جنرال الجيش الميت
مسرحية
عن رواية بذات العنوان للكاتب الألباني إسماعيل كاداريه
عبد الباسط أحمد أبو مزيريق
الطبعة الأولى 2009
حقوق النشر والاقتباس محفوظة للمؤلف
رقم الإيداع : 139 / 2009
دار الكتب الوطنية – بنغازي
الوكالة الليبية للترقيم الدولي الموحد للكتاب/ دار الكتب الوطنية
بنغازي – ليبيا/ هاتف: 9097074 – 9096379 – 9090509 بريد مصور: 9097073
البريد الإلكتروني: nat_lib_libya@hotmail.com الرقم الدولي الموحد للكتاب
ردمك ISBN 978-9959-1-0422-9
جنرال الجيش الميت
لوحة الغلاف
للفنان عدنان امعيتبق
تصميم الغلاف
أمير احمد
0913806435
الإهداء
إلى الأستاذ / عبد السلام ميلاد عطية
أستاذ المسرح بمعهد القويري الديني . زمن البدايات.. مع خالص ودي وتقديري ....
المؤلف
شخصيات المسرحية
1- الجنرال: في الخمسين من العمر شخصية متعجرفة متعالية انتهازية تدعي المثالية والنبل والشرف.. يعيش أزمة نفسية وانكسار.
2- الشيخ: في السبعين من العمر.. شهم عركته الحياة.. يميل إلى الدعابة أحيانا.
3- المرافق: بين الستين والخامسة والستين من العمر.. طيب دمث.. قليل الكلام.. هادي الطباع.
4- العجوز: في الستين أو أكثر بقليل.
5- الجنرال2: في الستين من العمر تقريبا أو أكثر بقليل.. مبتور اليد اليسرى.
6- المعاون: بين الثلاثين والأربعين عاما.
7- العامل: قروي شاب في الثلاثين من العمر.
مجموعة من الكومبارس يجسدون مجموعة العمال ويمكن استغلالهم في تنفيذ الرقصات.
ملاحظات إخراجية
يستطيع مخرج هذا العمل أن يتعامل مع العمل بشكل رمزي حيث لا مكان ولا زمان محددين.. إذ يمكنه في هذه الحالة أن يحول المسرح إلى رقعة شطرنج تدور عليها كامل الأحداث، مع بعض الإشارات والرموز التي تعبر عن تبدل المشاهد والأماكن.. ويتجلى ذلك في اللوحة الثالثة عندما يلعب الجنرالان الشطرنج، إذ يمكن توظيف أرضية المسرح ولعب الشطرنج عليها ببيادق كبيرة وهما واقفان. كما يمكن استغلال الإمكانيات السينمائية بعرض مشاهد من بعض الحروب هنا وهناك دون تحديد حرب معينة.. إضافة إلى استغلال مشاهد سينمائية يتم تصويرها خصيصا للعمل كمشاهد عمليات البحث والتنقيب عن الرفاة، وكذلك عملية اعتداء الجنود على العجوز وأسرتها أثناء سردها للواقعة إضافة إلى مشهد النهاية.
المؤلف
المقدمة
جنرال الجيش الميت:
نص يحيي الكلمات وهي رميم
عندما فتحت – على الحاسوب - نص "جنرال الجيش الميت" للمسرحي الليبي الصديق عبد الباسط أحمد أبو مزيريق، وتأملت الصفحة الأولى حيث العنوان والإشارة أن النص معد عن رواية تحمل العنوان ذاته للروائي الألباني إسماعيل كاداريه. كان أول سؤال طرحته على نفسي هو: هل يدرك عبد الباسط ـ وهو يقبل على هذه المغامرة ـ أي خطورة يركب؟.. صحيح أن الجرأة أمر مطلوب في أي ممارسة إبداعية، بل يمكن أن تصل هذه الجرأة حد المغامرة المجهولة العواقب.. لكنها هنا تصير جرأة لا تخلو من توجس حين يبدو الأمر وكأنه تجاسر على عمل روائي ضخم لكاتب عظيم من حجم إسماعيل كاداريه بمضمون عميق لا تضبطه حدود التاريخ والجغرافيا رغم أن صاحبه ركز على تبعات الحرب الإيطالية على ألبانيا.. وسرعان ما بدأ هذا التوجس يتراجع بمجرد أن ألقيت نظرة على الصفحة الثانية من مخطوطة عبد الباسط حيث حدد شخصيات نصه المسرحي؛ فأدركت من خلال الاعتناء بتفاصيل الشخصيات، وطريقة اختزالها، أن وضوحا في الرؤية يقف قاعدة صلبة في اشتغال عبد الباسط.. ما كان له أن يقدم ترتيبا لهذه الشخصيات بهذه الدقة، وما كان له أن يمعن في تفاصيل خصائصها لولا هذه الرؤية المسبقة التي شكلت مرجعية في تعامله مع الرواية.. وجاءت الصفحة الثالثة المتضمنة للملاحظات الإخراجية لتؤكد وجود هذه الرؤية الدقيقة المستوعبة للرواية والمفصحة عن نية عبد الباسط لـ"تهجيرها" نحو المسرح.. ولأني معتاد على حالات التوجس، ظل شك لعين يراودني ـ مع أن بعض الظن إثم ـ في قدرة عبد الباسط على ردم الهوة بين شكلين إبداعيين قائمي الذات.. الرواية والمسرح.. ثم كيف يمكن تذويب عمل ضخم (الرواية) من خمسة وعشرين فصلا وثلاثمائة وست وثلاثين صفحة في ثنايا نص مسرحي من ثلاث لوحات دون أن تفقد الرواية روحها وعمقها؟.. وكيف المرور من سرد حكائي وصفي شديد الجزئيات والتفاصيل إلى درامية حوارية تحافظ على نسغ النص الروائي دون أن تفقد خصوصيتها المسرحية؟..
كانت الأسئلة تلك ملحةً وأنا أقلب صفحات النص عبر شاشة الحاسوب، لكن سرعان ما "سافرت" مع شخصيات النص المسرحي لتتلاشى كل الأسئلة السالفة ويتبدد كل التوجس "الآثم".. نسيت أني أمام نص معد عن عمل روائي.. كنت، فعلا، أمام نص مسرحي خالص التأليف ذوَّب فيه مؤلِّفه نسغ النص الروائي وجعله يتوارى خلف لغة شفافة انسيابية وسلسة، وشاعرية أحيانا.. وخلف شخصيات منحوتة بدقة مسرحية امتلكت خصائصها الدرامية لتؤشر على لعب تمثيلي محتمل خالص التفاصيل والمسارات.. وخلف بناء درامي يؤشر على حس دراماتورجي ذي تجربة، يضع في اعتباره خصوصية الخشبة واشتراطاتها وإكراهاتها أيضا، لدرجة أن النص صار بنية درامية يتداخل فيها اشتغال الدراماتورج باشتغال المخرج.. وحتى على مستوى المضمون، فقد نجح النص المسرحي في إخراج الرواية من إطارها الثنائي (إيطاليا ـ ألبانيا) إلى المطلق الذي لا يرتبط ببيئة محددة في التاريخ والجغرافيا.. صار نصا كونيا، إنسانيا لأنه ارتكز على قيمة إنسانية لا تخص جنسية دون أخرى.. إنها القيمة المركبة، والمفارقة في آن واحد، قيمة التشبث بالأصل والدفاع عنه بكل شراسة، متداخلة مع قيمة التسامح والتعاون مع من يريد استرداد أصله، ولو فقده بالخطأ أو عن طريق الظلم والعدوان.. ولعل شخصية الشيخ في النص المسرحي تجسيد خالص لهذه القيمة المفارقة، لدرجة أنه استطاع أن ينتزع الاحترام والتبجيل حتى من عدوه، الذي اعتبره رجلا محترما كان إيجابيا في السلم كما في الحرب، لأنه ـ في الحرب ـ دافع عن أصله/ هويته/ أرضه.. وفي السلم، ساعد عدوه على استرجاع رفاته/ أصوله، مع أنه في العمق يريد تطهير أرضه الصلبة من هذه الرفات المغتَصِبة..
في الختام، أعترف أن عدم معرفتي السابقة بالصديق عبد الباسط أحمد أبومزيريق هو ثقب في الخريطة المسرحية التي أرسمها للمسرح العربي في مخيلتي.. ومعرفتي به من خلال مسرحية "جنرال الجيش الميت" هو ترميم لهذا الثقب في الخريطة.. كيف لا وعبد الباسط "المشاغب" جمع بين اللغة العربية الأنيقة والحس الدراماتورجي الواعي والجرأة الإبداعية.. ألا يكفي أنه اخترق نص رواية إسماعيل كاداريه ليحيي الكلمات والأحداث وهي رميم؟؟..
