أوراقـــي !!!

إلى (هه له بجه ، جيرنيكا العصر)

جسدي الذي مزقته القنابل و السموم ..

و إلى كل بقعة أحترقت ، و تحترق ، بأنفاس الديناصورات المعاصرة التي لما تنقرض

                                                                             قِصرَحيّة: محي الدين زه نكه نه

عثر الراعي (مام ويس) وهو شيخ طاعن في السن..ولكنه ما يزال يحتفظ بقدر غير قليل من الحيوية والنشاط، على فوهة حفرة مطمورة إلا بضعة أصابع، حينما كان يرعى أغنام أهل قريته والقرى المجاورة، على سفح جبل "ماوت" الذي شرعت الخضرة الباهتة، على الرغم من كل شيء، تطل برأسها مع مقدم شهر آذار، في بضع بقع متفرقة متباعدة، هنا وهناك، بعد طول يبس وجفاف ومحن، إذ كانت الحرب الحارقة الطويلة قد أحالته ضمن ما أحالت من أراضي كردستان الخضر ومراعيها اليافعة وينابيع مياهها المتدفقة إلى أرض قاحلة محروقة، لا عين ماء ولا عشبة خضراء..في أية بقعة طالتها المواد السامة. أيكون حيوان ما قد حفرها بحثا عما يقتات، تساءل مام ويس، وإذ لم يوافه الحظ.. تركها وراح ينشد أمكنة أخرى قد يكون حظه فيها أفضل؟

غرز فيها عصاه فوجد أتربتها رخوة هشة، ولكن رائحة ما انبثقت من بين طياتها..ربما يكون الحيوان هو الآخر..قد أدركها بحكم غريزته ونفر منها ولم يرهق نفسه كثيراً!!

أثار الأمر فضوله وبدأ يحركها بطرف عصاه، فاستجاب له التراب بسهولة ويسر، مما دفعه أن يواصل الحفر ويحمل الأتربة والحصى بيديه ويفرشها على أطراف الحفرة التي كانت تتوضح كلما يتوغل هو وعصاه أكثر، ببطء يتناسب وسنوات عمره التي قاربت الثمانين..عاماً..أو تجاوزت ذلك، أو ما تزال دونه..ما أدراه على أية حال، فلا أحد في قريته يحفل بمثل هذه الأمور..هي أيام أو سنوات..أو عقود..تمضي..بلا حساب ولا اهتمام.

كلما حفر أعمق صارت الحفرة تستجيب له أسرع وعمقها يزداد أكثر، حتى لم يعد بوسعه المكوث في مكانه على الحافة طاوياً جذعه ومواصلة الحفر وحمل الأتربة بكفيه الهزيلتين.

 فكر هنيهة ثم استعاذ بالرحمن الرحيم وبسمل وقرأ سورة "آية الكرسي" فأحس بأنه قد تطهر إلى حدّ ما من هواجسه ومخاوفه التي كانت أجنتها تتشكل في داخله وتتناسل..و..قرر أن ينزل فيها..ألا أن الرائحة الغريبة التي لا يعرفها والممزوجة برائحة التراب التي يعرفها جيداً..هاجمته بقوة وصدته..وكادت تحمله على التقيوء والتوقف عن الاستمرار..وترك الأمر كله..ومغادرة الحفرة..مثلما فعل ذلك الحيوان المجهول من قبل.

إلا أن فضوله الذي شرع يقوى ويشتد، بسمره في مكانه، ودفعه إلى مواصلة ما بدأ به وباشره. وشحنه بأمل أن يكون ثمة شيء ما مدفون تحت الأتربة، وهذا الشيء، دعا في سره، إن شاء الله لن يكون شراً أو.. ضاراً..

بعد أن طمأن نفسه وشحنها ببعض القوة والأمل..شرع يحفر أعمق وبهمة اكبر، وبين الفينة والفينة يستقيم ويرنو إلى أغنامه، وإذ يراها سارحة ترعى يعود إلى إشباع فضوله المتصاعد وتلهفه المتعاظم إلى معرفة الشيء المخفي في الحفرة..

وعندما غاصت أنامله في الأتربة بسهولة أكبر، ترك عصاه جانباً وأخذ يحفر بكلتا يديه..ولكنه سرعان ما توقف حين لامست أطراف أصابعه، أو اصطدمت بشيء صلب..صلد..فكر..أهو حجر؟ صخرة؟ ماذا يكون يا ربي..؟

سحب يده بسرعة وأرتد إلى الوراء خائفا̋، أنتابه هاجس مفاجىء.. إنه..إنه.. رررأس..و..قد يكون رأس إنسان. إنسان؟؟ وأرتعد..وأخذ يرتجف.. ولكي يتأكد من هاجسه..أو..أو يقضي عليه ويلاشيه..لم يجد بداً من أن يلمس الشيء مرة أخرى..فمد نحوه..يداً مرتعشة..لا..لا شعر يكسوه..وو.. ليس ثمة نتوءات..ولا تعرجات..أو..أو..انه..نه..أملس..أملس تماماً.. حتى أكثر من الرأس الأصلع..أأيكون لأحد..أبناء القرية..مـ ..مـ ..من مقاتلي

