سوناتا الانتظار

مسرحية: إسماعيل خلف

 

·       الشخصيات:

-       هو.

-       هي.

-       ناظر المحطة.

·       الديكـور:

-       واجهة محطة قطار.

-       مقعد انتظار وسط الخشبة

 

 المشهد الأول

(شاب واقف يمين الخشبة..فتاة واقفة يسار الخشبة..تظهر صورة للقطار وهو يسير عبر شاشة في عمق الخشبة..الشاب والفتاة يراقبان القطار..ثم يتجهان نحو المقعد الموجود وسط الخشبة..ويجلسان عليه..).

هو :(بعد صمت طويل) سافرت.

هي :(بتثاقل) سافر.

هو :(يبتسم ابتسامة صفراء) ستعود يوماً ما.

هي :(تبتسم الابتسامة ذاتها) سيعود يوماً ما.

هو :(بتحدّ) سأنتظرها.

هي :(بتحدّ) سأنتظره.

هو :يجب أن تعود.

هي :بالتأكيد سيعود.

هو :(بانكسار) هكذا هي الحياة..لقاء ووداع..هذا ما قالته لي.

هي :(بانكسار) هكذا هي الحياة.

هو :عندما التقينا أخذت مني وردة.

هي :عندما افترقنا أخذ مني قلبي.

هو :(يلتفت إليها) ما اسمه؟

هي :(بذهول)لا أعرف..مازلت أبحث عن اسمه في جميع القواميس فلا أجده..رغم أني

أراه كل

يوم في المرآة مرسوماً على جبيني وخصلات شعري (تلتفت إليه) ما اسمها؟

هو :لا أعرف..مازلت أبحث عن اسمها في جميع القواميس فلا أجده رغم أني أراه كل يوم

في المرآة مرسوماً على جبيني وشعري الكث.

هي :سأنتظره.

هو :سأنتظرها (صمت طويل).

هي :صمت ثقيل.

هو :كأنما نحن في مقبرة.

هي :فراغ.

هو :فراغ.

هي :يهاجمنا الفراغ كسماء بلا نهاية.

هو :تهاجمنا الوحشة كصحراء بلا نهاية.

هي :إذاً.

هو :ننتظر.

هي :ننتظر.

(تخفت الإضاءة..باستثناء بقعة ضوء عليهما وهما في حالة ترقب..وانتظار..صوت صفير القطار يملأ المكان).

إطفاء

 

المشهد الثاني

(هي جالسة على المقعد..هو يدخل راكضاً)

هو :مساء الـ(( متفاجئاً)أنت؟

هي :(متفاجئة)أنت؟

هو :عفواً هل جاء القطار؟

هي :جاء..و.

هو :(بخيبة) رحل.

هي :(مؤكدة) رحل.

(يجلس إلى جوارها على المقعد..صمت طويل..تتغير إضاءة المشهد)

هو :لقد حل الظلام.

هي :أنا أعشق الظلام.

هو :(باستغراب)عشق استثنائي.وغريب؟

هي :أنا عشت في الظلام .أحببت في الظلام..وأخفيت حبي في طيات المجهول..كل هذا

كان ظلاماً في ظلام.

ذات يوم وجه أبي إلي كلمات جارحة لم أعتد سماعها منه..فبكيت..اندفعت في البكاء..بكاء محرقاً ألهب وجنتي(تضحك) أنا أحببت عن طريق البكاء.

هو :كيف؟

هي :كنت ذات يوم أقف كعادتي أمام النافذة..أبكي..ومن خلال دموعي رأيت شبحاً

يتراءى أمام عيني..وفوجئت بشاب في أحد المنازل المجاورة ينظر إلي..

بوغت بهذا الدخيل..وأسرعت منسحبة إلى حجرتي..وأنا أرتجف..كانت هذه أول مرة أشعر فيها بمثل هذه الرعدة في جسدي..كانت حياتي أشبه بباحث في الصحراء عن شيء ثمين يحاول أن يجده لأنه لا غنى له عنه ولكنه لا يجده.