د.عبد المجيد شكير
الدار البيضاء في 06 ماي 2009
اللوحة الأولى
(المسرح فضاء رحب.. بعض التلال في البعيد.. الجو عاصف.. يسمع صوت الرعد من حين لآخر .. كما يشاهد البرق أيضا.. يظهر الجنرال مرتديا بزته العسكرية في مؤخرة المسرح أعلى التلة.. يشير إلى جنوده بالتقدم.. موسيقى مناسبة للموقف.. المسرح معتم قليلاً.. والمشهد أشبه بحلم. يدخل عدد من الجنود صفًا واحدًا.. نراهم كالأشباح.. موسيقى مناسبة.. مع رقصة تناسب الموقف).
الجنرال : هلموا أيها الأشاوس.. هلموا أيها الأبطال.. جئنا كي نعيد لدولتنا هيبتها.. كي نؤكد للعالم أننا الأقوى.. أننا الأعظم.. هيا أيها الأبطال.. المجد يناديكم.. هلموا.. أنا قائدكم.. جئت كي أخلصكم .. كي أصنع بكم ومعكم المجد.. هلموا.. هلموا أيها الأبطال.. (يفضل مصاحبة المشهد أغنية مناسبة.. أو قصيدة مقابلة.. تقال على لسان أهل البلد.. الذي يهب مدافعًا عن أرضه ووطنه.. لحظات وينتهي هذا المشهد المتخيل.. ليظهر في البعيد ظل الجنرال.. مرتديًا بعض ملابسه وعلامات الإرهاق بادية عليه.. يحمل في يده زجاجة خمر.. يتجرع منها بين الحين والآخر).
الجنرال : (مخمورًا) هلموا أيها الأبطال.. المجد يفتح ذراعيه لاحتضانكم.. هلموا.. قفوا إجلالاً وتعظيمًا لقائدكم.. من جاء كي يعيد إليكم مجدكم المسكوب على الأرض (يسكب ما تبقى من الزجاجة على الأرض.. ثم يدخل في نوبة هستيرية من الضحك.. يرمي بالزجاجة في أحد الأركان).
المرافق : (يدخل) سيدي.. ما بك؟..
الجنرال : (يتوقف قليلاً عن الضحك.. ينظر إليه.. ثم يعاود الضحك بصوت أعلى).
المرافق : سيدي الجنرال؟!..
الجنرال : أيها العجوز المسكين.. عُد إلى نومك..
المرافق : (بود) ما بك؟.. لم هذا الصراخ؟.. نحن في آخر الليل.
الجنرال : لا شيء.. لا شيء.. (بغضب) عد إلى نومك..
المرافق : ولكن؟!!.
الجنرال : (بحزم) قلت لك لا شيء.
المرافق : (يشاهد زجاجة الخمر.. يرفعها) الخمرة اللعينة ثانية.. سيدي الجنرال.. مهمتنا نبيلة.. وتحتاج منا كل الجهد والوقت.. هيا اذهب واخلد إلى النوم قليلاً.
الجنرال : لا حاجة بي إلى النوم.. لقد أخذت كفايتي.. اذهب أنت.
المرافق : ولكن يا سيدي!!.
الجنرال : (بغضب) أووه.. قلت لك لا أريد.. سأنتظر الصباح.. ففي الغد تبدأ مهمتنا.
المرافق : أجل (صمت) ها قد عُدنا من جديد.. ياه.. نعود بعد أربعين عامًا.
الجنرال : أجل أيها العجوز.. لقد وصلنا.
المرافق : وصلنا بعد كل هذا العناء.. لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً.
الجنرال : لا بأس.. المهم أننا هنا الآن.. وقد انتهى الأمر إلى ما نشتهي.
المرافق : احتاج الأمر إلى جهود بعض الساسة.
الجنرال : اللعنة عليهم.. كم أمقت هؤلاء الساسة.. كنت دائمًا أشعر بالاشمئزاز من مناوراتهم ومحاوراتهم المضحكة.
المرافق : كُلٌ ساهم بدوره لإنجاز هذه المهمة النبيلة.
الجنرال : ليس بعد.. فنحن لم نباشر العمل حتى هذه اللحظة.
المرافق : في الغد نبدأ.. ها قد عدنا أخيرا.
الجنرال : أجل.. عدنا حيث ينام جنودنا البواسل منذ حوالي أربعين سنة.
المرافق : أربعون عامًا.. يا للسنين.. إنها تمر كلمح البصر.
الجنرال : أتعني لك العودة ثانية الكثير؟.
المرافق : بالطبع.. لقد كنت هنا وقتها.. ارتسم المكان في مخيلتي وكأنه يسكنني.. حتى بت لا أقدر على نسيانه (ينظر في الأرجاء) لا أدري.. أحس أن الأمور تغيرت كثيرًا.
الجنرال : لابد للحياة أن تمضي في طريقها.
المرافق : لست مطمئنًا تمامًا.
الجنرال : ماذا تعني؟.
المرافق : أشعر ببعض الانقباض.. ألم تلاحظ الطقس؟.. لقد انقلب لحظة وصولنا.. أخشى أننا جئنا في وقت غير مناسب.
الجنرال : (بحزم) دع عنك هذه الهواجس (بخيلاء وكبرياء) إنّها السماء تحتفل بمقدمنا.. انظر.. إنها ترسل أضواءها وتنادينا بصوت مرتفع (بسخرية) هيا .. هيا أيها العجوز (تظهر علامات عدم الرضى على المرافق بسبب كلمة عجوز) لا تغضب.. أبعد عنك هذه الوساوس واستعد للعمل.. إن دولتنا عندما كلفتنا بهذه المهمة النبيلة.. وشرفتنا بمهمة العودة برفاة أبطالها الأشاوس.. تعرف جيدًا أن واجبًا مقدسًا كهذا لا يمكن أن يقوم به إلا من عرف معنى الفخر والكبرياء.. ومثل هذا الشعور كفيل بطرد جميع الوساوس عني.
المرافق : على رسلك أيها الجنرال.. أنا أيضًا أقدّر نبل مهمتنا.. فلا تدع الظنون تذهب بك بعيدًا (لحظة صمت) يخيّل إليّ أن هذه البلاد لا ترحب بمقدمنا.
الجنرال : (بقوة) كفى ثرثرة.. إن أجساد العشرات.. بل آلاف الجنود المدفونة في تراب هذه الأرض.. تنتظر قدومنا منذ سنوات لانتشالها من ثنايا الطين وإعادتها إلى أهلها.. كان لابد من محو جناية أولئك الجنرالات.. من قادوا هذه الطوابير إلى الهزيمة والدمار.. سأنتشلها من النسيان والعدم.. سأنطلق مسرعًا من مقبرة إلى أخرى بحثًا عن المفقودين.. ولن يعرف القنوط أو الخيبة طريقهما إليّ.
المرافق : أُكبر فيك هذه الهمة لإنجاز هذه المهمة النبيلة .. سنتمها بنجاح.. إن آلاف النساء ينتظرن أزواجهن وأبنائهن وقد مضى على فراقهم أربعون عامًا.
الجنرال : لقد تعهدت لهن بذلك.. ولن أنسى تلك العجوز التي تنتظر رفات ابنها.. لن أنسى كلماتها لي.. "ستحلق فوق جبال حزينة صامتة مثل عصفور بهي المنظر لتنتزع من براثنها وأشداقها أبناءنا البؤساء" (يعاود البرق والرعد).
المرافق : عاد الطقس السيء من جديد.
الجنرال : (بانتشاء) أشعر بسعادة غامرة.. كم يبهجني سماع صوت الرعد.. وكأني بجيشنا الميْت ينهض من مدفنه ليحيّي قائده الذي طال انتظاره له.
المرافق : بتُّ لا أفهمك.
الجنرال : ليس من الضروري أن تفهم.. إن مهمتك تنحصر في تحديد الأماكن التي قُبِرَ فيها جنودنا البواسل.. ألم تكن مرافقًا للجيش حينها؟..
المرافق : بلى.. كنت مراسلاً حربيًا وقتها.
الجنرال : آه (بحسرة) كم تمنيت لو كنت معكم وقتها.
المرافق : تبدو متحسرًا.
الجنرال : لقد قرأت كل ما كتب عن هذه المعارك.. كتاباتك بالأساس.. أشعر بالحسرة لعدم اشتراكي فيها.. لو كنت هنا وقتها.
المرافق : لو كنت هنا وقتها.. لتمنيت غير ذلك.
الجنرال : (بغضب) ماذا تعني؟.
المرافق :- لا شيء.. لا شيء.
الجنرال : (يمسك به) أنا جندي أيها العجوز.. بضاعتي الموت.. أبيعه إلى من يقابلني بثمن بخس.. عليك أن تعي ذلك جيدًا.
المرافق : لم أقصد الإساءة (لحظة صمت) كنتَ صغيرًا وقتها؟.
الجنرال : لم أتجاوز العاشرة من عمري.. لكن أبي كان معكم.
المرافق : أبوك؟!!.
الجنرال : قائد الفوج الأزرق على ما أذكر.. لعلك تعرفه؟.
