قراءة استبصارية في مسرحية

(جنرال الجيش الميت)

    إذا كانت رواية إسماعيل كاداريه تتحدث عن جنرال أرسلته حكومته الإيطالية للبحث عن رفاة جنودها في ألبانيا ـ على الرغم من عدم قناعته بهذه المهمة ـ ومن ثم قتله من قبل عجوز البانية ثأراً لولدها فان مسرحية عبد الباسط أحمد أبو مزيريق تحدثت عن جنرال أرسلته دولته لإعادة رفاة جنودها، فتصادف أن أرسلت دولة أخرى جنرالها لإعادة رفاة جنودها أيضاً فالتقى الجنرالان، وساوما وتقاسما جثامين الجند؛ وحدث أن ظهرت العجوز وهي تحمل ما تبقى من عظام والد الجنرال الأول مجاهرة بقتله انتقاما لابنتها وزوجها لتنتهي المسرحية بحمل الجنرال رفاة أبيه، ومغادرة المكان إلى التيه. وقد وجدنا في النص المسرحي   قدرات درامية لا يستهان بها، وكم من الإبداع المتحقق، ومكنة في التأليف المسرحي، وقدرة فنية على المغايرة، ولهذا كله كتبنا قراءة نقدية لمفاصل النص ابتدءًا من عنونته(جنرال الجيش الميت)، وانتهاءًا بخاتمته التيه.        

العنونة:

   من العنونة نستشف أن فعل النص الرئيس، والأحداث المترتبة عليه وقعت في زمنٍ ما في الماضي، كما أن شخصية النص (جنرال) هي جزء من ذلك الماضي، وان الفعل الذي كانت فاعلاً له قد تحدد بها، وبمن تقودهم من الرجال (الجيش)، ولا فرق، في الموقف الأخير، بين أن يكون الميت جنرال الجيش، أو أن يكون الجيش نفسه ما دام الذي حدث قد حدث في زمنِ ما قبل كتابة النص بالنسبة إلى عبد الباسط أحمد أبو مزيريق كمعد مسرحي للنص الروائي، أو بالنسبة إلى إسماعيل كاداريه كمؤلف للنص الروائي. علما أن عنونة الإعداد المسرحي حافظت على عنونة النص الروائي (جنرال الجيش الميت)، وأشارت إلى هذا بأمانة أدبية.

العنونة إذن أخبرتنا بشكل استباقي(قبل الدخول إلى عالم النص) أو نبهتنا بشكل أولي إلى وجود شخصية رئيسة ستشتغل فكرة النص عليها عبر حوارات تخصص لها أو عنها تكشف ما يتعلق بها من حالات، وارتباطات اجتماعية، ونفسية، وسياسية، ومعرفية، و..و..الخ؛ وفي الوقت نفسه يمكن القول أن العنونة أعطت أهمية كبيرة لشخصية الجنرال إذ جعلته مبتدأً لها في الوقت الذي عادت فيه لتسبغ عليه غياباً مؤكدا بالموت عن طريق المضاف والمضاف إليه كخبر قاطع لا مجال لتغيير كونه حقيقة ماثلة، وقد تبينا ذلك أيضاً من خلال النص ومعطياته الفنية والفكرية على مدى ثلاث لوحات درامية:

 

اللوحة الأولى:

   يبدأ عبد الباسط أحمد أبو مزيريق، كمؤلف ثانٍ للنص، بشرح تفاصيل منظر اللوحة الأولى، وطبيعة الحركة الصامتة فيه، والتي أعطت انطباعا أوليا عن طبيعة المسار الدرامي الذي سيقود النص نحو غايته، أو هدفه إذ يظهر الجنرال ببزته العسكرية مشيرا على جنده، من أعلى التل، بالتقدم نهو الهدف فيبدو المنظر أشبه بلوحة، أو جدارية تجسد حلماً جنرالياً بدأ المراودة منذ زمن ليس بالقصير. جدارية كان من الممكن تعميقها بإضافات إيمائية بسيطة تمنح المنظر إيحاءات إضافية، ولكن أغلب الظن أن عبد الباسط ترك هذه المهمة للمخرج واشتغالاته الدراماتيكية.

 إن الحركة الصامتة بمجموعها، وبما سيضاف عليها(الإضافة مجرد مقترح حسب) جعلت مفتتح النص المسرحي في غنى عن استطرادات السرد الروائي، وهذا يحسب للكاتب أبو مزيريق الذي حاول جاهداً استبدال السردية وسكونيتها بالدرامية وفاعليتها. وهو لهذا يبدو لي مؤلفا للنص ـ المستولد من النص الروائي ـ أكثر مما هو معِداً له على الرغم من كم الإبداع المتحقق في الرواية، وما تختزنه من طاقة ذهنية هائلة، وقدرة على التحول من شكل إبداعي إلى آخر، ومكنة من أسر ما يستولد منها.

إن انفصال المسرحية المستولدة، شبه التام، عن الرواية، وعدم سقوطها في أسرها هو ما شجعني على استبعاد المقاربة، أو المقارنة الأدبية بينهما كنصين إبداعيين، والاكتفاء باشتغال قراءتي على نص الكاتب الثاني إن جازت التسمية، وصح التعبير.

