وجود مجهول خفي قام بفعل المصادرة،مع أنه معروف للمتلقي بهيئة سلطة استبدادية متخلفة.والثاني(هاجرنا)وفيه حدد مسار المغادرة وحجمها.ولكي لا تكون القطيعة أبدية يقرر مستقبلها سلفا:

"حتى هذه الساعة أحلم باني أعود إلى وطني.. أن ابني وطني الذي ولدت

 فيه وعشت طفولتي وشبابي فيه"

    إن المؤلف حاول،من خلال التصاق الرفاعي بوطنه،وحلمه بالعودة إليه،أن يصل به إلى أعلى درجات التشاخص الدرامي الذي أكده المؤلف من خلال شخصيات أخر  كابنة الرفاعي المولودة في بون.وامرأته ذات الأصول العربية التي لا تعرف عن وطنها إلا ما عرفته من خلال بضع زيارات  قامت بها لذلك الوطن،لقد أراد المؤلف أن يحدد نوعية المواطنة ودرجتها وأصولها بتحديده الأنموذج الأكمل الذي جسدته شخصية الرفاعي ولكنه تنازل عن أنموذجه عندما عرض لنا حالة المواطنة التي صنعتها ظروف تهجينية غير ظروف الوطن الأصل. وحتى شخصية الرفاعي،على الرغم من كل مبررات هجرتها،إلا أنها، في رأينا،لا تصلح أن تكون أنموذجا متكاملا للمواطنة على وفق المفهوم التقليدي السائد للمواطنة.

     وتأتي المشاهد الثلاثة الأخر،الثالث والرابع والخامس،مساندة لفكرة الانحياز المطلق للوطن..ففي صيف 1972 وأثناء انعقاد الدورة الأولمبية في ميونخ،نزل الدكتور الرفاعي وعائلته ضيوفا على هذه المدينة ليلتقي بصديقه العربي السعودي عبد العزيز أولا وليلتقي بأعضاء الفرق العربية ثانيا وبأعضاء الفرق العراقية تحديدا.ولم يترك المؤلف شخصياته الرئيسة لتتصرف بعيدا عن موضوعته الأساسية إذ أقحمها في جدال آخر قامت به الطالبة الألمانية نفسها ودارت رحاه هذه المرة حول قضية احتجاز الرهائن الإسرائيليين من قبل فدائيي منظمة أيلول الأسود وتواطؤ السلطة الألمانية مع السلطة الإسرائيلية لإنهاء العملية بالإجهاض والانقضاض على الفدائيين والرهائن وطاقم الطائرة في ميونخ.وهنا يقدم المؤلف موقفه الواضح من الإرهاب والمقاومة على لسان بطله أو أنموذجه الوطني الدكتور الرفاعي من خلال مناقشته مع طالبته الألمانية وزميلتها ومحاولته تجميل شكل الفعل الذي قام به الفدائيون العرب.وهو نقاش يحتاج،في رأينا،إلى مراجعة دقيقة لوضع المحددات السليمة لمصطلحي الإرهاب والمقاومة خاصة عندما يكون فعلهما واقعا خارج محدداته الوطنية،فضلا عن عدم موائمة موقف الرفاعي كشيوعي مع موقف الشيوعية الانتقادي لانتهاكات مثل هذه.

     العائلة تعود إلى بون(الأم والابنة)بينما يظل الرفاعي في ميونخ متشبثا بحجة اللقاء   بأعضاء الفرق العراقية المشاركة في الأولمبياد.ومتابعة نتائجها متابعة تتحول تلقائيا من متابعة الرياضة ونتائجها إلى العملية الفدائية ونتائجها.وكمحصلة حاصل أرى أن الكاتب تبنى رأيا إعلاميا أثبتت الظروف عدم قدرته اللحاق بالمسيرة الإعلامية المتقدمة وذلك عن طريق الترويج لقضية أبطاله ترويجا عسكريا أكثر منه إعلاميا،في الوقت الذي يحتاج أبطاله إلى حركة إعلامية عربية متطورة قادرة على جعل أصواتهم واضحة ومسموعة ومؤثرة بين ضجيج الأصوات العالمية وزعيق فضائياتها ووسائلها الأخرى وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الناس في كل مكان.

