قداســة الضمــائر وتجلّياتــها

في قصيدة شاكر مجيد سيفو

(سبعة ألواح عراقية)

 

في فاتحة(حمى آنو)* يستهل الشاعر شاكر مجيد سيفو قصائده بسبعة ألواح تسطّر تاريخ الخليقة على وفق منظور شعري نافذ إلى ملكوت الوجود، ومستعير مفاصل القداسة ومسمياتها، ومرتبط بالضمير الجمعي عبر ألواح المثيولوجيا ومخلفاتها وتجلياتها.

اللّوح في(حمى آنو) يتخطّى طينية تكوينه المادي بما حفظه من سور هي أقدم الصحائف المعرفية، وأول القفز إلى فلوات الحضارة ليسمو نحو مثالية/ شعرية/ طقوسية لكنها، في الوقت ذاته، خاضعة لمحددات مادية وواقعية.

سبعة ألواح تستعير سباعية رقمها وطقوسيته للدخول إلى مجاهل الغيب، والسحر، واستكناه المجهول، وتأويل المنقول.

سبعة ألواح تتخطى ثوابت الغيب لتصل إلى متغيّرات الشعر فارضة ثوابتها الجديدة وحقائقها البائنة.

في البدء خلق الله المياه

ونفخ من أنفاسه في أبجديتها

فانبثقت الأنهار من شفاه الخليقة

في هذا اللوح تشيّأت المكوّنات لكنَّها استكملت عناصرها: التراب، والهواء، والنار، في اللّوح الثاني، وإذ ذاك خلق الله العراق ليكون من حصة السماء. أزلية لا يحدها حد ولا يرسم ملامحها اللازمنية زمن ما. البدء غير محدد ببدء، فأي الضمائر شهد على ما لم يشهده أحد من قبل أن يكون ثمة أحد؟!        

سبعة ألواح، تليت علينا، أو تلوناها بضمير الغائب ظاهريا والحاضر ضمنيا، تماهت فيها ذات الشاعر بالذات الإلهية مؤسسة ضميراً تركيبياً قائما على أساس التوحد من أجل أن يكتسب الضمير قداسته، وعلى أساس التفرد كي يفرض ذاته الأرضية. إنه يترك لـ(آنو) خصوصية وجوده في ملكوته السماوي ليبسط نفوذه الشعري على ملكوت البسيطة وسنجد أنه استطاع فعلاً إيصال رسالة ألواحه بلغة وإنْ كانت سماوية الخلق إلا أنها أرضية الابتكار.

"خلق الله العراق قبل كل الخلق

فكان من حصة السماء

فانبثق الحرف الأول

كانت أصابع الرب تصوغ جسد الكلام

والماء والهواء

وحينها نبت للعراق لسان

من مجموعة الأوتار الصوتية للسماء

وراح منتشيا ينشر على العالمين

أبجدية الكلام ورسالة الماء"

فإذا كان اللّوح الأول إيذاناً ببدء التكوين (خلق الله العراق قبل كلِّ الخلق) فان اللّوح الثاني تبشير بذلك البدء ورسالة تبليغ بأبجدية الكلام وسرِّ الحياة، وعلامة من علامات لحمة الأرض بسدا السماء.

في اللوح الثالث يأخذ الضمير شكل الأنا العارفة بكلِّ شئ والمختصة بنفسها فينقل لنا عنها إجابتها معززة بسببية لا تغفل ربط ما هو أرضي بما هو سماوي ضماناً لإضفاء هالة أخرى من القداسة على شخصية المعشوق (العراق) بصوفية تتجاوز المحددات الصوفية وشطحاتها إلى محددات عشقية شعرية خالصة نقية.

"تسألني الخلائق والخليقة والشهداء

لماذا تحب العراق؟

هكذا، لأن عمره الكوني

يوصل سرة الأرض

بسرة السماء"

وبنفس الضمير يروي لنا ما تفعله الانفجارات الرهيبة في جسد معشوقه الأرضي ثم يربط ربطاً بيّناً بينه وبين الضمير المغيّب زمنيا (الآباء) والذي يوازي فعله فعل الانفجار من حيث بلسمته لما يصاب به على مدى زمن الفعل القهري.