البيشمه ركة؟

شعر بضيق شديد، وأحس بأنه يوشك أن يختنق.. وينهار..فتماسك بصعوبة بالغة وأخرج رأسه من الحفرة..وأستنشق الهواء ملء رئتيه..وأنتعش نوعاً ما، ونسي أن يرسل نظراته خلف أغنامه كما أعتاد أن يفعل كلما أخرج رأسه من الحفرة..سيطر عليه هلع شديد أيكون قد دخل مقبرة جماعية..من المقابر التي تطبق على رفات العشرات من الشباب، في طول البلاد وعرضها؟ أيعني..ذلك أن ثمة رؤوساً أو أو.. جماجم بشرية أخرى..؟

يتوجب عليه أن يخرج..أن يغادرها ويسرع الى القرية..ويعلم كل من يرى..ليهرع إلى مساعدته..

وفعلاً أستند على جانب من جوانب الحفرة.. بكل ثقله الخفيف، فأحس كأنه يمسك بجدار..أو بقايا جدار مبني بشكل محكم.. إذن فهو..سو..سوبير..أو..أو.. موضع..أو خندق..وان من كان يحتمي به ويقاتل منه، قد قتل فيه..وانهالت عليه أتربة التلول المهشمة التي تحيط به..و..وليس فيه سواه..وقد يكون! من يدري؟ وأنى لي أن أدري..؟

سأل (سيامند)، ذات مرة، كيف تقفون في العراء تحت وابل الرصاص. لسنا في العراء، أجابه حفيده، أننا نحفر في الأرض، مثل حيوان الخلد، حفراً عميقة نختبىء فيها..يعني..يعني..سوبيرات..؟؟ لا..لا..أصرّ الحفيد، خنادق..هناك في الجيش يسمونها "خنادق".

اذن فهو الآن في أحد هذه الخنادق وأن أحداً ما مدفون هنا! وأنه..أنه.. أقصد.. أن جثته قد تعفنت.. وهذا هو سر هذه الرائحة التي تقوى وتشتد كلما توغل أعمق.. وربما هو أحد أبناء القرية التي كانت متسلقة سفح الجبل، والتي لاشتها الحرب المجنونة ودفنتها بكل من وما فيها، من بشر وشجر وإنسان وحيوان..و..وقد يكون..يكو..يكو..

لم يجرؤ أن يقول حفيده..الذي دفعته الحكومة، قبل ثلاثين سنة، إلى المحرقة، لقد أنتزعه الكفار من أحضان عروسه، في الأسبوع الأول من زواجه، وألقت به بين فكي رحى الحرب الطاحنة.. ولكنهم قالوا أن (سيامند) في الجنوب.. والجنوب هذا بعيد..بعيد جداً.. فما الذي أتى به هنا؟ أيكون قد فر من الجيش والتحق برفاقه البيشمه ركة..مثلما فعل معظم شباب كردستان..؟

لا..لا..لا..

هز رأسه بعنف كمن يطرد ذبابة لحوحاً التصقت بنقطة دبس على صفحة وجهه..وهو يصرخ بأعلى صوته ويكرر لا..لا..لا.. يريد أن يسمع الدنيا كلها صراخه ونفيه الجازم.. ولكن صوته المخنوق لم يغادر شفتيه ولم تسمعه حتى أذناه..ومع هذا ظل ينفي عنه هواجسه السود بإصرار قوي مشوب بقلق واضطراب..و..وشك. لقد قالوا له أنه أسير وأنه سوف يعود ذات يوم، بعد أن تضع الحرب أوزارها..

وأنتهت الحرب، ولكن المآسي والفواجع التي خلقتها وخلفتها وراءها ما تزال حية قائمة في كل مكان لاتخلو منها بقعة واحدة..والقتلى قد عرفوا..والأسرى عاد معظمهم، وهم أشبه بموتى أخرجوا من قبورهم..وبقي ثمة عدد غفير ممن أسموهم بـ"المفقودين" من الذين ضاعوا.. مجللين بأوهام الآباء والأمهات وآمالهم..و دعواتهم..أنهم عائدون ذات يوم..بيد أن أحدا منهم لم يعد..ولن يعود..

(سيامند) لم يعد..وأبنه "شوان" الذي زرعه جنيناً في أحشاء زوجته قد غدا اليوم، بفضل الله وعونه، رجلاً..وبعد بضع سنوات.. سيصبح طبيباً..و..و..اذاً؟

عاد يحفر برفق أشد..ويزيح التراب بحنان أعمق..عن الحجر..أو..أو الشيء الذي لمسته أنامله وظنه حجراً أملس..برهبة وقدسية..ذكرتاه بالحجر الذي لمسه ولثمه في الكعبة المشرفة..وصلى في داخله، داعياً ومتوسلاً أن يعيد إليه حفيده وكل الأولاد الذين لم يعودا حتى الآن..سـ..سالمين!!

أحتضنه بأنامله العشر بخشوع وهدوء..وراح يقلبه على أوجهه ويمعن فيه النظر ويزيح عنه الأتربة بفيه وأصابعه بتأن وروية..آه.. ما هذا؟ م..ما..مـ..مـ.. ماذا أرى؟.. صعقه ما رأى انه.. ذلك (الكلاو) الحديد.. الذي كان سيامند يخفي تحته رأسه.. كلما عاد إلى الجبهة بعد انقضاء إجازته القصيرة! و..ماذا كان يدعوه..ال..ال..خو..دا..خودا..لا..لا أستغفر الله ال..الخوذة..أجل أجل الخوذة..