 نهايات المتون الافتراضية وبداياتها المدونة  

 بدءا يمكننا القول أن مسرحية(انتحار غير معلن)مسرحية أفكار.وهي لهذا تحتاج لمساحة واسعة تنشئ عليها منظومة أفكارها المتضاربة أو المتقاطعة أو المتصارعة بهدف إبراز فكرة يتبناها النص ويحاول تقريبها من المتلقي بشئ من الفرض المبطن بطريقة فنية.ولما كانت مساحاتها غير محدودة ولا محددة تقنيا،ولأن المؤلف أراد الاستغناء عن الكثير من السرد والاستطراد ليجنب قارئه مغبة الوقوع في الإطالة والرتابة لذا اشتغل على أسلوب نهايات المتون الافتراضية،وذلك بجعل أي فكرة داخل النص تبدأ من النقطة التي انتهت إليها فكرة سبقتها في السرد وأدت إليها في النتيجة.هذه الفكرة تنشأ عادة في ذهن المتلقي اعتمادا على ما توحي فكرة مدونة بما قبلها وتأسيسا على قدرته التأويلية لها.وهكذا بدلا من أن يدون الموصللي كل ما جاء في محاضرة الدكتور الرفاعي التي ألقاها في المشهد الأول يكتفي بالإشارة اليها في لحظة الانتهاء منها يقول على لسان رئيس الجلسة:

 "انتهت المحاضرة القيمة للسيد البروفيسور د. مأمون الرفاعي شكرا له....الخ.."

 ويصار إلى الدخول مباشرة في محاورته من قبل المحاضرين وبهذا يكتفي الكاتب بتفعيل ذهنية المتلقي لمعرفة فحوى المحاضرة ومضمونها.

ويقول على لسان المذيع:

"لاحقا لخبرنا السابق فقد تأكد...... الخ.."

ومن طبيعة الخبر اللاحق يتم استقراء الخبر السابق،وهو خبر افتراضي،فيتجنب الكاتب بهذه الطريقة الاسترسال في السرد والاستطراد اللذين قد يسقطانه في ترهات وترهلات هو في غنى عنها.

ويقول مراسل الإذاعة:

"كما أكدنا سابقا انه بين الواحدة..... الخ.."

 وفي هذا إشارة طفيفة واختصار كبير لما حدث بين الواحدة و......إن الاستغناء عما حدث في الساعة المشار إليها سابقا جنب الكاتب إعادة الخبر وتكراره وبهذا تجنب الإطالة والزيادة غير النافعتين.

      وفي مواضع أخرى نجد الكاتب يعتمد هذه الطريقة من دون أن يضع جملة ما تشير إلى نهاية فكرة افتراضية كما هو الحال في المشهد الرومانسي الذي دارت أحداثه بين البروفيسور الرفاعي وبين عشيقته هيلكا براون.

خيبات الرفاعي وبنية المأساة

       في الفصل الثاني من المسرحية يناقش الموصللي ما تبقى من أفكار النص.ففي عام 1981 وهو العام الذي وقع فيه فعل الانتحار غير المعلن للبروفيسور الرفاعي،تستعرض ابنته أمام مدربها الروسي فاسيلي إحدى رقصات الباليه الشهيرة،فتنال استحسانه الفني لأدائها المتقن وإعجاب أبيها بروعة جسدها وهو يرسم في الفضاء أبجدية لغته التعبيرية الصامتة.وبدلا من أن ينصب الحديث بينهما على الرقص التعبيري والفن،كما هو متوقع في مثل هذه الحالات،فانه يأخذ مسارا مختلفا ينقلنا من عالم الفن والجمال إلى عالم الفكر والسياسة إذ يتناولان موضوعة الشيوعية نهجا وتطبيقا. ومن خلال أفكارهما المتقاطعة يتضح لنا أن البروفيسور الرفاعي شيوعي هارب من العراق بسبب مطاردة سلطة البعث(القومانية)لكل من اعتنق الشيوعية أو ارتضاها طريقا نضالية لتحقيق حلمه بالوطن الحر والشعب السعيد.وان مدرب الرقص الروسي فاسيلي هو شيوعي آخر هارب من بلاده بسبب سأمه من التظاهر بشيوعيته جهرا ومعارضته لها سرا.ونظرا لطبيعة الحوار الذي ينم عن وعي سياسي وفكري متقدم يتبين لنا على ضوئه أن البروفيسور الرفاعي شخصية على درجة عالية من الوعي بثوابت السياسة ومتغيراتها ولكنه على الرغم من هذا ينطلق في بعض أفكاره من منطلق قومي متعصب ناجم عن خلل في تركيبته الثقافية والطبقية.وربما تقصد المؤلف هذا كي يقرب وجهات النظر بينه كشيوعي يؤمن بحق الشعوب في تقرير مصائرها وحل مسألتها القومية حلا ماركسيا سليما وبين قومانيي بلاده الذين يفكرون بإرجاعه للوطن كي يوجه العمل ويقوده في مفاعلهم النووي.وقد أشار الرفاعي إشارات تمهيدية إلى هذه العودة في مواضع مختلفة من النص من خلال تأكيده على ضرورة عودته للمساهمة في بناء الوطن،متناسيا طبيعة السلطة التي طاردته وجوهرها الفاشي،ومغمضا عينيه عن حقيقتها الاستبدادية الشمولية.وما كان ينبغي له أن يفكر في المساهمة  ببناء أسلحتها التدميرية بدعوى بناء الوطن لمعرفته أن لها القدرة على ممارسة الجينوسايد النووي كما مارسته كيمياويا على(حلبجة).