هو :والشبح؟!

هي :الشبح أصبح فيما بعد..الحبيب..الحلم..الغد الأجمل..ولكن؟

هو :(مقاطعاً) ولكن؟!

هي :(بانكسار) أحطت حياتي بثوب أسود..وجلست أنتظره.

هو :(بتساؤل) تنتظرين؟

هي :الشبح..الحلم..تقدم مني وقال :لقد انقضى الوقت والآن يجب أن أذهب..سوف

نفترق لزمن طويل..وإذا ظللت على قيد الحياة فإنني سوف أعود إليك..وليس ما أطلبه منك سوى شيء واحد..انتظريني، انتظريني ما في وسعك أن تحتملي كآبة الانتظار.

هو :(ينهض..يبدأ الحديث وهو شارد)وقفت أمـام المرآة أتأمل نفسي..أتلمس شعري

الكثيف ببطء عدلت من وضع ربطة عنقي ثم سرت نحو الباب وفي قلبي تدب خفقة الفرح.. سرحت ببصري طويلاً ويدي تعبث بشعري..زفر الألم من قلبي بقوة..عرفت أنها لن تأتي .. أدرت بصري في أرجاء الغرفة أتأملها .. المقاعد .. اللوحات المصلوبة على الجدران المناضد..استدرت نحو غرفة النوم..تأملت السرير..خزانة الملابس واستدرت أضرب الهواء بقبضة يدي لمن السرير..؟ هذه الخزانة ؟البيت..لمن؟!

هي :ولماذا لم تأت؟

هو :لأن حبنا كان خارج أعراف الواقع الذي نعيشه كان السرير شيئاً مستطيلاً يحمل فوقه

فراغاً هائلاً كانت تتجمع في جوف غرفتي دبابات..وعويل أطفال ونساء..وحكايات ثأر وانتقام ..وذكريات دفينة ذكريات لا تحمل إلا البغض والكراهية.

هي :الآن فهمت.

هو :غرفـة النوم بـدأت تؤرقني..تخنقني..تعصر قلبي..كلما نظرت إليهـا..لقد

كبرت..إن وجودها يذكرني بعمر حبي..الحب الذي ولد في حنايا قلبي الكبير نما وترعرع..كنت أذوب قطعة قطعة..أذوب من أجل الإبقاء على هذا الحب..لأجعله يكبر..يكبر حتى يشمل كل جزء من هذا العالم.(يلتفت إليها) أنت توقظين إحساسي من جذوره تنبشين كل دفين داخله

هي :(تنهض..تسرح ببصرها) يخفق قلبي..وتحمر وجنتاي عندما أتذكره..طوال الفترة

الماضية كنت أغني للقطار المار حين أسمع صفارته على أمل أن يكون داخله..ويظل القطار يصفر حتى يختفي بعد أن يترك سحابة الدخان معقودة في الهواء..منذ ذلك الوقت وأنا آتي إلى هنا..أسمع صفارته وأحلم..ولكنه في كل مرة يختفي إلى عالم مجهول.. كل مرة كنت أقول لنفسي جاء قطار أحلامك..

هو :(بانكسار) لكنه..لم..يأت.

هي :(بخيبة) نعم..لم يأت.

هو :ولماذا سافر؟

هي :قال:إنه سيعود ممتلئ الجيوب..(تلتفت إليه..وتهزه بعنف) سيأتي..أنا متأكدة أنه   

سيأتي.. فالقطار لا يزال يأتي.

هو :يأتي..ويرحل.

هي :نعم..يأتي ويرحل..القطار بالنسبة إلي هـو الجسر الـذي يوصلني إلى سـعادتي..

لقد سافر بالقطار و..

هو :(مقاطعاً) أتعتقدين في أمان الحياة ومسالمتها.

هي :(بهدوء) نعم..(بتردد)لا..(بخيبة)لا أعرف.

هو :(بتساؤل ) إذاً؟

هي :لا شيء..سأبقى أنتظر..طالما القطار يصفر.

هو :ننتظر.

