عبثية العزف في سوناتا الانتظار

للكاتب المسرحي إسماعيل خلف

صباح الانباري

   لا نأتي بجديد إن نحن أكدنا على أن العنونة هي مفتاح الدخول إلى عالم النص المسرحي من بوابته الأولى. وإن اشتغالاتنا النقدية السابقة لم تهمل ما لهذا المفتاح من دور فاعل في فهم النص وتحديد مساراته المختلفة. وفي هذا النص أيضا (سوناتا الانتظار) سنعمل على أن تكون العنونة مفتاحا لنا في الولوج إلى مطباته ودهاليزه وارتحالاته في عالم شخصيتيه الرئيستين (هو وهي).

العنونة هنا تشكلت من مفردتين:الأولى (سوناتا) وتعني،باختصار شديد، معزوفة موسيقية كلاسيكية تتظافر على أدائها مجموعة كبيرة من العازفين، وهي مصطلح مأخوذ عن اللغة الإيطالية. والثانية (الانتظار) وتعني لغة ترقب شخص ما وصول منتظَر ما لوقت قد يطول أو يقصر تبعا لحالة الشخص المنتظِر. إن دمج المفردتين مع بعض ولَّد معنى تركيبياً معبراً عن النص بكل أحداثه وشخوصه وأفعاله الدراماتيكية فضلا عن أن المؤلف أراد أن يتسم الانتظار في نصه بسمة موسيقية تخفف من ثقله الكابوسي على شخصيتي النص من جهة، وعلى قارئ النص من جهة أخرى. وهذا يفترض أن مجموعة الشخوص المساهمة في الأداء الموسيقي تشتغل من اجل هذا الهدف الإنساني النبيل وان النص سوف لن يهمل هذا الفعل وتأثيراته على سير الأحداث الدرامية، وان السوناتا بشكل عام ستسهم، كمؤثر، في حركة صعود المسرحية نحو ذروتها أو نحو هبوطها من الذروة إلى الخاتمة حسب مقتضيات النص، وموجهاته الفكرية والفنية.

في النص شخصيتان أساسيتان(هو وهي) وأخرى هامشية تكميلية (ناظر المحطة). شغلت الشخصيتان كامل مساحة النص تقريبا  وتحركتا على أرضيته الثابتة (المحطة) التي احتوت مشاهد النص السبعة كرمز تقليدي من رموز الانتظار والرحيل. عند بدء النص نشاهد كل من الشاب والفتاة وقد وقف كل منهما في طرف من طرفي المسرح وهما يراقبان قطاراً ظهرت صورته على شاشة في عمق المسرح، صورة بسيطة جدا لكنها أعطت انطباعا مقصوداً ودخولا فنيا موفقاً لمعرفة أن كل منهما مستقل عن الآخر ولا علاقة له به إلا من خلال انتظار القطار في محطة العمر. وان المحطة أو مقعد المحطة هو نقطة التقاء الشخصيتين والتي توحد بينهما من حيث الغاية والأسلوب. وقد أكَّد المؤلف هذا من خلال طبيعة الحوار الدائر بينهما فهما يرددان الكلمات نفسها وكأن كل منهما منفصل عن الأخر جسدا وروحا وملتحم معه لغة وموضوعاً. يقولان في مفتتح حواريهما: 

هو :(بعد صمت طويل) سافرت.

هي :(بتثاقل) سافر.

هو :(يبتسم ابتسامة صفراء) ستعود يوماً ما.

هي :(تبتسم الابتسامة ذاتها) سيعود يوماً ما.

هو :(بتحدّ) سأنتظرها.

هي :(بتحدّ) سأنتظره.

هو :يجب أن تعود.

هي :بالتأكيد سيعود.

وهذا يعني أنهما يعزفان ضمن هذه السوناتا على الوتر نفسه،وعلى النوتة نفسها، وعلى الإيقاع نفسه وكأن أحدهما صدى لآلة الآخر الذي يتفق معه بلا سابق اتفاق على هذه الحوارات الأولية التي كشفت عن عبثٍ مقصودٍ ولا معقولية بنيت على لا جدوى الانتظارات والخسارات والانكسارات الفادحة التي سوف يدفعان أثمانها من عمريهما. هذه الحوارات بأسلوبها وشكلها أحالتنا إلى حوارات بيكت وانتظاراته اللامعقولة وعلى وجه الخصوص في مسرحيته ذائعة الصيت (في انتظار غودو) والتي امتد أثرها إلى المسرح العربي بعد وقت غير قصير من نشرها، وقد راح اغلب الكتاب ينولون على منوالها حتى صعب علينا أن نقرأ شيئا يخص الانتظار العقيم من دون أن تحيلنا القراءة إلى (غودو) على الرغم من احتفاظ تلك الكتابات بخصوصياتها.