إذاً..فثمة جندي راقد هنا..أو..أو بالأحرى جثته..وهذه خوذته التي خانته ولم تحمه من الرصاصة التي أخترقتها، فكر، وهو يتحسس الثقب الذي دخلت فيه سبابته.

واصل الحفر والتنقيب بمزيد من الهدوء والتأني والرقة..والحرص المتزايد في تجنب أي أذى أو خدش..يمكن أن يسببه..لهذا الراقد المسكين هنا.. الذي لابد أن يكون أحد الهاربين من أتون الحرب والعائدين إلى كردستان للدفاع عنها وحمايتها..من هجمات الأعداء..و..قد يكون..(سيامند)..نفسه الذي طالما حدثه..بأنه سوف يلتحق بكل تأكيد بالجبل..أول ما تتاح له الفرصة..أو .. أو.. يخلق الفرصة..و..و.. يهرب.

أو..أو سواه..مالفرق؟ فكلهم سيامند وكلهم أولاده وأحفاده وليكن من يكون، غريباً..أو حتى عدواً..فهو إنسان..وحرام أن يدفن الإنسان على هذا النحو المهين، تحت الأقدام وحوافر المواشي والأوساخ والفضلات والقاذورات.

وإذ تلمس العظام. أزاح عنها التراب بترو..فبان الهيكل العظمي، الآدمي، مجروداً، كما توقع، من الجلد واللحم. توقف مسح بذيل عمامته البيضاء دمعه الذي انحدر من عينيه وأختلط بالعرق المتصبب من جبينه، ثم راح ينفخ بفيه..ينفض عنه الأتربة المتجمعة في تجاويف الهيكل وثقوبه وحفره العديدة..

لا..لا..أنه ليس  (سيامند)..حفيده كان بذراع واحدة..لقد بتروا له ذراعه اليسرى التي تهشمت بعد إصابته. قالوا له انه الحل الوحيد إذا أراد أن يحيا حفيده.. وأرغموه بعد أن تماثل للشفاء ولما يبلغه..أن يلتحق ثانية بفصيله!..اه..هذا.. شخص آخر الذراعان سليمتان. وها هما كفاه وأصابعهما العشر..وها هما ساقاه..و..وما الذي جرى لك يا ولدي؟  لعن الله القتلة أينما كانوا وقطع دابرهم في كل زمان ومكان بجاه كاكه احمدي شيخ..

 لمح وهو يرفعه شيئاً تحته يلمع إذ تسقط عليه أشعة الشمس الآيلة إلى الغروب، تناوله. نفض عنه التراب..انه كيس مصنوع من نايلون شفاف..فيه أوراق مكتوبة ظلت نظيفة وسليمة..أخفى الكيس والأوراق في (عبه) لابد أن فيها شيئاً..وشيئاً هاما ولهذا حرص عليها الرجل هذا الحرص الشديد..سيعرضها على شوان حين يعود من السليمانية حيث يدرس في الجامعة..

 كفرة! كيف يرمى الميت هكذا..بلا كفن..ولا..

قال ذلك..وهو يلفه بالقماش الذي يشده على رأسه..ولم يكتف بذلك فقط، بل شرع يفك القماش الطويل العريض الذي يتحزم به و يلفّه حوله..وأعاده الى الحفرة حريصا ان يجعل رأسه باتجاه القبلة..ثم أخذ يهيل فوقه التراب برفق..حتى امتلأت الحفرة وعلت عن مستوى الأرض بعض الشيء..فغرز حجرا عند الرأس وآخر عند القدمين..وبسمل..وقرأ (الفاتحة) ثم صلى وقوفاً..صلاة الميت على روحه..وتوجه نحو أغنامه بعد أن رأى الأفق قد أصطبغ بلون أحمر فاتح، لا يلبث أن يتلاشى..ويحل محله سواد الليل..وعليه أن يعيد المواشي إلى بيوتها..قبل حلوله..ويسرع إلى البيت قبل عودة شوان من الكلية..ليهيىء ما يأكلانه.

التقط عصاه..وسار نحو الأغنام..واضعاً كفه فوق قلبه حيث الأوراق. لم يسر سوى بضع خطوات، حتى ملأ أذنيه صوت انهيار شيء، فجمد في مكانه وكان أول شيء بادر إلى ذهنه أن القبر الذي أقامه قد أنهار..أو..أو.. تفلش، ولم يجرؤ أن يلتفت فقد تلبسه رعب شديد، انبثق من داخله، أهتز له كل كيانه وأرتجف حتى أن العصا قد سقطت من بين أصابعه التي كانت تقبض عليها..رررربي..ررررحمتك!!

ذلك كل ما استطاع لسانه نصف المشلول أن ينطق به بصوت أخرس لم يغادر جدران فمه.. حانت منه التفاتة مشوبة بالخوف وهو ينحني لالتقاط عصاه..فرأى القبر على حاله، حتى أن الشاهدين ما يزالان في موضعهما.. كما زرعها قبل قليل.