هي :ننتظر.

(إطفاء تدريجي ما عدا بقعة الضوء عليهما..صفير القطار يملأ المكان)

إطفاء

المشهد الثالث

(هو جالس ينتظر..تدخل راكضة..من الضروري أن يظهر للمتفرج أنهما أكبر سناً من المشاهد السابقة..).

هو :(يصرخ ضاحكاً) تحياتي أيتها الصديقة..تحيات الشاب المسن..الذي لا يحمل أي ضغينة للحياة.

هي :تبدو فرحاً..هل؟

هو :(مقاطعاً) جاء..و..رحل.

هي :(بلهفة..) من؟

هو :القطار.

هي :(تجلس بخيبة..) ماذا فعلت ؟

هو :لا شيء..جلست أنفث سـيجارتي..احتسيت فنجان قهوة..ثم راقبت القطار حالمـاً

بأنها ستهبط منه..وتجلس إلى جواري على هذا المقعد..تراقب دخان سيجارتي كما كانت تفعل..وأنت ماذا فعلت في الفترة الماضية ؟

هي :لا شيء..كنت أقف وراء النافذة..أنفث انتظاري أحتسي فنجان خيبتي..ثم أراقب

بضراعة النافذة المجاورة حيث لم يظهر أحد..لا أحد يراقب دخان سيجارتي لا أحد يحتسي القهوة أمامي على النافذة المقابلة .

هو :غداً..ماذا ستفعلين؟!

هي :غداً؟

هو :نعم!

هي :غداً لن أقف وراء النافذة.

هو :وأنا لن أجلس على هذا المقعد.

هي :رماد السجائر والقهوة سيملأ المكان.

هو :نعم..يبحث عن الماضي مرتطماً بأخيلة الأحبة.

هي :البارحة احتفلت بعيد ميلاده الأربعين.

هو :وأنا أيضاً احتفلت منذ أيام بعيد ميلادها.

هي :راقصت الشموع..عانقتها..وذبت معها..كي نشكل تمثالاً لميلاده البعيد.

هو :أنا أشعلت الشموع وأطفأتها..راقصت نفسي وبكيت لوحدتي.

هي :بكيت؟!

هو :نعم..بكيت..شعرت بمرارة الخيبة.

هي :مرغمون على ابتلاع الخيبة.

هو :ما من قبل تحيي شفاهنا الميتة..ما من أيد تلوح لنا تلويحة ولو بوردة ذابلة..سافرت كي تنسى وأنا آتي إلى هنا كي أتذكر.

هي :القطارات التي مضت لم تنس أن ترمينا بتذكرة للذكرى.

هو :نعم..والذكريات التي مضت لم تنس أن ترمينا بقطار للرحيل.

(صمت)

هي :(تنهض..)لأنه لا يأتي..أضطر أن أقف على رصيف هذه المحطة لأتخيل طيفه يأتي (تصرخ..) وحشة..وحشة..مرعبة.

هو :أتعرفين ماذا فعل الطائر الذي شكا من الوحشة؟

هي :ماذا فعل؟

هو :عانق ظله.

هي :(باستغراب)عانق ظله؟!

هو  :نعم..عانق ظله..ثم رسم حمامة..وكتب فيها قصيدة.

هي :(تسرح ببصرها..تبتسم..)عندما كنت في الخامسة عشرة كنت طوال الوقت أراقب

صبياً لطيفاً..له عينان سوداوان..مجعد الشعر..كان يلعب مع فتاة من عمره أذكر أنه في يوم ربيعي ألقى نظرة على الطفلة وأراد أن يتجه نحوها ولكنه قبل أن يقدم أجال نظره فيما حوله كما لو كان يشعر بشعور المجرم ثم تقدم نحوها وهو يسير بهدوء..ابتسم لها..وقبلها على خدها..آه كم تمنيت وقتها لو كنت مكان تلك الطفلة.