"كلما تذكرت لعلعة القنابل والصواريخ

تكاثرت تجاعيد جبيني

وازدحمت التقاويم بها

لكنني لي آباء يكوون التجاعيد

 بمكواة حنانهم

ومناديل العمر الأزرق

وسنابل الذهب"

في اللوح الخامس ينطلق صوت الضمير الجمعي بإنشاد كورالي هادر ليروي لنا عمّا حلَّ بنا من حالة العشق والتوحد مع روح المعشوق ولكن ليس إلى حدِّ اختفاء الأنا المركبة (أنا الشاعر والإله) ذلك لأنَّ الفعل الجمعي المروي (نبتت) والذي أشار إلى تجذره في " يافوخة السماء" كان نفسه مرويا على لسان تلك الأنا الفاعلة والمتفاعلة والجامحة نحو تأكيد قداستها وانفرادها بشكل تمييزي معادل للفعل الجمعي بذاتية لم تتحصن الأنا ضدّ جمعيتها. لنتأمل البيتين الذين تصدر كلّ منهما جملة شعرية من اللّوح نفسه:

روح العراق نبتت في يافوخاتنا

 روح العراق نبتت في دمي

وفيهما يبدو الفصل واضحاً بين صوتين: صوتنا المنطلق كورالياً والتابع طقوسياً لقوة غائبة شكلياً وحاضرة باطنيا، والصوت الواحد المعادل، موضوعيا، لصوتنا حيث الغلبة لضمير المفرد القوي على ضمير الجمع الضعيف.

الضمير المفرد هنا قوة تحجِّم المجموعة وقد تمنحها المسميات بدعوى إيصال رسالتها المقدسة فيعلن (الضمير المفرد) أنه جاء ليذكر العباد (الضمير الجمعي) بالضمائر الإلهية كلاً حسب قداسته فهناك (أدد وسين وانكي وآنو وعشتار وتموز) وليضم، في الوقت نفسه، الضمائر الإلهية للضمير الجمعي ليصبح الكلّ خاشعاً وخاضعاً لجلالة وفردانية الأحد الذي ينفرد أمام ضميره بشهادة أن خاتمه الملكي:

"كان يشهق في بنصر

 السماء ويطرد من حدقتيها ورق النسيان"

في اللّوح السادس تتوحد الذات الشعرية (الضمير المفرد) بذوات الشهداء (الضمير الجمعي) ويمارس الكلّ معاً طقوس الاغتسال (الارتكاس) في نهر دجلة ليعطي الشاعر هذا اللوح تحديداً محلياً يعزز عشقه بحدود الأرض التي صارت، بعد اكتمال الخلق، حصة للسماء. وهو إذ يفعل هذا لا تجافيه فكرة الربط بين ملكوتي الأرض والسماء لغاية في ذاته الشعرية السامية.

"ما أن وطأت قدماي جسر الشهداء

تلقفني حشدهم فالتحمت بهم

قبلوني قبلتهم

فاهتز الجسر

صعد الماء الى قوائمه

انقذفنا إلى النهر، اغتسلنا

حامت فوق رؤوسنا مئات الحمامات البيض

حملتنا إلى السماوات ،طرنا، رقصنا

استعرنا منها أضالعها

وعدنا إلى الجسر نشيّده بأضلعنا"