تغلب إلى حد ما على مخاوفه..وعاد إلى القبر..دار حوله..كل شيء كما تركه..إذن ماذا جرى؟ ماذا كان ذلك الصوت..؟ لعله..لعله.. توهم..أجل..لابد أنه توهم...أو...أو...أو

أسرع يصعد نحو أغنامه التي كان بعضها قد اعتلى الجبل..بيد أن صوت الانهيار غزاه مرة أخرى..أقوى وأشد..فأرتعب وسقط على وجهه..ومن فرط خوفه استمد قوة مؤقتة فنهض بسرعة..وأطلق ساقيه للريح..وحين صار على مبعدة..حسب أنه قد نجا..توقف لاهثا، متقطع الأنفاس..فرأى هذه المرة بوضوح..ويا لهول ما رأى..رأى كل مخاوفه متجسدة أمام ناظريه..رأى بأم عينيه الهيكل الآدمي، خارج القبر متجها نحوه..سائرا في الهواء..خطوات واسعة..لا تمس قدماه الأرض..وهو يشير إليه بكلتا يديه السليمتين..بل..بل.. وسمعه..سمعه بوضوح، ملء أذنيه..يصيح به:

"أوراقي.. أوراقي.. أوراقي".

جوفه الخوف وفقد كل قدرة على السيطرة على نفسه، تشابكت رجلاه، كأنهما شدتا إلى بعضهما.. أو التصقتا ببعضهما..وصارتا كتلة واحدة ثقيلة. لا تتحرك..ثوان معدودات..أو ثانية واحدة..ظل يحدق به بعينيين جامدتين..من زجاج..لا تتحركان..لا ترمشان..لا تنغلقان..وفي لمح البصر صار الخوف صخرة سقطت عليه، فقدت ساقاه القدرة على حمل هيكله الفارغ الهزيل..فتهالك على نفسه وتساقط على بعضه..واستحال كرة تتدحرج من علٍ إلى أسفل الجبل بسرعة شديدة..كما لو كان حزمة عاكول وحشائش متيبسة..ركلتها عاصفة هوجاء.

لم يستطع (مام ويس) أن يتوقف في انحداره من على سفح الجبل..إلا بعد أن اصطدم بأجمة كبيرة كثة من أعواد القصب الطرية والأعشاب النابتة على حافات (كاني سور) ولولاها لاقتحم القرية أمام أنظار الجميع..وهو ما يزال يتدحرج مثل كرة مصنوعة من الخرق..تركلها قدم خرافية غير مرئية..

أنتصب واقفا على قدميه بسرعة غريبة، متحاملا على آلامه وأوجاعه التي لم يشعر بها للوهلة الأولى..فقد عطل الرعب الذي شمله..من أن يكون..الميت يلاحقه كل إحساس فيه.. وإذ غامر مرة أخرى وجازف بالالتفاف إلى الوراء..ولم يرَ سوى أغنامه تنحدر نحوه..تتبعه..كما اعتادت أن تفعل كلما حان وقت العودة الذي باتت الحيوانات تعرفه غريزياً..اطــمأن (مام ويس)..وسرى في روحه المرتعدة وهيكله الناحل المرتجف..خيط من الراحة..واعتقاد غير راسخ تماما" بأنه قد نجا..أو..أو.. ربما يكون قد نجا..كما كان يأمل ويدعو في سره..و..و..ولكن..ولكن؟ ما كان ما جرى؟ و..وهل جرى ما جرى وحدث ما حدث..فعلاً..وحقيقة..؟ أم..أم.. قد توهم كل ذلك..وأن..أن مخاوفه قد خلقته له؟.. ربما..ربما..كان الأمر كذلك.. وطاب له أن يملأ نفسه بهذه القناعة..بعض الوقت..

بيد أنه لم يلبث أن انتفض على نفسه. فانهارت قناعته وما كان يشحن به نفسه من أوهام..وهو يكاد يزعق..ولكني رأيته وسمعته..رأيته ملء عيني وهو يشير إلي..وسمعته ملء أذني وهو يصرخ.."أوراقي..أوراقي..أوراقي"..لقد..لقد.. كرر نداءه..ثلاث مرات..لا مرة..ولا مرتين..

ترى ماذا في هذه الأوراق..؟ لـ ..لـ لعنة؟..أم..أم رحمة..؟ و..وهل.. ينبغي أن أعيدها..إلى..إلى..

خشي أن يقول إليه..أو إلى صاحبها..وقال "إلى هناك".. ولكن أنى له أن يقترب من (هناك) والرعب ما يزال يملأه ويتشعب في داخله أخطبوطاً خرافياً بملايين الأذرع..(لـ..لـ..ليس قبل أن يراها شـ ..شـ.. شو .. شواااا )

و قطع حواره الداخلي..سؤال حادّ مثل السكين..اخترقه من مجهول معلوم..ملـ..ملـ..ملعووون "أ..أ..أ كان..بـ ..بـ..ذراعين. أم بذراع.. وا..وا.. وا.." و شلّه الرعب من الجواب المريع الذي حدسه و الذي ترتعد له فرائصه..   وكل ذرة من ذرات جسده الشائخ المفتت تفزع منه ولا تجرؤ على مواجهته.