هو : (يسرح ببصره .. يبتسم) كنت طالباً في المرحلة الثانوية .. لا أعرف كيف واتتني

الجرأة وأحطتُ معلمتي بذراعي فاحمر وجهها وقالت لي:ما هذا ألا ترى أنني في سن أمك؟ فقلت لها:قد يكون هذا هو حبك الأخير ولكنه أول حب لي.

(الاثنان يغرقان بالضحك..)

هي :( تتنهد..بعد الضحك الطويل) وفتاتك..متى؟

هو :(مقاطعاً)كنت في التاسعة عشرة من عمري..كانت ترتدي ثوباً رخيصاً بنصف كم           

وتنتعل حذاء أبيض رغم أن الوقت كان شتاءً كانت تبدو كقطعة صغيرة في أشد الحاجة إلى العطف..كانت ترتعش من البرد فالثوب صيفي رقيق..وليس فوقه معطف..ورغم هذا كانت روحها المرحة تطل من نظرتها..كنت أخرج دائماً في مواعيد متقاربة مع خروجها..كنا نركب باصاً واحداً..كانت نظراتها الحالمة الوديعة تضيء الكآبة التي تحيط بي..كل ما فيها يرشحها لأن تكون أميرة الأحلام لشاب مثلي يغني للنجوم فالحب بالنسبة إلي كان يعني وسادة فوق القمر.

هي : لم تكن تعرف أن الحب مرتبط بالتاريخ والجغرافية.

هو :لست نادماً..لقد اخترت هذا الطريق بملء إرادتي وذات يوم ستنتهي أحزان العالم وسيبحث قلبي عن مسرات تحضنه..مسرات غير عابئة بالتاريخ والجغرافية.

هي :كثيراً ما نحلم بأمور مختلفة..نقضي الليل والنهار ونحن نحلم بها..هي أمور مألوفة..عادية..ولكنها في الوقت نفسه مستحيلة..ربما..(تبتسم ابتسامة صفراء) ربما يأتي اليوم الذي سيشق فيه التاريخ علينا..

هو :(متنفضاً)الحب الذي ينشأ عن العاطفة لا أريده..الحب هو الذي أحس به أدم نحو حواء عندما استيقظ من نومه في الجنة فوجدها تنظر إليه بعينين نديتين.

هي :نموت بالحب.

هو :نعم..نموت بالحب كما عشنا له الحياة.

(الاثنان يغوصان في الحلم..يجولان الخشبة بشكل هستيري)

هي :حلمنا مرة أن نلغي الفصول الثلاثة ونبقى على الشتاء.

هو :الناس في الداخل قرب المدافئ ونحن متعانقان فوق رصيف مبلل نتبادل القبل ساعة والعناق ساعة

هي :الناس في الداخل يرتجفون من البرد..ونحن نركض..نقاوم العاصفة.

هو :الناس يحتضنون المدافئ.

هي :ونحن نحتضن مقبض المظلة.

هو :(يتوقف عن الركض) فجأة توقفنا.

هي :(تتوقف عن الركض) نعم توقفنا.

هو :هنا.

هي :نعم..هنا.

هو :على هذا الرصيف.

هي :نعم على هذا الرصيف.

هو :كنا ننظر إلى سكة القطار وامتدادها وكأننا نعرف أن أمام أحدنا سفراً طويلاً.

هي :كانت أعيننا تتساءل:ماذا تخبئ لنا أيها القدر؟!

هو :(ببكاء) تحتال علينا..تعبث بنا كما لو كنا في مزاد للماشية..نهرب منك لنخر متخلفين نهاية المطاف..فنعود إليك.

هي :نجتر أحزاننا..نحفظ فمنا مقفلاً..فعش أيها القدر..وليحرس الرب حزننا الطويل.

هو :أنت معشوقنا الوحيد (بانكسار) فارض عنا فنحن معلقون من أظافر أصابعنا نحن خدمك المطيعون.  

(الاثنان منهاران أسفل المقعد صفير القطار يملأ المكان)

إطفاء

المشهد الرابع

(يدخل الاثنان في اللحظة ذاتها..يبدوان أكبر سناً..ينظران إلى العمق حيث تظهر صورة القطار ثم تختفي الصورة..يقترب الاثنان من المقعد..يجلسان..)