فالضمير الذي يروى عن نفسه أصالة (ما إن وطأت قدماي جسر الشهداء) هو أنا المتكلم الحاضر الفاعل الهابط من عليائه إلى جسر الشهداء والذي سيتحول بعد قليل إلى ضمير مركب من اتحاده بسبعة شهداء ليروي أصالة ونيابة ما كان من أمر اغتسالهم وارتقائهم إلى ملكوت السماء عبر أفعال جمعية محددة بالزمن الماضي (حامت، حملتنا، طرنا، رقصنا، استعرنا، عدنا) مقابل فعل استنتاجي محدد بالزمن الحاضر(نشيّد) وهو الفعل الذي أختص ببناء قوائم الجسر على دعائم السلام وحقن الدم المراق. الضمير هنا يختزل الزمن ويكثّف الأحداث عبر دالات تثير في نفس المتلقي استرجاعاً معرفياً يؤدي إلى استقراء ما وراء الكلمات والوصول إلى فهم شامل لمعانيها فجسر الشهداء عراقياً يرتبط بسلسلة أحداث ابتدأت من فتاة الجسر (بهيجة) إلى آخر شهيد سقط مضرجاً بدم الشهادة على طريقه المؤدية إلى روح العراق وهذا هو ما اعتمده الخطاب الصوفي والديني على مرِّ العصور.     

في سابع الألواح تستمر الأنا المركبة العارفة بكلِّ شئ في رواية ما حدث للشهداء مؤكدة على سابوعية الرقم كإجراء قداسوي أولا وعلى فجائعية ما حدث ثانيا. إنها تسرد حكايتهم باستخدام الأفعال الماضية التامة والأفعال الناقصة التي تكمل المعنى والمغزى وتربط بين أطراف الحكاية:

"سبعة شهداء هبطوا من عين السماء

وصلوا أهداب الأرض"

وأي أرض؟ إنها أرض العراق، فالأول عانق نصب الحرية في ساحة التحرير، والثاني قرأ قصيدة العراق لأبطال النصب، والثالث جاء بكعكة السماء من أجل ميلاده ثانية على أرض العراق، والرابع دخل مدرسة بلاط الشهداء في بغداد، والخامس دخل مستشفى الرحمة ربما في بعقوبة والسادس دخل (متحف الشهداء) في قره قوش، والسابع استقل نبض العراق وروحه وعاد إلى السماء. وتستمر الأنا ساردة أفعال ماضي الشهداء (شقوا، فتحوا، ارتقوا، حطوا، التحفوا) على خلفية أسطرة تراتبية الحدث وتجلّي ذواتهم وارتقائها لما بعد تلك التراتبيات:

"سبعة شهداء شقوا أكفانهم

وفتحوا باب المقبرة

وارتقوا سلالم أرواحهم

وحطوا فوق جمجمة القمر

والتحفوا السماء"

وبالنبضة ذاتها تعود الأنا المركبة لتروي لنا عن الخبز والأمهات في رقيم العجين والكعكة السماوية والشهداء السبعة الذين تناسلوا من عيون ودموع أمهاتهم لتختم سباعية الألواح بشذا البخور كدال على سمو أرواحهم وارتقائها إلى مصافي الطهر والقداسة.

مما تقدم نستنتج أن الشاعر اعتمد في قصيدته (سبعة ألواح عراقية) على الاشتغالات الآتية:

1.     الاشتغال على قدسية الرقم سبعة ودلالته كما جاء في العنونة (سبعة ألواح عراقية) أو كما جاء في المتن(سبعة شهداء...)

2.     اشتغال الألواح السبعة على تناوب الضمائر الساردة وتداخلها.

3.     الاشتغال على اتحاد الضمائر بعضها مع بعض وانفصال بعضها عن بعض كضمائر مفردة أو جمعية أو مركبة. كما في حالة تزاوج ضمير المفرد الحاضر(الشاعر السارد) مع ضمير الجمع الغائب(المسرود عنه) الآباء، والشهداء، والأمهات.

4.     الاشتغال على الطقوسيّة لإسباغ القداسة على نص القصيدة وأجوائها.

5.     الاشتغال على مفردات الميثيولوجيا وتجيير شخصياتها (الآلهة) لدعم  مؤثثات النص.  

6.     الاشتغال على أسطرة الأفكار والوقائع والشخوص بما يتلاءم وجوهر المعنى المراد إيصاله الى المتلقي.

 .................................................

*(حمى آنو) مجموعة قصائد للشاعر شاكر مجيد سيفو صدرت عام 2004 عن المركز الثقافي الآشوري – دهوك. و(سبعة ألواح عراقية) هي القصيدة الأولى في هذه المجموعة.