       أستحال لسانه في جوف حلقه كتلة رصاص تأبى الحركة ..ولم تلبث الحالة أن تلبسته من قمة رأسه حتى أخمص قدميه..وصار جسمه كله  رصاصاً مكوّما..لا تندّ منه حركة ولا نأمة ولا رعشة .. واستحال في جلسته القرفصاء صخرة تدحرجت من أعلى الجبل..واستقرت قرب نبع الماء..لا ينبض فيه عرق.. ولا ترمش له عين..ولا يصدر منه سوى أنين خافت يعجز عن بلوغ أذنيه هو..

شرعت الخراف تتدحرج وهي تنحدر من الجبل، متسارعة تزاحم بعضها بعضاً..إذ أدركت بغريزتها أن وقت العودة إلى حظائرها قد حان..بيد  أنها توقفت عند (كاني سور) كما اعتادت كل مساء ،تعبّ الماء..وتلتهم الأعشاب الطرية النابتة عند الحافات

وبعد أن شبعت وارتوت..تيممت شطر القرية..ولكنها تباطأت وتوقفت عند (مام ويس) منتظرة أن ينهض ويقودها إلى بيوتها..غير أن (مام ويس) ظل في جلسته الجامدة، يرنو إلى حيواناته بعينين من زجاج، بلا لون ولا شعاع، مما دفعها أن تقترب منه، تحسسه بان وقت العودة قد حان..ولكن (مام ويس) ظل في سكونه الغريب غير حافل بها..فاضطرت الحيوانات أن تتولى أمورها بأنفسها فعادت أدراجها سالكة الطريق التي اعتادت أن تسلكها..إلى القرية..ثم تتفرق إذ تبلغ بيوتها..هارعة إلى  حظائرها..وهي تطلق ثغاءها..كأنها تعلن عن تخلف راعيها..وتبلغ الناس الرسالة..

[ غرفة متداعية الأركان محروقة الجدران. شوان في جمع من الناس. يجلسون القرفصاء على الأرض. يصغون إليه، مشدودين بانتباه شديد، إلى ما يقرأ. (مام ويس) مطرق صامت،جامد، لا يحرك ساكناً.. كمن غابت عنه الروح. ولم يعد سوى هيكل فارغ من كل شيء. بينما تصدر من الآخرين آهات وتأوهات..وحركات. حسب مقتضى الحال]

مدينة عامرة، تسري في مفاصلها حياة شاملة..حركة دائبة..ناس غادون ورائحون..أشجار باسقة..حدائق زاهية. عصافير تزقزق. طيور تغرد..الخ..الخ.. الكل في مرح وبهجة..فجأة يطبق عليها ظلام..يسبقه هدير طائرة مسرعة جداً.. يصيب الكل ذهول.

تتوقف الحركة..يشمل الجميع رعب وترقب..ثوان يعلو الهدير بصخب عال..مرة أخرى..تعقبه ثلاث طائرات، تتهادى، وهي تحلق على منخفض تكاد تصدم الأشجار والبيوت..ترش بكثافة مسحوقاً أبيض، سرعان ما يتشكل على هيأة غيوم رملية، بنية، رمادية..تتصاعد إلى الأعلى كتلا مجسمة..يطبق على المدينة ظلام كثيف..ثم يخف وينقشع رويداً رويداً..يغدو الناس في هلع وذعر شديدين يتراكضون بمختلف الاتجاهات والسبل..يصطدمون ببعضهم..بالجدران..بأعمدة الكهرباء..بالمركبات المتوقفة، بكل ما يصادفهم..يتساقطون على بعضهم..كذلك تغدو الطيور والمواشي..في فزع هائل..الكل يتكوم على الكل..تصحب كل ذلك أصوات استغاثة وصراخ وعويل، من كل حدب وصوب، مختلطة ببعضها..الأشجار وحدها تبقى واقفة لثوان..ثم تتهاوى على عروشها كأن نيرانا بركانية تلتهمها..ثم تلفضها..كتلا من الفحم..وتنفخها هواء أسود وغيوماً داكنة وإذ ينكشف الظلام بعض الشيء..تبدو سائر الموجودات من بشر وحجر وطير وشجر..قد غدت أكواما من الفحم..وتفترش المدينة جثث مقطعة الأوصال وحيوانات نافقة وعصافير محترقة..لقد فرغت المدينة، التي كانت قبل دقائق ضاجة بالناس والحركة..من كل معلم من معالم الحياة..تماماً.

تظهر كلبة عمياء حبلى، تلهث، تفاجئها آلام الولادة، تتخبط على غير هدى.. تصطدم بإحدى أكوام المحروقات المتفحمة..تحتمي بها..تطلق عويلاً حاداً متواصلاً. تتلوى تقذف جراءها، خمسة جراء صم بكم عم. تتزاحم على التعلق بأثداء الأم.. التي تظهر عليها الراحة بعد العناء الشديد. تلطع جراءها بحنان. تغسلها بلسانها. تستكين لحالة الرضاعة..صوت قذيفة هائل..تتفرق الجراء عن الأم، تتشتت..الأم تبحث عنها كالمجنونة..هنا وهناك..تصطدم بالأكوام..تسقط..تنهض..تسقط..تركض..تصدر أصواتاً خافتة..الجراء تبحث، هي الأخرى، مضطربة مرعوبة عن الأم..تصطدم ببعضها..تنهض..تدور في دائرة ضيقة.