هو :(يدندن..بهدوء..) يا وابور قلي رايح على فين..يا وابور قلي وسافرت منين..يا وابور قلي

هي :البارحة حلمت أنه سيأتي في الساعة الثامنة مساءً..في الساعة الخامسة رسمت لـه لوحة..وفي الساعة السادسة حفظت قصيدة غرام كي ألقيها على مسامعه عندما يدخل..في السابعة لم يطرق الباب..في الثامنة..لم يطرق الباب..في التاسعة .

هو :(مقاطعاً..بتأفف) لم يطرق الباب.

هي :(بخيبة..) وقتها ارتديت الثياب السود وأعلنت الحداد حتى يتحقق الحلم ويجيء يوماً في الثامنة مساءً

هو :البارحة..الساعة الثانية ليلاً وقبل أن أنام قرأت الكثير من القصائد لنزار..وفي الرابعة والنصف استمعت إلى فيروز..وفي السادسة صباحاً ارتديت ثيابي وأشعلت سيجارتي ومضيت إلى عملي ناسياً أني لم أنم.

هي :أتعرف ماذا فعلت اليوم؟

هو :(لا يرد).

هي :هاتفي لا يرن ورغم هذا جلست بالقرب منـه..عيناي مسمرتان على سـاعة الحائط وقلبي هو النابض لكل ثانية، هاتفي لا يرن ورغم هذا أطلب رقمه للمرة الألف..رغم أنه لا هاتف لدي

هو :(مستغرباً)لا هاتف لديك .

هي :نعم..(تضحك)لا يوجـد أي رقم..وحده الجهاز الصامت الـذي أجلس بالقرب منه..عيناي على الساعة .. وقلبي لا ينفصل عن النبض ..

هو : أتعرفين ؟ يدي عندما كانت تدير قرص الهاتف كانت تعرف من أنين السماعة إن كانت أناملها ستحملها أو أصابع أخرى ، أسعد لحظات حياتي كانت عندما كنت أسدد فاتورة الهاتف وقتها كنت أقرأ في الكشف رقم هاتفها كل يوم أربعاً وعشرين مرة.

هي :(متذكرة) عذراً..نسيت أن أهنئك.

هو :(متفاجئاً) تهنئينني؟

هي :اليوم هو بداية العام الجديد .

هو :(بلا مبالاة )صحيح..نسيت..الأيام تروح وتجيئ..ولا يدري أحد ما يأتي به العام الجديد قطار قادم وأخر راحل..(ينهض ، يدندن وهو يسير) يا وابور قلي رايح على فين.

هي :إلى أين.

هو:أشعر أني متعب..إلى اللقاء..( يسير..وعندما يصل إلى طرف الخشبة يلتفت إليها) اسمعي..إذا احتجت شيئاً ما..اتصلي بي(يرمي إليها بورقة)هذا هو رقم هاتفي.

هي :ولكني لا أملك سوى الجهاز الصامت..لا رقم لدي.

هو :آه..صحيح..نسيت العتب على الذاكرة..

هي :ثم ما الذي بإمكانك أن تقدمه لي..وأنت عاجز أكثر مني؟

هو:لا أعرف..؟ربما استطعت أن أقدم لك شيئاً..هناك أغنية تقول عندما تكون محبطاً وفي مشكلة وتحتاج ليد المساعدة..وكل شيء يسير بشكل خاطئ أغمض عينيك وفكر بي وقريباً سأكون هناك لأنير لك لياليك المظلمة..فقط اهتف باسمي.

هي :أغنية رائعة..ولكنني لم أسمعها من قبل..

هو :سأتي إليك راكضاً لأراكِ مرة أخرى..شتاء..ربيع..صيف..خريف..كل ما عليكِ أن تفعليه هو أن تهتفي وسأكون بجانبك.

هي :هذا ما تقوله الأغنية..أم ما تقوله أنت؟

هو :( متجاهلاً السؤال) كل ما عليك هو أن تهتفي باسمي.