المرافق : ومن ذا لا يعرفه.. كان بطلاً.. ولكنك لا تحمل اسمه.
الجنرال : أحمل اسم عائلة أمي.. فجدي من قام بتربيتي وأختي بعد وفاة أبي.
المرافق : كان رجلا عظيما.. لكنه اختفى بعد دخولنا هذه المنطقة تحديدًا بشهرين.
الجنرال : اختفى!!.. ماذا تعني؟.
المرافق : اختفى!!.. لا أحد يعلم عنه شيئًا.
الجنرال : بهذه البساطة.. هل قتله أحدهم؟.
المرافق : من يدري.. لقد بحثنا عنه في كل مكان دون جدوى.
الجنرال : أين حارسه الشخصي؟.
المرافق : رفض ليلتها أن يصحبه أحد.. خرج ولم يعد..
الجنرال : كيف؟!!.. لعلكم لم تبحثوا جيدًا (صمت) قبلت هذه المهمة من أجل العودة به (يستدرك) أعني برفاته.. لقد وعدتك أختاه.. ولن أعود من دونه.
المرافق : جئنا من أجل مهمة أنبل.. من أجل الجميع.
الجنرال : (بغضب) لست بحاجة إلى من يذكرني بواجبي.
المرافق : لم أقصد سيدي.
الجنرال : لا عليك.. تعال واشرب كأسًا يجدد نشاطك.
المرافق : لا بأس.. أنا بخير.
الجنرال : (يرفع الزجاجة فيجدها فارغة.. يرمها) اللعنة.. لابد من أحد يعرف شيئا عن أخباره.
المرافق : أرجو ذلك..
الجنرال : لا يعقل أن يختفي هكذا.. هل ابتلعته الرمال؟!!.
المرافق : تضاربت الأقوال.. هناك من راهن على موته.. وآخرون يعتقدون أنه فرّ من المعركة.. خوفًا من المواجهة الحاسمة.
الجنرال : (يقف غاضبًا.. ممسكا برقبته) اللعنة عليك أيها العجوز.
المرافق : (بخوف) هكذا تحدث الجميع وقتها.
الجنرال : (يلقي به أرضًا) اللعنة عليكم جميعًا (صمت) كيف لم تعثروا على جثته؟.
المرافق : لا أثر لها.
الجنرال : سأُعاود البحث.. لابد أن أعثر عليها.
المرافق : عبثًا تحاول.. لا فائدة بعد أربعين عامًا.
الجنرال : لا يمكن.. لابد من أخبار عنه.. سكان المنطقة؟!!.
المرافق : أوتعتقد أننا لم نبحث عنه؟.
الجنرال : لم تَجِدُّوا في ذلك.. ربما بسبب الارتباك وقرب نشوب المعركة.
المرافق : لا.. فقد كان لدينا متسع من الوقت.. بحثنا عنه في كل مكان .. وما من أثر.
الجنرال : حسنًا.. لدي إحساس بأننا سنعثر عليه.
المرافق : أتمنى ذلك.
الجنرال : (بضيق) لقد تأخر هذا الأحمق.. كان عليه أن يكون هنا الآن.
المرافق : لا يزال الوقت مبكرا.. علينا أن نصبر قليلاً.
الجنرال : اللعنة.. لماذا طاوعته وسمحت له بالتخلف عنا.
المرافق : كان لابد من ذلك.. عليه أن يحضر الشيخ معه.
الجنرال : وما حاجتنا إليه.. كان يمكننا الاستعانة بأي أحد.
المرافق : لابد من دليل يعرف المكان جيدًا.. لا تنسى.. المكان مليء بالألغام.
الجنرال : لدينا الخرائط.
المرافق : ليست جميعها.. هناك جيوش غيرنا دخلت المكان.. ولا توجد لدينا الخرائط التي تخصهم. والأمر الأهم هو تحديد أماكنها.. ووضع العلامات الدالة عليها قبل البدء في أعمال الحفر.
الجنرال : سنقوم بذلك حتمًا.. لدينا أجهزة الكشف عن الألغام.. لم الخوف؟.
المرافق : ومع ذلك.. وجوده معنا سيسهل المهمة.. اصبر قليلاً.
الجنرال : اللعنة.. الوقت يمر ببطء.. لم أعد أحتمل الانتظار.. هيا لنبدأ العمل.. أين بقية الرجال؟.
المرافق : في خيامهم.
الجنرال : أصدر الأوامر بالتحرك.. لن أنتظر أكثر.
المرافق : لابد من حضور الشيخ.. فهو الأعلم بمكان المقابر.
الجنرال : ولماذا أنت هنا إذن؟.. ألم تكن وقتها معهم؟.
المرافق : بلى.. واشتركت في أعمال الدفن.. لكن المكان تبدّل كثيرًا بفعل الزمن.
الجنرال : بل أنت من خرف.. ولم تعد تصلح لشيء (بحسرة) لو كنت وقتها معكم......
المرافق : ( يقاطعه رافعا صوته أكثر من المعتاد مقاطعا إيّاه) لو كنت وقتها معنا.. لكان جنرال آخر غيرك مكلف بهذه المهمة.
الجنرال : والمعنى؟!!.
المرافق : (يعاود هدوءه) لم يكن دخولنا إلى هذه البلدة سهلاً.. أنت لا تعرف أهلها.. إنهم أناس كجميع الناس.. رجال كبقية الرجال.. لكنهم في الحرب يصبحون كالنمور.. لا مكان للخوف في قلوبهم.. كنا أكثر عددًا وعدة.. ومع ذلك.. ها أنت ترى.. نعود بعد أربعين عامًا بحثًا عن رفاة جنودنا.
الجنرال : هراء.. لقد انتصرنا وانتهى الأمر.
المرافق : وأي نصر!.. قد نسمي ما كان نصرًا.. مات الكثيرون.. أكثر مما تتصور
الجنرال : هي الحرب.. لابد من خسائر.. ثم إن ذلك كان بسبب قادة أغبياء.. لا يجيدون فنون الحرب والمعارك.
المرافق : كانت أيامًا لا تنسى.. كنتُ شابًا حديث التخرج وقتها.. لم أتجاوز الخامسة والعشرين.. جئتُ مراسلاً لإحدى الصحف (يدخل المعاون.. شاب ثلاثيني.. يرتدي ملابس أنيقة).
المعاون : أسعدتم صباحًا أيها السادة.. أعتذر عن التأخير.
الجنرال : لا أحب أن يتكرر ذلك منك.. للوقت ثمن.. ونحن ندفع بسخاء.
المعاون : أكرر اعتذاري.. لقد أخذ مني البحث وقتًا طويلاً.
المرافق : أين هو؟.
المعاون : رفض المجيء معي؟.
الجنرال : اللعنة!!.
المرافق : كان عليك أن تقنعه.. أن تجزل له العطاء.
المعاون : لقد فعلت دون فائدة.
الجنرال : والعمل؟!!.
المرافق : كان يجب أن تتصرف.. للنقود فعل السحر.
المعاون : أنت لا تعرفه.. إن له رأسًا كالصخر.. لا فائدة.
الجنرال : لا بأس.. هيا إلى العمل.. هات الخرائط من الداخل يا عجوز (للمعاون) وأنت .. اتبعني.
الشيخ : (يدخل حاملاً كيسًا مليئًا خلف ظهره) على رسلك يا هذا.. لقد وصلت.
المعاون : (بفرح) أهلا بك يا شيخ.. لقد جئت في الوقت المناسب.
الشيخ : أعرف.. لم آت من أجلكم.
المعاون : المهم أنك جئت.
الشيخ : (يلقي بالكيس أمام الجنرال) خذ هذا.. إنه يخصكم.
الجنرال : ما هذا؟.
الشيخ : أحد الذين تبحثون عنهم.
المعاون : (يتحسس الكيس) إنها عظام آدمية.
الشيخ : بالطبع آدمية (بسخرية) أوتعتقد أنني أحضرت لكم عظام خنزير.
الجنرال : لمن هذه العظام؟.
الشيخ : قلت إنها لكم.. ألا تفهم؟!!.
الجنرال : كيف عثرت عليها؟.
الشيخ : كان مدفونًا في أرضي.
الجنرال : أوتعرف صاحبه؟.
الشيخ : لو لم أكن أعرفه.. ما أحضرته إليكم.. لقد دفنته بيدي.
الجنرال : أأنت من قتله؟ (يدخل المرافق ومعه الخرائط).
الشيخ : ليس من الضروري ذلك.. المهم أنه أحد جنودكم.. لقد استنجد بنا يومًا.
المرافق : ماذا تعني؟.
الشيخ : كان يائسًا.. لقد فرّ من وحدته وطرق بابنا ليلاً.. فكان لزامًا علينا نجدته.
الجنرال : أنت واهم أيها الشيخ.. ليس من بين جنودنا من يفر من ميدان الشرف.
الشيخ : في الحرب.. تحدث أمور كثيرة لا يتصورها أحد.. المهم.. إنه لكم.. وهذه تخصه.. لقد طلب مني الاحتفاظ بها (يمد له الدفتر).