المشهد الأول إذن اشتغل على بنية العبث، عبث الوجود، وعبث الانتظار، وتمسك الشخصيتين به كحالة لا يملكان بديلها، وليس لهما أي خيار خارجها ثم امتدت رقعة هذا الأثر لتشمل المشهد الثاني الذي بدأ بها ثم انتقل إلى ما يخالفها شكلا واداءًا. وإمعانا في التشابه الكبير بين حالتي الشخصيتين فان المؤلف اشتغل على دخول الشخصية الأولى (هو) مسرعا إلى خشبة المسرح في المشهد الثاني ودخول الشخصية الثانية مسرعة إلى المسرح في المشهد الثالث ليوضح من خلال تكرار الحركة أن كليهما يسعى إلى هدف واهٍ مع علمهما انه هدف واهٍ فعلا.

في المشهد الثالث يتضح أن الشخصيتين قد تقدمتا في العمر استنادا على قول المرأة:

 "البارحة احتفلت بعيد ميلاده الأربعين."

والذي أكده (هو) أيضا من خلال احتفاله بعيد ميلاد المرأة التي ينتظرها.إن حالة انتظار المرأة للرجل وانتظار الرجل للمرأة قرَّب لذهن القارئ أمر التقائيهما كحبيبين بديلين بعضاهما للآخر ولكن السؤال المبكر الذي يفرض نفسه هنا هو هل سيلتقيان في نهاية المطاف كحبيبين حقا؟ أن المؤلف احتفظ بإجابته الذكية حتى خاتمة المسرحية. أما السؤال الملح، وما أكثر ما تطرح المسرحية من الأسئلة، فهو لماذا ركنت الشخصيتان نفسيهما في الانتظار؟ يجيبنا النص على لسانيهما:

 هو :شعرت بمرارة الخيبة

هي :مرغمون على ابتلاع الخيبة

الخيبة إذن هي بنية الشعور الانفعالي المشترك بلا جدوى الواقع المعيش وباستحالة أن يكون محايدا. والخيبة تعني مزيدا من الانتظار الذي سيبدل صورة الواقع ويقلب عاليها سافلها، والخيبة هي الجسر الذي يعبر العمر عليه، بعذاباته واحتراقاته، بين ضفتي التذكر والنسيان وصولا إلى يأس مطلق. إنها صخرة ردم فجوات الجروح التي خلفها الغياب الطويل للمنتظَر الذي لن يجئ.

 حياة قاسية إذن تلك التي فرضت التوقف والانتظار في محطة العمر كي يتمكن الآخر (المسافر) من النسيان وليظل المنتظِر في حالة تذكر مستديم. معادلة قاسية فرضتها ظروف الحياة محولة إياها إلى قانون يتحكم بالمصائر والنفوس.أربعون عاما أو يزيد قليلا مذ وطأت أقدام الشخصيتين ذلك الجسر الذي لن يصل بهما إلى الضفة الأخرى أو أنه لا يوصل الضفة الأخرى اليهما. إنهما عالقان في ضفة الانتظار بينما يمر قطار العمر ساحبا معه الأيام والسنين إلى مستقرها السرمدي في حركة دائبة ولكن خارج نطاق روحيهما المعطلتين. ما الذي يجعل الحياة لا تطاق؟ سؤال تعلمناه من سادة العبث الأوائل، واستعرناه لاجتراح حقيقة ما يحدث في هذه السوناتا. تجيب المرأة:

"كثيراً ما نحلم بأمور مختلفة..نقضي الليل والنهار ونحن نحلم بها..هي أمور مألوفة..عادية..ولكنها في الوقت نفسه مستحيلة"