هي :(متذكرة..) صحيح..ما هو اسمك..

هو :(متذكراً) صحيح..ما هو اسمك(الاثنان يغرقان بالضحك..صفير القطار يملأ المكان)

إطفاء

 

المشهد الخامس

(الاثنان جالسان على المقعد .. ملامح الكهولة واضحة عليهما .. يتحدثان بصعوبة)

(صمت طويل)

هي :أراك صامتاً.

هو :أفكر بالغد.

هي :وما الذي يحمله الغد؟

هو :الرحيل.

هي :هل هناك من سيذكرنا عندما نرحل يوماً ما ؟!

هو :لا أظن..أعرف شاعراً قضى عمره يسطر القصائد في رثاء الأحبة والأصدقاء والأقارب وعندما مات لم يرثه أحد بسطر.

هي :وأنا أعرف بائعة زهور..(متذكرة) لطالما باعتنا إياها كي نزفها لبعضنا أو نضعها على قبر من نحب..عندما ماتت لم يضع على قبرها أحد وردة..(تلتفت إليه) أنت متشائم؟

هو : المجانين وحدهم هم الذين يضحكون للحياة ويسمون ذلك تفاؤلاً.

هي :إذاً لماذا تنتظر.

هو :أنا محكوم بالانتظار..

هي :الستون عاماً التي قطعتها على طريق العمر المديد لم تكن لتؤثر فيّ لولا سقوطي من فوق السلم الخشبي المتأكل..كنت أريد الصعود إلى السطح كي أطعم العصافير.

هو :(مقاطعاً) لقد حل الخريف.

هو :لابد أن نجد لنا مخرجاً من نفوسنا الميتة.

هي :كثيراً ما كنت أتمنى لو أستطيع الذهاب في رحلة إلى جهة غيرة معلومة إلى المجهول الذي لا أعرفه ولا أدرك بعده ومداه..فقط لأتخلص من هذا العالم الحانق الذي أعيش فيه.

هو :وأنا أيضاً أريد أن أذهب إلى مكان لا أعرفه ولم أسمع به من قبل.

هي :نسيت أن أقول لك..(بتردد) رأيته البارحة..يبدو أنه عائد منذ زمن حـاولت جاهدة أن أتذكر ملامحه أو صورة وجهه كما عرفتها في يوم من الأيام..ولكنني فشلت لم يكن هو.

هو :يبدو أن الأحلام اختفت..والألوان الصاخبة بهتت أنا أيضاً رأيتها منذ فترة..لم تكن سوى شبح لفتاة عرفتها في يوم ما.

هي :هذه هي خلاصة تجرتنا كل ما بعناه فرح، وكل ما اشتريناه شقاء..أضعنا أجمل سنوات العمر ونحن ننتظر.

هو :كعادة أي مفلس..افتحي دفاترنا العتيقة..وابحثي لنا عن بقايا حلم.

هي :(تضحك بمرارة) سوف أجد في كل صفحة هزيمة وفي كل سطر خيبته.

هو :(بغضب) لا تيئسي..مزقي الدفاتـر كحصان جامح..فثمة أشـجار كثيرة تورق في سنوات العمر الأخيرة.

هي :( تنهض..تقترب منه..تتأمله بحزن) وداعاً.

هو :(ينهض بصعوبة..بتأملها..) وداعاً.

(يسير كل منهما في اتجاه..)

هو :(لنفسه) يا الله..لماذا أشعر بالحنين يجرفني إليها من أين انبثق كل هذا الشوق في قلبي.

هي :(لنفسها) كيف تركته هكذا ببلاهة..كان يجب أن أقـول شيئاً..أي شيء..أي شيء..يصنع جسراً للمستقبل.

(ينظران إلى بعضهما..يمر القطار..لا ينظران إليه يقفان كتمثالين..)