المرافق : (يتصفحها) هل تعرف اسمه؟.
الشيخ : لم أسأله عن اسمه.. وعند الفجر.. قتل نفسه خوفًا من لحاق جنودكم به.
الجنرال : هذا جزاء كل جبان خائن.
المرافق : (يتصفح الدفتر) لا يوجد في الدفتر ما يفيدنا.. بعض القصائد العاطفية لا غير.. هل كان يحمل رتبة ما؟.
الشيخ : لا أدري.. هذا كل ما كان معه.
المرافق : (للجنرال) أيعقل أن يكون ........؟!
الجنرال : (يقاطعه) اصمت عليك اللعنة.. أية أفكار مجنونة تراودك أيها المعتوه.. يقول إنه قد فرّ من المعركة.
المرافق : (للشيخ) أتذكر تاريخ الواقعة تحديدًا؟.
الشيخ : كان ذلك قبل المعركة الحاسمة بأسبوع تقريبًا.
الجنرال : أرأيت!.. إنه شخص آخر.
المرافق : صدقت.. فوالدك اختفى قبل المعركة الحاسمة بشهرين.
الشيخ : والده؟!!.. (يبتعد الجنرال.. يتبعه الشيخ ويحادثه) خذ يا سيد.. هذه النقود تخصك.
الجنرال : (يأخذها) ما هذه؟.
الشيخ : وجدتها في سترته.. هي من حقك الآن.
الجنرال : من حقي؟!.
الشيخ : ألم يقل إنه والدك؟.
الجنرال : لا.. إنه شخص آخر (يبتعد).
الشيخ : شخص آخر.. إذن فهي لا تخصك ( يتبعه ) هاتها (للمرافق) لم تقل لي من والده؟.
المرافق : قائد الفوج الأزرق.. لعلك سمعت عنه؟!.
الشيخ : (بحنق) سمعت عنه!!.. من في هذه القرية لا يعرف ذاك السفاح؟.
الجنرال : (بلهفة) هل تعرف شيئًا عنه؟!.
المرافق : تعرف ما حدث له؟!.
الجنرال : أين قبره؟.. أخبرني.
الشيخ : هنا (يشير إلى أسفل قدمه ويدوس عليه).
الجنرال : ماذا تعني؟.
الشيخ : لن أنسى ما فعله السفاح بقريتنا عند دخولها.. لكنه نال ما يستحق.
المرافق : هل قُتل؟.
الشيخ : (بخبث) يقولون!!.
الجنرال : (بلهفة) ماذا يقولون؟.
الشيخ : لن يسرك ما يقولون.. فدعك من الحديث عنه (يذهب).
المعاون : إلى أين أنت ذاهب؟.
الشيخ : عائد إلى بيتي.. أتمانع في ذلك؟.
المرافق : ولكن يا شيخ.. نحن بحاجة إلى خدماتك.. سندفع بسخاء.
الشيخ : وأنا لست بحاجة إلى نقودكم.
المرافق : ألن تساعدنا؟.
الشيخ : قد أفعل.. ولكن ليس من أجلكم.
المعاون : المهم أن تساعدنا.. أين يمكننا البحث؟.
الشيخ : ابحثوا خلف التلة هناك.. ستجدون الكثيرين.
المرافق : هل من أماكن أخرى؟.
الشيخ : احفروا في كل مكان.. ففي كل شبر من هذه الأرض قبر لأحد جنودكم.. أتمنى لكم التوفيق.. حتى يتطهر باطن الأرض كما تطهر ظهرها (يخرج).
المرافق : (للمعاون) اتبعه.. حاول إقناعه بالتعاون معنا.
الجنرال : أتعتقد أنه سيفيدنا؟.
المرافق : إنه يعرف الكثير.
الجنرال : مؤكد ذلك.. أتراه يعرف شيئًا عن أبي؟.
المرافق : في حديثه خبث واضح.. من المؤكد أن لديه ما يقول.
الجنرال : إذن.. هيا نلحقه.. لابد أن يتكلم.. انتظر يا شيخ سندفع بسخاء.. سندفع ما تطلبه (يخرجان).
إظلام ...
اللوحة الثانية
(المسرح كما في اللوحة الأولى.. مع تغيير طفيف في المكان إن أمكن.. يظهر الجنرال أمام خيمته لحظات وتخرج أشباح لموتى من باطن الأرض يرتدون الأكفان ويهاجمونه.. إنها تمثل أرواح الجنود القتلى.. موسيقى مناسبة تعبر عن الموقف.. تشكل هذه الأشباح المهاجمة شكل الطيور الجارحة التي تستعد لاقتناص فريستها.. يستمر المشهد.. مع موسيقى ورقصات مناسبة للحظات).
الجنرال : (يصرخ بأعلى صوته) لا.. لا.. النجدة.. أغيثوني.. الأشباح تهاجمني.. النجدة.. النجدة (يفر هاربًا هنا وهناك.. حتى يفاجأ بوجود الشيخ في أحد الأركان وهو يقوم بلف سيجارة).
الجنرال : أنت؟!!.
الشيخ : لا تخف.. اقترب وخذ هذا السيجار.
الجنرال : لا رغبة لي.. أأنت هنا منذ زمن؟.
الشيخ : (يهز كتفيه) منذ بضع دقائق.
الجنرال : هل لاحظت شيئًا؟.
الشيخ : ماذا تعني؟.
الجنرال : أشخاص غريبو الأشكال.
الشيخ : لا أحد في المكان سوانا.. اقترب ولا تخف.. لعله كابوس مزعج.
الجنرال : وأي كابوس.. إنه لا يفارقني منذ وطئت قدماي هذا المكان.
الشيخ : (بسخرية) للخوف وجوه كثيرة؟.
الجنرال : لا مكان للخوف في قلبي.. إنه الإرهاق.. أسبوع ونحن نبحث بلا جدوى.. عثرنا على بعض القبور المتناثرة لا غير.. بدأ الفتور والملل يحاصراني.
الشيخ : كان عليكم جلب خرائطكم معكم.
الجنرال : إنها معنا.. لكنها غير دقيقة.. يبدو أنها رسمت على عجل.. كما أن الرمال المتحركة في المكان تعرقلنا.
الشيخ : في الحروب.. كل شيء يتم على عجل.. أذكر وقتها.. وبعد معركة حامية الوطيس قُتل فيها من قُتل.. أذكر أن جنودكم قد حفروا خندقًا كبيرا دفنوا فيها قتلى المعركة.. أعتقد أنها هناك.. خلف تلك التلة القريبة من هنا.
الجنرال : هل أنت على يقين من ذلك؟.
الشيخ : أحفروا هناك.. ستجدون الكثيرين.
الجنرال : الخرائط التي عندي تشير إلى منارة على شاطئ البحر.
الشيخ : هذا صحيح.. كانت هناك في الجهة المقابلة.
الجنرال : أين هي الآن؟.
الشيخ : اختفت.. كغيرها من المعالم.
الجنرال : حسنا.. لو كانت المنارة في تلك الجهة كما تقول.. فإن المقبرة ستكون خلف تلك التلة فعلا.
الشيخ : لقد أخبرتك بما لدي.. تصبح على خير (يهم بالخروج).
الجنرال : لم لا تلتحق بنا؟.. سندفع بسخاء.
الشيخ : لا حاجة لي بالمال.. فأنت ترى.. شيخ على حافة القبر.
الجنرال : نحن بحاجة إلى خدماتك.
الشيخ : (بحزم) لن أكون خادمًا لأحد.
الجنرال : لن تكون خادمًا.. ستكون رئيسًا للعمال معنا.. ودليل مهمتنا.
الشيخ : سأفكر في الأمر.
الجنرال : سنعطيك كل ما تطلب.. فقط كن معنا.
الشيخ : ألهذا الحد تراني مفيدًا لكم؟.
الجنرال : كل من قابلناه أخبرنا أنك الشخص الوحيد القادر على مساعدتنا.
الشيخ : قد لا أكون مفيدًا بالقدر الذي تظنون.. فأنا شيخ كبير.. وذاكرتي بدأت تخونني.
الجنرال : بمساعدتك.. ومساعدة الخرائط التي جلبناها معنا.. سننجز مهمتنا على أحسن وجه.
الشيخ : أتمنى ذلك.
الجنرال : مائة دولار عن كل رفاة نعثر عليها.. وخمسون عن كل محاولة فاشلة.
الشيخ : مقابل لا بأس به (يبتسم).
الجنرال : لماذا تبتسم؟.
الشيخ : لا شيء (بسخرية) بالأمس أحارب أباك واليوم أعمل تحت إمرتك.
الجنرال : الدنيا تغيرت.. وأعداء الأمس صاروا أصدقاءً اليوم.
الشيخ : لا أعتقد ذلك.
الجنرال : ماذا تعني؟.
الشيخ : قد تجمعهم مصالح.. لكن الصداقة شيء مختلف.