الأم لا تتوقف عن النحيب والبحث..تضيع خلف أحدى الأكوام..وهي تئن أنيناً موجعاً..متواصلاً..

 يظهر عسكريان بملابس مرقطة..مدججين بمختلف أنواع الأسلحة..بندقية رشاشة.رمح.سيف.بضع قنابل..الخ..

الأول: (يفتش هنا وهناك، بشراسة) أما يزال ثمة أحياء في هذه البلدة المذبوحة..(يطلق رشاشه في كل مكان ويواصل البحث).

الثاني: ( يرى الجراء متكومة على بعضها.يهرع نحوها بلهفة) الله!! جراء..مواليد اليوم وربما الساعة (يرفعها بحنان) آه.. إنهن عمياوات..يا الهي..(يمسح عليهن برقة) سآخذهن لولدي(يضعهن في حضنه. يدخل إصبعه في حلق جرو)..جوعان..آه ما أشد جوعه!! ألم تطعمك أمك (يتلفت) ولكن أين هي؟ ماذا حل بها..؟

الأول: (يهجم على زميله بجنون أهوج..يركله بقسوة. تتساقط الجراء على بعضها)، ماهذا يارجل؟ هل أنت مقاتل صنديد أم حرمة مرضعة؟ (يصلي الجراء كلها برشاشه..يعلو أنين الأم الموجع، أشد ما يكون وجعاً) هيا..هيّا..نبحث عن أحياء آخرين!!

الثاني:)  بألم وحزن) أحياء؟..لقد أحترق حتى الجبل..

الأول:(بهياج أشد) جبل..حجر..شجر..ماء..هواء..كلها أهداف.كل شيء في هذه المدينة الخائنة هدف (يهم الثاني أن يتكلم. يسدد نحوه رشاشته) أخرس..تلك هي الأوامر..لا همسة من مخلوق..ولا نسمة من هواء..كل شيء ينبغي أن يموت..أن يتوارى من الوجود هيا..هيا (يدفعه أمامه بعنف، يعود يسحق أشلاء الجراء المقتولة ببسطاله الضخم)

أنين الكلبة يعلو..تخرج من مخبأها..تزحف بحثاً عن أولادها..تعثر على كومة أشلاء مسحوقة..يستحيل أنينها عويلاً ونحيباً وبكاءً فاجعاً..تجمعها بيديها..تدفعها تحت أثدائها..تظهر أتان عمياء.. تصطدم باكوام الفحم تتراجع..يدخل جحش صغير..مولود لتوه..يتحامل بصعوبة بالغة على قوائمه القصيرة الهزيلة يلهث متقطع الأنفاس، يبحث على غير هدى عن أمه..انه هو الآخر أعمى..الأم تنهق..تناديه من غير جدوى..صلية رشاش قوية تصيب الاتان. تسقط. مضرجة بدمائها.. تتخبط هنيهة في بحيرة الدم..ثم تخمد.. الجحش يسقط هو الآخر، على مقربة من الكلبة..تزحف الكلبة نحوه..تضع ثديها في فم الجحش..الجحش يرضع..ينتشي..تدب فيه الحياة. الكلبة تتمسح به برفق..تلطعه برقة..تنتشي..هي الأخرى..

الثاني: (يدخل في هياج شديد، شاهراً رشاشته..يطلق في الاتجاهات كلها) لقد أصبته..بحمد الله وفضله..أصبت هدفاً..

الأول: (يتبعه بألم وحزن) حيوان..أنه مجرد حيوان مسكين (يقف عند بركة الدم)

الثاني: (في هيجانه) حيوان..إنسان..نبات..جماد..حي..ميت..الكل هدف (يواصل بحثه في جنون) أين هو؟ ماذا حل به؟.. أخشى أنه ما يزال يتنفس. ينبغي الإجهاز عليه قبل أن يهرب ويعود إلى صفوف الأعداء..أين هو؟ أين (يطلق رصاصاته بصورة عشوائية)

الأول: (يندفع نحو الجحش، بتعاطف) آه..يا الهي..ما أغرب هذا!.. كلبة ترضع جحشاً..قادر على كل شيء قدير..آه..والجحش..الجحش الصغير..ما أجمله..سأخذه هدية لولدي..

الثاني: (بحدة وتهور) لن تأخذ شيئا حياً من هذه المدينة المقتولة..كل شيء فيها إلى  الفناء.. كل شيء إلى الدمار..كل شيء إلى الاندثار (يصلي الكلبة والجحش برشاشته، تتدفق دماؤهما تختلط بدماء الاتان..(يملأ كفيه..بالدم..يعبه بشراهة ونشوة..ينهار الأول..يهم أن يتكلم تسبقه دموعه).

الأول: (من خلال دموعه) ح..ح..حيو..انه..أنه..مجرد..ح..ح..ح..  