إطفاء

المشهد السادس

(تدخل وحيدة حاملة باقة ورد .. أناقتها غير مألوفة .. المساحيق تغطي وجهها الهرم .. تجلس .. تتأمل المكان .. تخرج مرآة من حقيبتها .. تتأمل وجهها بحزن .. تشعر بالخيبة .. تعيد المرآة إلى حقيبتها .. تنهض بصعوبة).

هي : ها آنذا أقف هنا مشلولة الحركة..ولست أدري كيف أمضي..أرشديني أيتها المحطة يا صديقة

العمر الحزين..إن الزمن حينما يعلن في سرعة انقضاء الساعات الجميلة..إنما يصيبنا بحزن عميق .. نفسي تتخبط وحيدة على وجه الأرض ، الحياة قاسية..رتيبة..لها أنياب وأضراس

(تلقي بالورد على الخشبة) تناثرت أزهار عمري باقة إثر باقة على رصيفك أيتها المحطة وغدوت كالغصن الذي ناح الخراب بجذعه.(تخرج المرآة من حقيبتها..تتأمل وجهها)

المرآة لا تكذب..إنها صداقة صافية..أجل لقد هرمت (تكسر المرآة) ما عدت أقدر على النظر إليك..إني أكرهك..أفرّ منك..أهرب منك..أهرب من كل المرايا..(تنهار على المقعد) أريد أن أطبق جفني وأنام..إني متعبة .

(تخاطب الرجل الذي تعتقد أنه جالس إلى جوارها)

وداعاً..إني أتركك وأرحل بعيداً..حبيبي..صديق العمر الحزين الذي لا أعرف اسمه..حين تغمض عينيّ..قبلهما طويلاً كي تنطبع وتخلد فيهما صورتك التي ستؤنس وحدتي..هناك.

إطفاء 

المشهد السابع

( جالس ينتظر..ثيابه جديدة..بيده باقة ورد..يتأمل المكان..ينهض..يترقب..يعاود الجلوس..).

هو :(لنفسه) وحيداً..حياتي باردة..باهتة..لقد مضى ربيعي وولّى..كل شيء قد مضى وانتهى 

ولم يعد ثمة أمل..وحيداً..كل شيء جفّ وذبل..الوحشة تخيّم على المحطة..حتى قلبي رانت عليه وحشة الشيخوخة..كم أنا في حاجة إليها..

(يقترب منه ناظر المحطة الذي يبدو أنه يراقبه منذ دخوله)

ناظر المحطة :(يصيح) هيه يا عم..ما بك تتلفت في كل الجهات كأنك تبحث عن شيء ضاع منك؟!

هو :أنا يا بني..أنتظر..أنتظر.

ناظر المحطة :تنتظر؟ تنتظر من؟

هو :أنتظر المرآة التي كانت تأتي وتؤنس وحدتي.

ناظر المحطة :ها..عرفتها..لقد جاءت البارحة..جلست على هذا المقعد وأخذت تردد يجب أن

ينام كل شيء..نوماً عميقاً لا نهاية له..دون أن يقلقه من سباته شيء.

نظرت إلى المرآة..بكت..دموعها شوهت منظر المساحيق على وجهها فبدت هرمة أكثر مما هي..ضحكت ثم بكت..ثم نامت..سكت قلبها البارحة هنا على هذا المقعد.

(ردة فعله غريبة..لا يبكي..لا يضحك..لا يفعل أي شيء..يبقى جالساً كتمثال..شفتاه فقط تتحركان دون أي إحساس وكأنه رجل من العصر الحجري).

هو :(يدندن..ببرود) يا وابور قلي رايح على فين..يا وابور قلي وسافرت منين يا وابور قلي

(تظهر صورة القطار في عمق المسرح)

ناظر المحطة :هيه..يا عم..القطار مضى..لماذا تجلس هنا ؟

هو :(بنفس البرود السابقة) إني أنتظرها يا بني أنتظرها قريبة كانت أو بعيدة..هنا أو هناك سأبقى..أنتظر

(تخفت الإضاءة تدريجياً ما عدا بقعة ضوء على وجهه .. موسيقا الأغنية تملأ المكان..)

 

ستار النهاية