الجنرال : معك حق.. المهم أن تكون معنا.
الشيخ : سأخلد للنوم قليلا.. طابت ليلتك (يخرج).
الجنرال : وليلتك (يأخذ زجاجة الخمر ويسكب كأساً لنفسه.. لحظات ويدخل المرافق).
الجنرال : أين كنت حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟.
المرافق : كنت في المدينة القريبة من هنا صحبة المعاون.. أحضرنا بعض العمال الإضافيين.
الجنرال : عمل جيد .. سنحتاجهم صباح الغد.
المرافق : علينا أن نكثّف البحث.. الوقت يمضي دون نتائج تذكر.
الجنرال : معك حق.. علينا أن نبدّل استراتيجيتنا.. سنقسم العمال إلى مجموعات عمل.. وكل واحد منا يقود مجموعة.. وجود الشيخ معنا.. سيساعدنا كثيرًا.
المرافق : تقول الشيخ.. وأخيرا وافق على العمل معنا.
الجنرال : أراك سعيدًا بوجوده بيننا.
المرافق : إنه من سكان المنطقة ويعرف الكثير.
الجنرال : الأهم من ذلك أنه شارك في المعارك ضد جنودنا.. وبالتالي يستطيع تحديد مواقعها.. فيسهل علينا البحث.
المرافق : هذا صحيح (يتثاءب) عليّ أن أذهب إلى النوم.. وراءنا عمل شاق.
الجنرال : ليلة طيبة (محدثا نفسه) اللعنة.. بت أخشى النوم خوفا من هذه الأشباح التي تلاحقني.. سأشرب المزيد علّها تنسيني وتريحني من هذه الأشباح (تمر عجوز بالقرب من المكان.. يلاحظها الجنرال.. ينادي) هيه.. أنت.. أنت أيتها العجوز (تختفي العجوز بسرعة) لعلها شبح أيضا.. ألهذا الحد بت خائفًا.. أشباح الموت تلاحقني.. وهذه العجوز الشبح أيضا (يلوم نفسه) يالك من قائد فاشل.. كيف بك وأنت تخوض معركة حقيقية.. معركة يمزقها دويُّ المدافع والقنابل.. هل تجبن وتفر من المعركة كأبيك (يصرخ) لا.. أبي لم يفر من المعركة.. وكذلك أنا.. أنا قائد هذه الجيوش المظفرة.. سأنتصر.. سأنتصر عليك أيتها الأشباح.. لن أخافك بعد الآن (يسكب كأسا أخرى) تعالي إلي.. أنا في انتظارك.. سأقضي عليك بهذا السيف (يلوّح بزجاجة الخمر كأنها سيف فينسكب الخمر على ملابسه) أنا الجنرال.. أنا بطل هذه المعركة.. معركتي معكم لن تكون خاسرة.. تعالوا إليّ.. تعالوا وسترون ما أفعل بكم (يضحك ضحكة هستيرية.. يتبعها خوف شديد) لا.. لا.. أرجوكم.. كنت فقط أمازحكم.. ألا مكان للمزاحم عندكم؟.. أنا هنا فقط في مهمة محددة.. عليّ أن أعثر على رفاة جنودنا البواسل وأعيدها إلى الوطن.. لم آت لمحاربتكم.. فأنا أعرف قدركم.. أعرف مقدار قوتكم.. أنتم أشباح.. أشباح لا يستطيع كائنًا من كان أن يحاربكم.. لنعقد صلحًا بيننا.. دعوني أكمل مهمتي.. وأعدكم ألا ترون وجهي هنا ثانية.. أرجوكم.. أرجوكم (يستجدي متباكيا) أرجوكم.. دعوني أكمل مهمتي.. أنا جنرال مسكين.. لا تغرّكم هذه النياشين التي أعلقها على صدري.. فأنا لم أدخل حربًا قط.. كيف لي أن أحاربكم.. وأنتم.. أنتم من أنتم.. أشباح لا تقهر.. أشباح تنقض على فريستها وتنهشها.. تقطعها إربًا إربا.. أرجوكم.. أرجوكم دعوني وشأني.. لا تقتلوني.. دعوني.. دعوني (يلاحظ وجود العجوز في إحدى زوايا المسرح) هيه.. أنت.. أنت أيتها العجوز الشبح.. ماذا تريدين مني؟.. أرجوك.. دعيني وشأني (يدخل الخيمة مسرعا هربا من هذه الأشباح.. تلحقه العجوز ببطء وهي تمشي على رؤوس أصابعها تحمل في يدها سكينًا.. ومن خلفها يدخل الشيخ متسللا أيضا.. يتبعها.. يمسك يدها وينتزع السكين منها).
الشيخ :- ماذا تفعلين هنا؟.. ولماذا هذا السكين؟.
العجوز :- (تصرخ) دعني وشأني.. دعني وشأني.
الشيخ :- كيف أدعك؟.. هل جئت لقتله؟.. أي جنون هذا؟.
العجوز :- وما شأنك أنت؟.. هل نسيت ما فعلوه بنا؟.
الشيخ :- الحرب انتهت.
العجوز :- قل توقفت.. لكنها أبدًا لن تنتهي.
الشيخ :- ليكن.. إنهم ضيوفنا الآن.. وعلينا حمايتهم.
العجوز :- لقد قتلوا زوجي وابنتي.. هل نسيت؟!.
الشيخ :- كيف لمثلي أن ينسى.. ولكن ذلك منذ أربعين سنة.
العجوز :- ولو بعد ألف عام.. سأنتقم منهم.
الشيخ :- بقتلك هذا الجنرال المسكين.
العجوز :- وكل شخص يعود إليهم بصلة.. لن يهنأ لي بال ما بقي أحدهم على قيد الحياة .
الشيخ :- هل تريدين القضاء على أمة بأكملها.
العجوز :- ليتني أستطيع.. لأشفي بعض غليلي.
الشيخ :- من قتل زوجك وابنتك لقي جزاءه العادل.. وهذا يكفي.
العجوز :- (تصرخ) لا يكفي.. لن يهدأ لي بال أو يهنأ لي عيش ماداموا على قيد الحياة.
الشيخ :- أي جنون هذا.. قضيت حياتك كلها في حزن عميق.. لك العذر.. لكن أن تحاولي قتل هذا المسكين.. فهو الجنون بعينه.
العجوز :- الجنون أن تتعاون معهم بعد ما حدث.. لا تنسى أنهم أعداؤك.
الشيخ : كانوا أعدائي.. نحن في زمن غير الزمن.
العجوز : سيقتلونك.. صدقني.. سيقتلونك في أول سانحة.. سيقتلونك ما أن تنتهي حاجتهم بك.
الشيخ : لا تبالغي.. الحرب انتهت منذ زمن.. وأنا هنا لمساعدتهم على انتشال رفاة جنودهم القتلى.
العجوز : أعرف ذلك.. لكنهم مجرمون.. هل نسيت ما فعلوه برفيق عمرك؟.. من كان أخاك يومًا.
الشيخ :- لقد انتقمت لمقتله بقتل العشرات منهم.
العجوز :- لا يكفي.. دعني أقتله لأشفي غليلي.. لعل النار التي تشتعل في داخلي تخبو قليلا.
الشيخ :- لا تجعلي رغبة الانتقام تسيطر عليك.
العجوز :- لن أنسى تلك الليلة.. كانت ليلة ماطرة . كنا في عشنا الصغير سعداء.. نلتف حول النار التي تنشر دفئها في المكان.. كان زوجي يستعد للسفر واللّحاق بالمقاومين.. قال لي وقتها.. لعلها ليلتي الأخيرة معكم.. إذا لم أعد قولي لابنتي إني أحبها.. أحبها كثيرا.. بعدها خلدنا إلى النوم.. دخلوا علينا فجأة.. لم يعطونا فرصة للدفاع عن أنفسنا أو التفوه بكلمة.. قتلوه.. قتلوه بدم بارد.. وكذلك ابنتي الرضيعة.. أما أنا فقد كان مصيري أسوء.. أسوء.. (بغضب) لن أنسى تلك الليلة.. لن أنسى تلك الليلة. ولكن (تضحك) نال جزاءه العادل.. هذا صحيح.. نال جزاءه العادل.. لقد..... لا.. لا شيء.. ينبغي أن اذهب (تسرع بالخروج).
الشيخ :- (ينادي عليها) إلى أين تذهبين؟ (لنفسه) مسكينة والله.. منذ مقتل زوجها وابنتها وهي على هذه الحال.. لم تُنسها الأيام أو تخفف عنها.. كم من الأمهات الثكلى والزوجات الأرامل اكتوين بهذه الحرب.. وكل حرب؟.
الجنرال : (من بعيد) من هناك؟.. من هناك؟.
الشيخ :- هذا أنا.. لا تخف..
الجنرال :- (يقترب) ما الأمر؟.
الشيخ :- ذئب يحوم حول المعسكر.. طردته بعيدًا.