 وفي المشهد الثاني يفشل الرفاعي في معرفة حقيقة التوجه العنصري لعشيقته هيلكا براون فيطلق العنان لعواطفه لتنفلت من عقالها وليذوب بعشيقته حبا وولها.لقد انطلت الخدعة عليه ببساطة تناسبت طرديا مع ما في دخيلته من رومانسية شيوعية وتقاطعت معه لتعصبه،غير الشيوعي،قوميا ودينيا حين اشترط على عشيقته اليهودية الأصل أن يكون زواجه منها على وفق الطريقة الإسلامية تحديدا.وإيغالا في القومية اشترط عودته إلى بلده في محاولة منه لفرض تحالفه على السلطة الفاشية التي مهدت لذلك التحالف وارتضت به كطريق لا بد من سلوكها لتحقيق مآربها المبيتة،مثلما مهد الموساد لاقترانه بهيلكا براون،والاقتران هنا شكل من أشكال التحالف الاجتماعي غير المسيّس الذي يدّخر إمكانية كبيرة على تطبيع العلاقات وحرف المسارات وتحجيم القضايا الأساسية والجوهرية أو تمييعها.

  من هنا بدأت بنية مأساة الرفاعي بالنمو المطرد لتأخذ لها شكلا نهائيا في صورة اغتيال مدروس ومتعمد متبوع باغتيالات أخر ساهمت في طمس الحقائق التي توصل إليها المحقق الألماني كونغسدروف.ويمكننا هنا أن نجمل سلسلة الخيبات والأفعال التدميرية التي بنى على أساسها الموصللي أفكاره التراجيدية وكما يأتي:

 1.   القضاء على فدائيي منظمة أيلول الأسود في مطار ميونخ.

2.   تفكيك أسرة الرفاعي عن طريق اقترانه بمجندة الموساد هيلكا براون.

3.   تدمير المفاعل النووي العراقي تموز.

4.   اغتيال البروفيسور مأمون الرفاعي.

5.   اغتيال المحقق الألماني كونغسدروف.

6.   القضاء على هيلكا براون.

7.   الاستحواذ على ابن الرفاعي لتأهيله تأهيلا موساديا.

8.   إقفال الملف على انتحار الرفاعي بظروف غامضة.

    وتبقى بعض المصائر غامضة أيضا داخل النص إذ لم يشر الكاتب إلى مصير عائلة الرفاعي العربية،على سبيل المثال،وكأنها وجدت لغرض انتهى بانتهاء دورها في التعريف بهوية الرفاعي الاجتماعية ومن ثم تخليه عنها لمجرد التقائه بالمرأة اليهودية الأصل والمثيرة هيلكا براون.وهذا يعني أن المؤلف وضع نهايات لكل الشخصيات إلا عائلة الرفاعي(زوجته وابنته العربيتان).ولم يشر أيضا إلى رد فعلهما الانعكاسي جراء ما حدث لهما منذ هجره لهما وحتى ساعة اغتياله على يد الموساد وربما تقصد هذا أيضا ليظهر ردة الفعل العربية إزاء مأساتها التي تمر،كالعادة،هادئة وباردة بشكل ما بعده هدوء وبرود.أما شخصية عبد العزيز السعودي وزوجته الصديقة المخلصة لهيلكا براون فقد همّش الكاتب دوريهما في النص وكأنهما وجدا ليؤديا دورا هامشيا لا أثر له،سلبا أو إيجابا،على مجريات النص ومساراته الدرامية إلا بحدود ضيقة.

 

***************

*********

****