ما الذي يجعل المألوف مستحيلا إلى هذه الدرجة؟ أخبرنا العبثيون،فيما مضى، أن ظروف ما بعد الحروب التي مرت بالغرب هي السبب وراء ذلك الشعور المميت باليأس المطبق.إذن أهي الظروف نفسها تمر بشخصيتي المسرحية؟ ربما وان لم تشر إليها المسرحية من قريب أو بعيد فالانتظار هو نفسه ولا تبدل فيما ينتجه من اليأس والقنوط والاستسلام والرضوخ والخواء..الخ.ثم أن الشخصيتين لا هوية محددة لهما ويمكن أن يكونا أي رجل يشار إليه بـ(هو) أو أية امرأة يشار إليها بـ(هي) وعلى الرغم من هذا استطعنا تحديد هويتهما ليس بالضبط ولكن بشكل عام من خلال سلوكهما ذي الطابع الشرقي فضلا عن الأغنية المصرية، واللبنانية، وقصائد نزار التي قرأ(هو) منها كثيرا قبل أن يستسلم للنوم .واستطعنا أيضا أن نحدد ظرفيهما ولكن ليس بالضبط أيضا فالمؤلف أحاط كل شئ سدا كي يمنع تسرب ما يجعل الأمر مكشوفا تماماً.

تقول الشخصيتان في بوحيهما المكتوم:

هي :نجتر أحزاننا..نحفظ فمنا مقفلاً..فعش أيها القدر..وليحرس الرب حزننا الطويل.

هو :أنت معشوقنا الوحيد (بانكسار) فارض عنا فنحن معلقون من أظافر أصابعنا نحن خدمك المطيعون.

فمن هو هذا القدر اللعين وأية قوة يمتلكها في الإذلال وقفل الأفواه وتعليق الناس من أظافر أصابعهم؟ ولماذا لا يبوح المؤلف به فيكشف لنا عن وجهه القبيح؟ ولماذا كلما وصل الأمر إلى المكاشفة يأتي قطار العمر مجدِداً يأسَنا بانتظارات قادمة؟ لعل المؤلف يخبرنا ولكن ليس قبل الوصول إلى سابوعية الانتظار.

   في منتصف العمر أو بعده بقليل يبدأ كل شئ بالذبول فخريف العمر قادم من حيث لم نحتسب والضفة الأخرى لا تنتظر طويلا حتى نصل إليها فان تأخرنا جاءت إلينا على جناحي نهايتنا الأكيدة. قد تتبدل المصائر ولكنها في غفلة منا تنساب من بين أصابعنا كبقايا الماء.هكذا عاش (هو) ،وعاشت(هي) حتى أدركتهما الشيخوخة مبدلة حاليهما ومتلاعبة بالمصير.(هي) تكتشف،بعد لأي طويل، حنينها للرجل الذي جالسها العمر كله، كما يكتشف (هو) حنينه لها وضرورة مكاشفتها بحقيقة مشاعره التي غيبها الانتظار الطويل، وإذ يهم إلى فعل ذلك تكون (هي) مهيأة للرحيل الأبدي، وتكون النهاية منطوية على المزيد من اللاجدوى. لقد عاش الاثنان حياة الانتظار الذي رافقاهما حتى بلغا مبلغ الكهولة. وفي اللحظة التي يكتشفان توقهما لبعضهما  توقاً يبدد عذابات الخيبة يجئ الكاتب بالموت لتظل الخيبة ملازمة لهما حتى أنفاسهم الأخيرة. هكذا حدد الكاتب مصير شخوصه في الانتظار الأبدي. لقد رحلت المرأة إلى العالم الآخر وظل الرجل مصراً على الانتظار في محطة العمر الأخيرة:

ناظر المحطة :هيه..يا عم..القطار مضى..لماذا تجلس هنا ؟

هو :(بنفس البرود السابق) إني أنتظرها يا بني أنتظرها قريبة كانت أو بعيدة..هنا أو هناك سأبقى..أنتظر

ويستمر العزف على نوتة سوناتا الانتظار، بلا توقف وبلا فسحة أمل تبدده أو تجدد الحياة.

 

   إن إسماعيل خلف من خلال هذه المسرحية أثبت قدرة لا يستهان بها في بناء النص بناءًا دراميا محكماً، ومكنة كبيرة في الاشتغال على الحوار الدرامي من خلال لغة طيِّعة اعتمدت التكرار بنية لغوية في إيصال المعنى ودعم المبنى، ودراية عالية في إدارة دفة الصراع الدرامي والفكري ما جعل المسرحية واشتغالاتها ترقى إلى مصافي النصوص الإبداعية الجيدة .