الجنرال :- حسنًا فعلت.. ما كنت أعتقد أن الذئاب قريبة منا إلى هذا الحد.
الشيخ :- البريّة لا تخلو من الذئاب.
الجنرال :- هذه الليلة المشؤومة.. لا أشعر بالارتياح.. كما أن الأشباح لا تريد مفارقتي.
الشيخ : الأشباح تعشش في مخيلتك.. عليك أن تنسى وتخلد إلى النوم.
الجنرال : النوم يقاطعني.. كأني به يخاف هذه الأشباح أيضا.. وهذه الخمرة اللعينة.. لا تريد مواساتي.
الشيخ : عليك أن تنام قليلا.. فخيوط الفجر بدأت بالظهور.. إلى لقاء.
الجنرال : إلى اللقاء (لنفسه) لا وقت للنوم الآن.. سأخرج الخرائط وأحدد بعض الأماكن التي يجب البحث فيها.. الوقت يمضي.. والجميع في انتظار أخبار طيبة منا.. لن أخذل تلك العجائز اللاتي اصطففن لتوديعي وهن يطلبن منا أن احضر لهن شيئا من ذكرى أبنائهن أو أزواجهن.. علي أن أنتصر في معركتي هذه.. لا مجال للتراجع أو الفشل (يخرج).
(لحظات صمت مع موسيقى مناسبة للدلالة على مرور الوقت.. تتبدل الإضاءة شيئا فشيئا.. يظهر في الخلفية مجموعة من العمال يقومون بعمليات الحفر.. الوقت يقترب من منتصف النهار.. لحظات ويدخل الجنرال صحبة الشيخ والمرافق.. علامات الإرهاق بادية على الجميع.. والتراب يشوه ملابس الشيخ للدلالة على أنه كان يقوم بعمليات الحفر صحبة بقية العمال.. كما يلاحظ وجود رباط وضع على عجل في يده لتعرضه إلى جرح أثناء الحفر).
المرافق : هل يؤلمك الجرح ؟.
الشيخ : جرح بسيط.. لا يحتاج إلى كل هذا الخوف.
الجنرال : لابد من زيارة الطبيب قد يتعرض للتسمم.
الشيخ : (بلا مبالاة) تسمم!!.. هذا الجسد نال من الجروح أكثر مما على صدرك من نياشين.. لا عليك.. سيبرأ لا محالة.
المرافق : أعتقد أن ذهابك إلى مستشفى المدينة رأي صائب.
الشيخ : لن أذهب إلى أي مكان.. جرح بسيط سيندمل صباح الغد.
المرافق : إذن دعني أعقمه وأعطيك بعض الأدوية التي تساعد على التئامه.
الشيخ : الأمر لا يستحق كل هذا العناء.
الجنرال : (للمرافق) دعه وشأنه.. نحتاج إلى قليل من الراحة بعد هذا العمل المضني.
المرافق : (يبدو عليه الإرهاق والتعب) كان يوما شاقا.
الجنرال : أشعر بسعادة غامرة.. لقد بات لعملنا معنى.. وصرنا نلمس نتائج مباشرة.. شكرا لك أيها الشيخ.. تعاونك معنا أثمر بسرعة خيالية.
الشيخ : (مازحًا) المهم عندي أن تثمر جيوبكم.. وأتحصل على المكافأة التي وُعدت بها.
المرافق : لا تقلق.. حقك محفوظ.. وسنسوي الحسابات بعد أن ننهي مهمتنا.
الشيخ : هل من العدل أن أنتظر انتهاء المهمة.. أم تريد بذلك ضمان تعاوني معكم؟.
المرافق : لم أعنِ ذلك.. ولكن علينا الانتظار حتى الانتهاء من كافة الأعمال لتسوية الأمور المالية.. الأمر ليس بالبساطة التي تعتقد.
الشيخ : لا تعنيني أموركم المالية ولا حساباتكم شيئا..ما أطلبه هو حقي وحق بقية العمال عن كل عملية نقوم بها..ففي هذا الصباح استطعنا استخراج أكثر من مائة وخمسون رفاة.. ولا يزال المزيد.
الجنرال : حسنًا.. ليكن ما يريد الشيخ (للمرافق) سوي حساباتك يوميا (للشيخ) فنحن بحاجة ماسة لخدماتك.
الشيخ : هذا جيد..سأدعو العمال للراحة..حرارة الشمس لا تطاق..والعمل وقت الظهيرة خطرٌ جدا.
الجنرال : الراحة ستجدد نشاطهم مساءً (يخرج الشيخ).
المرافق : ألم تلاحظ شيئا؟.
الجنرال : ماذا تعني؟.
المرافق : الرفاة التي عثرنا عليها حتى الآن.
الجنرال : ما بها؟.
المرافق : تخص دولة أخرى.
الجنرال : أسكت عليك اللعنة.. لو سمعك أحدهم تهذي بهذا الكلام.. لانتهى أمرنا إلى ما لا نشتهي.
المرافق : ولكن!!.
الجنرال : دعك من هذه المثاليات.. المهم أن نعود برفاة تتفق وعدد جنودنا المفقودين في السجلات..أتظن أن أحدهم سيدقق في الأمر ويطلب دليلا قاطعا على أن الرفاة تخص ابنه أو قريبه المفقود؟.
المرافق : لا..ولكن..ماذا لو خرج الموضوع إلى العلن..وطالبت دولتهم بهم؟.
الجنرال : وكيف سيخرج إلى العلن إذا أطبقت فمك وأخرست لسانك ؟!.
المرافق : هذا لا يتفق والعهد الذي قطعناه على أنفسنا.
الجنرال : (بغضب) أنا المسؤول هنا.. ومهمتي أن أعود بالرفاة وأرضي الأمهات والأرامل الثكلى..اللاتي لا يطلبن سوى قبر يضعن فوقه الزهور مرة كل عام.
المرافق : لك ما تريد..علينا أن نعدّل في الجداول والبيانات التي بحوزتنا لتتفق والرفاة التي عثرنا عليها.
الجنرال : الأهم من ذلك أن تخفي كل أثر يثبت أن هذه الرفاة لا تخصنا.. عليك أن تسوي كل شيء هذه الليلة.
المرافق : أمرك سيدي.
الجنرال : سأرتاح قليل.. أبلغ العمال أن يعودوا للعمل عند الساعة السادسة.. سنعمل حتى منتصف الليل..ولا تنسى أن تجهز الإضاءة المناسبة في المكان.
المرافق : كل شيء جاهز (في هذه الأثناء يدخل المعاون مسرعًا).
المعاون : سيدي الجنرال.. سيدي الجنرال.
الجنرال : ما الأمر؟.
المعاون : جنرال من دولة أخرى سيصل إلى المنطقة قريبا..لقد وصلتني مراسلة من العاصمة بالخصوص.
المرافق : ماذا تعني؟.
المعاون : لقد منحت دولتنا إذنا لدولة أخرى بالبحث والتنقيب عن رفاة جنودها ممن ماتوا ودفنوا هنا أثناء الحرب.
المرافق : هذا خبر سيء.
المعاون : ماذا تعني؟.
المرافق : (يرتبك) سيزاحموننا المكان.. وستتعطل أعمالنا.
المعاون : لا عليك..سأسوي الأمر بالشكل الذي يرضيكم.
الجنرال : دع هذا الأمر لي..سأتولى الأمر مع الجنرال القادم غدًا.
المعاون : لك ما تريد (ينظر الجنرال والمرافق إلى بعضهما بريبة وتوجس).
إظلام
اللوحة الثالثة
(يضاء المسرح على الجنرال برفقته جنرال آخر يده اليسرى مبتورة.. ويتدلى كم الجاكيت خاليا منها.. يجلسان قبالة بعض تحت الخيمة المنصوبة في المكان.. أمامهما طاولة الشطرنج وهما منهمكين في اللعب والتفكير.. يشاهد مجموعة من العمال يقومون بأعمال الحفر في الخلفية.. تظهر ظلالهم من حين لآخر).
الجنرال : عليك أن تضحي بالحصان حتى تنقذ وزيرك من الموت.
الجنرال2 : لست بحاجة لنصائحك.. قد كنت من أبطال اللعبة في الجيش.
الجنرال : (بسخرية) هذا واضح من طريقة لعبك.. لا أظن أن بإمكانك الصمود أمامي لأكثر من نقلتين أو ثلاث.
الجنرال2 : الشوط لم ينته بعد.. ثم إن شوطًا ثانيا ينتظرنا.
الجنرال : لم نتفق على ذلك.. لقد اتفقنا على شوط واحد.. وجائزة المنتصر هذه الرفاة التي عثرنا عليها.
الجنرال2 : هذا صحيح.. لكن شروط اللعبة تتطلب أكثر من شوط واحد.
الجنرال : بِتَّ تشم رائحة الهزيمة لذا تحاول التهرّب من اتفاقنا.