الثاني: (يركله بقوة) أخرس..تبلغ بك الوضاعة..أن تندب حيوانات العدو..هل أنت محارب بطل أم حرمة ندابة..هيا..هيا.. نعثر على أهداف أخرى..

الأول: (منهاراً) أخرى؟ وماذا بقي في هذه المدينة البائسة التي احترقت حتى مياهها.

الثاني: أشياء وأشياء..أهداف وأهداف..كل حي أو ميت هدف..متحرك أو جامد هدف..الضحك هدف..البكاء هدف..هيا..هيا..لا تتخاذل (يدفعه أمامه بوحشية..يعود يصلي الجثث بصليات عديدة..تتطاير اللحوم المثرومة والعظام المفتتة في كل مكان..يلتقط بضع قطع من اللحم..يلتهمها بلذة عارمة..يخرج)

[ الغرفة المحروقة.. وجوم وذهول يطبقان على الكل.. يبدون أشبه بموتى خارج قبورهم، لا صوت، لا نأمة، لا حركة، جمود تام، أحدهم يمزق الصمت..يتبعه آخرون]

ـ ما هذه الأوراق؟

ـ أوراق؟ أهي أوراق. إنها قنابل..ألغام ..سكاكين..تجول في أحشائنا.

ـ (صوت هاديء) مرايا..إنها..مرايا..

ـ تحطمت أعصابي..لم أعد أطيق المزيد..أنا خارج..خارج أتنفس هواء قبل أن أختنق؟

ـ (صوت مفجوع) كف يا شوان..كف عن ذر الأملاح على جروحنا   الندية التي لم تندمل

ـ (صوت أقوى) ولن تندمل..واصل شوان واصل..ضعنا أمام أبصارنا وأنفسنا..عراة..عراة..

(شوان يعود إلى تقليب الأوراق…وإذ يسود الصمت.. تعلو خرخشة الأوراق)