الجنرال2 : أنا لا أتهرّب.. اتفاقنا واضح.. للمنتصر حق الاستحواذ على هذه الرفاة مجهولة الهوية.. وإن كنت أعتقد جازما أنها تخصنا.
الجنرال : ماذا تعني؟.
الجنرال2 : لا يعقل أنكم لم تعثروا على أي دليل يحدد هويتها.
الجنرال : قلت لك لم نعثر على شيء.. كثير من الجنود يخلعون قلائدهم أثناء المعارك.. ربما انتقاما من رؤسائهم.. أو للتعبير عن مقتهم لمثل هذه الحروب.
الجنرال2 : الخرائط التي بصحبتي تؤكد أن هذه المقبرة تخص جنودنا.
الجنرال : وخرائطي تؤكد خلاف ذلك.. لهذا السبب احتكمنا إلى هذه اللّعبة.. والفائز منا يستحوذ على الرفاة.. لا تراجع عن الاتفاق.
الجنرال2 : لا تراجع عن الاتفاق (لحظة تفكير) وجدتها (يقوم بنقلة لإحدى قطع الشطرنج) ما رأيك في هذه؟.
الجنرال : نقلة ذكية.. أنت حقا لاعب ماهر.. ولكنك ستخسر أمام ضرباتي الموجعة لا محالة.
الجنرال2 : ألا تعرف أن الغرور مقبرة العظماء؟.
الجنرال : أنا على ثقة من الفوز.. فأسلوبك في اللعب بدائي وخططك الحربية مكشوفة.
الجنرال2 : لا تتسرع في الحكم على خصمك.. لازلت غرًا لم تختبرك الحياة بعد.
الجنرال : (يقف غاضبا) أنا لا أسمح.. لو لم تكن في خيمتي لكان لي معك شأن آخر.
الجنرال2 : وما الذي كنت ستفعله؟. اجلس وأكمل اللعب.. لا تتوعد بشيء فوق طاقتك.
الجنرال : (يهدأ) لا تغضب.. انتهى زمن الحروب والمدافع.
الجنرال2 : لا أعتقد أن لديك أي دراية بالحروب.
الجنرال : ماذا تعني؟.
الجنرال2 : أحوالك لا توحي بذلك.. ولا أعتقد أنك قد خضت حربا من قبل.
الجنرال : هذا لا يعني أنني لا أجيد خوض غمارها.
الجنرال2 : لم أقل ذلك.. لكن نفاذ صبرك بهذه السرعة يعطي مؤشرا واضحا على قلة خبرتك.. المقاتل الحقيقي هو من يستطيع التحكم بأعصابه في أحلك المواقف.. لقد شاركت في عدة حروب آخرها حربنا التي خضناها منذ عشرة سنوات.. لعلك سمعت عنها؟.
الجنرال : أخبارها ملأت الصحف والإذاعات.. كانت حربا غير عادلة..
الجنرال2 : ماذا تعني؟.
الجنرال : لا شيء.. هل فقدت يدك في تلك الحرب؟.
الجنرال2 : (بحسرة وألم) قذيفة طائشة من إحدى مقاتلاتنا.
الجنرال : ما أبشع الأخطاء التي ترتكب في الحروب.. كيف حدث ذلك؟.
الجنرال2 : كنت ومجموعة مكونة من عشر جنود في مهمة خاصة خلف خطوط العدو.. فجأة اشتبكت قواتنا مع قوات العدو.. فاجئونا بهجوم غير متوقع.. فاضطر سلاح الطيران أن يتدخل لسحقهم.. ولما كنا في المواقع الخلفية لقوات العدو اعتقد أحد طيارينا أننا من قوات العدو.. فصب جام غضبه وقنابله علينا ..
الجنرال : يا للهول !!.. وقضى عليكم؟!.
الجنرال2 : قضى على معظمنا.. أما أنا فها أنت ترى جنرال بيد واحدة.. عاش أيضا أحد الجنود بحروق وتشوهات خطيرة.. وبفقدانه لكلتا رجليه.
الجنرال : يا لها من بشاعة.. وماذا فعلتم بذلك الطيار؟.
الجنرال2 : خضع لمحكمة عسكرية وتحصل على البراءة لأن تقديراته الخاطئة كانت مبررة.. خاصة وأن المعركة قد اندلعت ولا مجال للتريث أو انتظار الأوامر العليا.
الجنرال : يا لك من مسكين.. وبعد ذلك ماذا حصل؟.
الجنرال2 : بعد تماثلي للشفاء تحصلت على وسام رفيع وكلفت بمهام إدارية فقط.. لذا تراني هنا الآن.
الجنرال : لكن عملنا هنا يحتاج إلى قائد محنك لا مجرد شخص إداري.
الجنرال2 : أو تظن ذلك؟.
الجنرال : أجل.. أشعر بالفخر وأنا أعود برفاة جنودنا البواسل بعد سنوات من الضياع والهوان.
الجنرال2 : أنا أيضا أشعر بالفخر.. أخذنا الحديث ونسينا لعبتنا.. أظنك تفاجأت بنقلتي الأخيرة.. ماذا ستفعل الآن؟.
الجنرال : انتظر قليلا لترى بنفسك (يقوم بنقلة) ما رأيك بهذه؟.
الجنرال2 : نقلة رائعة.. فعلا أنت لاعب بارع.
الجنرال : لذلك قبلت منازلتك.. وأنا على يقين من الفوز.
الجنرال2 : ليس بعد.. ففي جعبتي الكثير أيضا (يقوم بنقلة جديدة) خذ هذه.
الجنرال : ضربة تحت الحزام.. لقد أفقدتني الفيل الثاني.. عليّ ألا أتسرع..
الجنرال2 : وألاّ تستهين بقدرات خصمك.. أضف هذا إلى قائمة عيوبك.
الجنرال : خطأي أنني تساهلت معك قليلا.. ولم أُرك قوتي في اللعب منذ البداية.
الجنرال2 : أرني شطارتك.. ماذا ستفعل الآن؟.
الجنرال : خذ هذه!.. هذه المرة نقلة قاتلة..
الجنرال2: لا تستعجل.. فالعجلة مقبرة الأبطال أيضا.. ما رأيك في هذه؟.
الجنرال : (بسخرية) نقلة رائعة.. لكنها تفتقد إلى الحكمة.. أرأيت.. لقد قضيت على وزيرك هذه المرة.
الجنرال2 : حقا.. يا لغفلتي.. كيف لم أتفطن لخدعتك هذه؟.
الجنرال : (يداعبه بسخرية) للعب أصول جنرالي العزيز.. وحتى تنتصر في كل معاركك لابد أن تكون واثقا من قدراتك.
الجنرال2 : صرت تتكلم كالحكماء.. المشوار طويل.. وفقدان الوزير لا يعني نهاية اللعبة.. خذ هذه.
الجنرال : يا إلهي.. فقدت وزيري أنا الآخر.. يا لغبائي.. كيف لم أتفطن لذلك؟.
الجنرال2 : المباراة تتجه إلى التعادل.. لا فائز بيننا.
الجنرال : أظن ذلك أيضا.. ولكن انتظر.. ما رأيك في هذه النقلة؟.
الجنرال2 : نقلة ذكية.. لكنها لن تغير من الأمر شيئا.. أقول لك المباراة تتجه إلى التعادل.
الجنرال : وما الحل الآن؟.
الجنرال2 : علينا أن نلعب شوطا آخر.. ما رأيك؟.
الجنرال : لا يمكننا ذلك.. اتفاقنا واضح.. شوط واحد فقط.
الجنرال2 : ولكن النتيجة سلبية.. ولن يستطيع أيا منا الاستحواذ على الرفاة.
الجنرال : لنتقاسمها أذن.. هذا أفضل الحلول الممكنة الآن.
الجنرال2 : نتقاسمها؟!!.. هذا يعني أنّ عليّ البقاء مدة أطول والبحث للعثور على بقية الرفاة.. لا أستطيع العودة بنصف الجنود فقط.
الجنرال : وأنا أيضا سأواصل البحث.. علينا أن نتعاون لتحقيق أفضل النتائج.
الجنرال2 : اتفقنا (يمد يده مصافحا.. في هذه الأثناء يدخل المرافق مسرعًا).
المرافق : سيدي الجنرال.. سيدي الجنرال.. الشيخ .. الشيخ يموت.
الجنرال : ماذا حدث؟ (يدخل عاملان أو أكثر يحملون الشيخ ويضعونه وسط الخيمة.. يبدو الوهن والضعف على ملامح الشيخ من أثر التسمم الذي أصاب الجرح.. أحد العمال يضع رأس الشيخ على ركبته.. محاولا الحديث معه).
المرافق : إنه الجرح.
الجنرال : أتعتقد أنه تسمم.. لننقله إلى المستشفى بسرعة.
المرافق : يبدو أننا تأخرنا في ذلك.
الجنرال : ألا يوجد حل؟.
المرافق : لا حل سوى أن ندعو له بالشفاء.
الجنرال : هذا هراء.. لازلنا بحاجة إلى خدماته.
العامل : إنه يتكلم.
الشيخ : (يتحدث بصعوبة) لا تخشى شيئا أيها الجنرال.. ستجد من يساعدك.. أما أنا فقد حان موعد الرحيل.. ما كنت أظن أن أحدهم سيقضي عليّ بعد أربعين سنة من موته.. يا لسخرية القدر!.
المرافق : (يبرك على رجليه محادثًا الشيخ) تماسك قليلا.. سنعمل على إنقاذك.
الجنرال : جهزوا السيارة سننقله إلى أقرب مستشفى.. أين المعاون؟.
العامل : السيارة خرجت منذ الصباح صحبة المعاون ولم يعودوا حتى الآن.
الجنرال : اللعنة.. ماذا نفعل الآن؟.
الجنرال2 : يمكننا نقله معنا؟. لا وقت للانتظار.. هيا أسرعوا.
الشيخ : لا داعي.. لا داعي (في هذه الأثناء تدخل العجوز كالمجنونة).
العجوز : سمعت أنه يموت.. أين هو؟ (يفسح الجميع للعجوز.. التي تبرك بالقرب من الشيخ).
العجوز : لا تمت.. أنت آخر ما بقي لي.. لا تمت (للجميع) ماذا حدث؟.
المرافق : جرحٌ أثناء الحفر.. أهمله دون علاج.
العجوز : (مخاطبة الشيخ) قلت لك لا تعمل معهم.. لم تستمع لكلامي.. وهذه هي النتيجة.
الشيخ : سامحيني.. لعلي قد خذلتك بعملي معهم.. سامحيني (يموت).
العجوز : (تصرخ) لا.. لا تمت (تقف وتهجم على الجنرال) أنت من قتله.. سأقتلك.. سأقتلك.
الجنرال : (يدفعها) أبعدوا هذه المجنونة عني (يحول المرافق والجنرال2 بينها وبين الجنرال).
العجوز : سأنتقم منك.. سأنتقم منكم جميعا.. كما انتقمت من قائدكم ذات يوم..
المرافق : ماذا تعنين؟.
العجوز : (ترتبك) لا شيء.. لا شيء (تهرب مسرعة).
المرافق : ماذا تعني بكلامها.. لعلها....
الجنرال : دع عنك هذا الهراء.. ماذا سنفعل الآن؟.
المرافق : علينا أن نقيم جنازة تليق ببطل مثله.
الجنرال : يستحق كل احترام وتقدير.
المرافق : كان محاربا بارعا وخصما عنيدا وقت الحرب.
الجنرال : وصديقا حميما وقت السلم.
الجنرال2 : هكذا أخلاق الأبطال.. كنت أتمنى البقاء مدة أطول.. عليّ الذهاب الآن.. قد نلتقي قريبا (للجنرال) أرجو أن تعطي الأوامر لرجالك كي يعطوني حصتي التي اتفقنا عليها.
المرافق : أية حصة؟.
الجنرال2 : اتفقنا على اقتسام ما عثرتم عليه من رفاة مجهولة الهوية.
المرافق : (ينظر إلى الجنرال) ماذا؟.
الجنرال : (يهز رأسه بالإيجاب).
المرافق : حسنا.. لك ما تريد (للعمال) خذوا الشيخ للخيمة الأخرى وأعدوا له جنازة تليق بأمثاله.. أما أنت سيدي الجنرال.. فأرجوا أن تتبعني (يخرج الجميع عدا الجنرال).
الجنرال : (لنفسه) ماذا تعني هذه العجوز المجنونة بكلامها؟.. هل يعقل أن تكون على علم بما حدث لأبي؟.. أيعقل أن تكون هي من........؟!! لا.. لا.. هذا غير معقول.. غير معقول.. كيف لمثلها أن تنال من مثله؟.. عجوز خرفة.. لا يمكن تصديق ما تقول
المرافق : (يدخل) سيدي الجنرال.. لم أفهم شيئا؟.. كيف تنازلت له عن نصف الرفاة هكذا؟.
الجنرال : منازلة مشروطة انتهت بالتعادل.
المرافق : ما كنت أظن أنك ستتنازل عنها بهذه السهولة.
الجنرال : أنت تعلم أنها تخصهم.
المرافق : هذا صحيح ولكن...
الجنرال : (يقاطعهم) يا أحمق.. بهذه الطريقة سنضمن سكوته إلى الأبد.
المرافق : أنت داهية.
الجنرال : (يضحك بزهو) أعرف ذلك.. لا جديد فيما تقول (تدخل العجوز ثانية تحمل معها كيسا مليئا تجره خلف ظهرها).
الجنرال : ماذا تريد هذه المجنونة؟..
المرافق : (يحاول اعتراضها) إلى أين؟.
الجنرال : دعها (للعجوز) ماذا تريدين؟.
العجوز : أحضرت لكم هذه.. أنها تخصكم (تلقي بالكيس على الأرض أمام الجنرال).
الجنرال : ما هذا؟ (يقوم المرافق بفتح الكيس).
المرافق : إنها عظام آدمية.
الجنرال : (بغضب) لمن هذه العظام؟.
العجوز : قلت إنها تخصكم.
الجنرال : (يمسك بالعجوز) قلت لك لمن هذه العظام؟.
العجوز : لبطلكم المفدى.. قاتل الأطفال والنساء (الجنرال يرفع يديه عن العجوز.. ويبتعد عنها كمن عرف معنى ما تقول).
المرافق : من تعنين؟.
العجوز : المجرم.. قاتل زوجي وابنتي.. لقد قتلته بيدي هاتين.
المرافق : من هو؟.
العجوز : قائد الفوج الأزرق!!.
الجنرال : (يلتفت) ماذا تقولين؟!.
العجوز : لقد سمعت ما قلت.. قتلته بيدي هاتين.. ودفنته في عتبة بيتي.. ومن يومها والجميع يبحثون عنه.
المرافق : كيف حدث ذلك؟.
العجوز : بعد أن قتل زوجي وابنتي هو ورجاله.. وفعل بي ما فعل.. قررت الانتقام منه.. استدرجته إلى بيتي.. المسكين.. جاء ليقضي ليلة دافئة في أحضاني.
الجنرال : (يتجه نحو العجوز بغضب) أنت كاذبة.. كاذبة (يمسك بالعجوز محاولا خنقها).
المرافق : سيدي الجنرال.. سيدي الجنرال هدأ من روعك.. (يحاول انتزاعها منه).
الجنرال : (يدفعه) دعني وشأني.. سأقتلها.. سأشفي غليلي منها.
العجوز : (تضحك) لا يهم.. فموتي وحياتي سواء.. المهم أني قد انتقمت منكم وأخذت بثأري.
المرافق : (يحاول تخليص العجوز من الجنرال) على رسلك سيدي الجنرال.. أنت تقتلها.
الجنرال : (بغضب أكثر) دعني وشأني (يدفع المرافق بقوة فيسقط أرضا).
العجوز : (وقد تخلصت من قبضة الجنرال.. تضحك بهستيريا) لقد انتقمت منه.. قتلته بيدي هاتين وأخذت بثأري.. بطلكم المزيف.. قائدكم العظيم.. تقتله امرأة مسكينة لا حول لها ولا قوة (تخرج).
الجنرال : (يبكي ويخر على الأرض) لا أصدق ما أسمع.. أيعقل أن تكون هذه هي الحقيقة.. انتظري.. انتظري أيتها الشمطاء.
المرافق : (وهو واقع على الأرض) اهدأ سيدي الجنرال.. لا تستمع لكلامها.. علينا أن نتأكد أولا.
الجنرال : معك حق (يتجه إلى الكيس بسرعة.. يفتحه.. يخرج القلادة الموجودة به.. يتفحصها.. يمسح التراب عنها) إنه هو.. هو.
المرافق : يا إلهي!.
الجنرال : (يقف.. يحمل الكيس على ظهره.. يعطي ظهره للجمهور.. ويتجه إلى خلفية المسرح.. توظف الخلفية هنا لتعطي مساحة شاسعة.. فراغ لا متناهي.. يستمر في سيره).
المرافق : (لا يزال على الأرض) سيدي الجنرال.. إلى أين تذهب.. تعال إلى هنا.
الجنرال : (يواصل سيره دون أن يلتفت إليه).
المرافق : سيدي الجنرال.. المكان خطير.. الألغام تحيط بنا من كل جانب.. لا تذهب إلى هناك إنها منطقة خطرة.. سيدي الجنرال.. سيدي الجنرال (يواصل الجنرال سيره مبتعدا) علي أن أسرع لنجدته (يحاول النهوض فلا يستطيع) سيدي الجنرال.. سيدي الجنرال (يخفت صوته تدريجيا.. في حين يستمر الجنرال في سيره مبتعدا.. تُظهر اللقطة الجنرال كنقطة وسط مساحة شاسعة من الأرض للتعبير عن حالة التيه .. يتلاشى تدريجيا).
إظلام
النهاية
23 / 6 / 2008م