عراء..لاشيء فيه سوى مرتفع من الأرض على شكل دائرة غير منتظمة..تتوسطه كتلة بحجم مناسب..فوق سطح دائري متحرك..يدور حول نفسه ببطء أو بسرعة حسب المطلوب..وتدور معه بالضرورة الكتلة..التي لا يمكن تحديد شكلها..يتسلط ضوء قوي عليها..ثم يبهت..يتغير الضوء، تتغير تغيرات عديدة وتتلون ألوانا عديدة مألوفة وغريبة..تتغير معها أشكال الكتلة وتتبدل..تتخذ صوراً شتى. وهيئات مختلفة عديدة متباينة جداً..قنفذ داخل في نفسه..أشواكه رماح وسيوف وسكاكين وخناجر..ثم شجرة بلوط كثة الأوراق والأغصان كثيرة الثمار والعصافير..فجأة تتساقط الأوراق والأغصان..العصافير تحترق في أعشاشها..بعضها يتطاير..تلاحقها السنة النيران..فتتساقط محروقة..تغدو الشجرة تنوراً مسجوراً تتصاعد منه روائح خبز محترق..سرعان ما تستحيل إلى روائح أجساد بشرية..شبح ما..ضخم هائل الضخامة يلقم النيران المزيد من البشر، أطفال.نساء..رجال.شباب.شيوخ الخ..الخ..يصبح الشبح مجموعة جرذان تلتهم اللحوم المحترقة..يتحول التنور الى قبعة عسكرية..خوذة.. بيرية..كاسكيت..سدارة..ثم عمامة سوداء..ثم خضراء. بيضاء..حمراء..صفراء.. ثم جراوية..ثم إلى عقال..شدة رأس نسائية..جبة ملالي..عباءة للجنسين..امرأة عارية ترضع طفلاً، آية من الجمال، من ثديها الوحيد..الذي هو قذيفة هاون ضخمة نابتة من منتصف صدرها..تعصر ثديها القذيفة، بأصابع طويلة، خارجة من يد آلية، يتدفق منه، بدل الحليب، نفط أسود، داكن ثخين مثل القير المصهور..تتقدم فأرة بوجهين، أحدهما للعسكري الأول والآخر للعسكري الثاني..تنتزع الطفل من المرأة التي تعيط وتولول..بصوت أشبه بقراع السيوف..العسكريان يشقان الطفل إلى شقين..كل فم يمضغ ويفترس أحد الشقين..يسيل من الطفل دم غزير جداً.. يستحيل إلى بحيرة مليئة بأسماك ملونة زاهية توشك أن تختنق..تطل برؤوسها من البحيرة..تتحول الرؤوس إلى وجوه بشرية وحيوانية، بأسنان طويلة حادة..لا تلبث أن تتطاحن فيما بينها، بلا سبب ظاهر، تتساقط الأسنان من الأفواه. يبرز شيخ أدرد.. يلتقط أفاعي برؤوس ضخمة..يلقيها في جوفه، الذي يشبه مغارة عميقة الغور.. بيد.. وبالأخرى يقبض على مجاميع من جراد أخضر وأسود.. ثم يطلقها على رجل أنيق جالس إلى مائدة عامرة، يحتسي الخمر.. يحيط به الجراد، يشاركه الوليمة..وهو يهش ويبش..وإذ تفرغ محتويات المائدة، يقضم الرجل القناني والكؤوس ثم يهجم عليه الجراد ويفترسه ويلاشيه..ثم يتطاير أسراباً..أسراباً.. تسد الأفق..تستحيل الكتلة إلى جردل تقفز منه عقارب وثعابين وزنابير وفراشات ملونة وطيور الحب وبلابل مغردة..ثم تتحول إلى دبابة عملاقة تطلق قذائف وصواريخ بكل الاتجاهات.. أصوات مبان تتهدم..تنهار..تتخللها صرخات وأصوات بكاء ونحيب..تختلط معها أنغام موسيقية صاخبة جداً..وغير متناسقة وفي نشاز مقرف..مؤذ للأعصاب والذوق..ثم تصفو وتصبح سيمفونية رقيقة (بحيرة البجع مثلاً) تظهر كائنات جميلة..رقيقة.شفافة. بألوان زاهية..ترقص بجمال أخاذ وأداء رائع..ثم تتحول فجأة إلى خنازير مجللة بغائطها وقاذوراتها يسحق بعضها بعضاً بعدوانية وشراسة..وشبق..كأنها تمارس هواية من هواياتها المحببة، أو طقساً من الطقوس البدائية..التي يجب عليها أن تؤديها..وتمارسها بطاعة تامة..تتحول الكتلة إلى طبل ضخم يضرب عليه مجموعة من أكلة لحوم البشر..بعظام الأرجل والأذرع المجرودة من اللحم..يتمزق الطبل..فتتقاتل..المجموعة بوحشية..يفترس بعضها بعضاً..يأكل الكل الكل..ثم تتحول الكتلة إلى كرة ضخمة، ترتسم عليها خارطة العالم بأسره..بالألوان الطبيعية..تدور حول نفسها بسرعة..ثم تنقسم إلى نصفين متساويين تماماً..يدخلان في صراع دموي وقتال ضار فيما بينهما..يتفتت كلاهما إلى أجزاء صغيرة..تتحارب فيما بينها بضراوة ووحشية..تفنى الأجزاء كلها..وتتساقط أشلاء متقطعة..تتماسك فيما بعد وتستحيل إلى أجنة في أرحام..تشبه بالونات الهواء، نفاخات الأطفال..ترتفع فوقها أعلام دول العالم كلها.. سارياتها مغروزة في جماجم بشرية..وحيوانية معاصرة، غزلان..يمامات..أسود..نمور..ومنقرضة..ديناصورات..ماموثات..خراتيت..الخ..الخ..مرسومة عليها (الأعلام) صور الرؤساء والحكام والملوك في سائر الدنيا..منذ عصور ماقبل التاريخ..حتى اليوم وما بعد اليوم..الى جانب المجرمين والقتلة والسفلة وصور الأنبياء والرسل والأولياء والحكماء والفلاسفة والفنانين والشعراء والثائرين، على مر التاريخ، مؤطرة بزهور في غاية الجمال والرقة..مختلطة بالأشواك والعاقول والأحراش السامة..تعتلي كل ذلك سحائب وغمائم تتراءى خلالها الآلهة من أقدم الأزمنة..ووسطاؤها من الأنصاب والأصنام والأوثان..وفوق كل أولئك غمامة داكنة، متشكلة على هيأة كائن خرافي، لم ير أحد له مثيلا قط، جانب منه يمثل وجه كيوبيد(اله الحب) يحمل سيفاً يسيل دماً..تتساقط منه الجماجم..الجانب الآخر منه..لمخلوق في غاية البشاعة والقبح..ومرعب إلى ابعد حد..يحمل بيده غصن زيتون..ويلوح به بحماس..

صوت: (مضخم جدا) أوراقي..أين أوراقي؟ (تتردد الصدى) راقي..قي..ي..ي..ي.

(يقتحم الهيكل المجلس..دون أن يعرف احد كيف دخل..أو من أين..يصيب الجميع شلل في العقل والفكر واللسان)

الهيكل: أما تزالون قابعين هنا؟ يا نفايات المزابل الموبوءة؟ يا قاذورات البالوعات المجرثمة!؟! ما أنتم؟ أحياء بلا أرواح ولا دماء؟ أبول عليكم جميعاً (يمد يده إلى منتصفه يريد أن يبول عليهم فعلاً..ولكن لا تنزل قطرة) فارغة..مثانتي نشفت..لقد رششت به، قبل هنيهة، وجه القمر المجدور القبيح الذي ما يزال، على الرغم من كل شيء، يرنو إلى العالم بوقاحة ولا يتوارى  خجلاً..ولكن لدي ما يليق بكم..وتستحقونه بجدارة (يبصق عليهم) تفووووو عليكم.. تفوووو (تتردد الصدى بقوة وصخب من كل مكان) تفووووووووووو.....

( يخرج مثلما دخل ..دون أن يعرف أحد كيف..أو من أين..يظل الجميع في جمودهم التام..يبدون مجموعة جثث..في مقبرة جماعية..)

صوت خافت..مرتجف..مفتت:

ــ   أ..أ..أ..كان..بـ..بـ..ذرا..عي.. ا .ا..أ..م..بـ..بـ..ذرا…..

 

  محي الدين زه نكه نه

                                                                      السليمانية  12\3\2010