 في مفتتح هذه اللوحة يلقي الجنرال خطاباً حماسياً يستنهض الهمم، ويثير الحماس في نفوس جنده كما لو انه في مواجهة حقيقية مع العدو، وفي ذروة هذا الموقف الانفعالي يقطع عبد الباسط أحمد استرسال الجنرال بظهور قنينة الخمر التي يحملها أولاً، وبكونه ممسوسا بأمجاد الحروب، وعظمتها ثانياً، وتحول مهمته السلمية إلى مهمة حربية أو تماهيها  معها بشكل كشف عن نزعة مرضية، وجنوح واضح للشخصية نحو ضفة الاقتتال سعيا وراء إشهار، وفرض فحولتها بوجه الآخر الذي تسعى لاخصائه بشكل يحقق لها ما لم تظفر به في حياتها السوية، إن كانت سوية، ثالثاً. وهي لهذا وبسببه تكره لغة الحوار مع الآخر الذي ترى أن لا مجال لإقصائه بغير قوة المنازلة، فهي لا تجنح للسلم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولن تستلم إلا لإرادة ومشيئة السلاح. تقول ساخرة ومجاهرة بحنقها على الساسة والمتحاورين:

"كم أمقت هؤلاء الساسة..كنت دائما أشعر بالاشمئزاز من مناوراتهم ومحاوراتهم المضحكة"

علما أن هذا الاشمئزاز لم ينتج عن نضج فكري للشخصية، أو وعي معرفي وسياسي لها، وإلا لكانت الشخصية مختلفة تماماً في مواقفها، وسلوكها، وآرائها، وفقط هو تعبير استهجاني عن الفارق بين لغتين مختلفتين لا تلتقيان على جادة واحدة. لقد أمدنا أبو مزيريق إذن بالمعلومة المهمة التي تجعلنا نفهم غايات الشخصية الرئيسة ونستقرئ ما وراء أقوالها وأفعالها، وبقائها على حالها منذ أربعين عاماً أو منذ وضعت تلك الحرب أوزارها ففقدت الشخصية ذاتها التي ترى أن لا تحقق لها بدون الفحولة المفترضة. وسيبهرنا اكتشاف أن(الجنرال) لم يشترك في تلك الحرب، وفقط كان والده مشاركا فيها وان العنونة وإضاءاتها تعود على الجنرال الذي غيبته الحرب منذ ذلك الوقت لا على الشخصية الحاضرة، والمكلفة بمهمة إعادة الجثث إلى الوطن. الجنرال بهيئته الحاضرة إذن هو ابن الجنرال المفقود في تلك الحرب منذ أربعين عاما لأسباب مجهولة يفتضح أمرها حال ظهور شخصية العجوز، وكشفها حقيقة الجنرال، وطبيعته الاستحواذية، وشهوته لامتلاك الآخر بكل ما أوتي من قوة، وكأن السنوات لا تعمل على تغيير صورة الشخصية الأساس(الأب) لانتقال ماهيتها إلى شخصية لاحقة هو(الابن) على الرغم من الاختلافات غير الجوهرية لشخصية الابن.

 لقد خاضت الشخصية الأولى حروبها على خلفية الواقع بينما ظلت الشخصية الثانية تخوض حروبها على خلفية افتراضية حسب. وبين هذه الحرب وتلك ثمة من وقف شاهداً عليهما وهو (المرافق) بشخصيته المخضرمة وبهدوء طبعه  ووقاره وتبصره بالأمور، وتعامله مع الظرف المحيط بروية وحكمة، وهو حلقة الوصل بين الحاضر والماضي. بين الجنرال(الأب) المفقود قبل أربعين عاما وبين الجنرال(الابن) الحاضر بعد أربعين عاماً. وبسبب من معرفته الدقيقة بالجنرال الأب فانه يتحول عند الجنرال (الابن) إلى حافز يدفع الابن إلى تقصي حقيقة الأب ودوافع اختفاء جثته بطريقة غامضة.

الجنرال :سأعاود البحث..لا بد أن أعثر عليها.

المرافق :عبثاً تحاول..لا فائدة بعد أربعين عاماً.

إن ظهور شخصية (الشيخ) على مسرح الأحداث جدد الرغبة في الوصول إلى الحقيقة. حقيقة الجنرال واختفائه المريب منطوقة على لسان رجل خبر ظروف الحرب والحياة. وهي حقيقة مخيبة للابن بالتأكيد.

البناء الدرامي لهذه اللوحة كان بناءًا ممهدا لبنية الفكرة الرئيسة وان التصاعد الدرامي، كان من الناحية البيانية، آخذا مساره التصاعدي البطيء والسليم في آن واحد، وكل ذلك جاء بوساطة حوار درامي أعطى النص ما ينتظر منه بالضبط.   

اللوحة الثانية:

تبدأ هذه اللوحة أيضاً بشرح لطبيعة منظرها، وهو شرح مقتضب كان يمكن أن يتوسع باستخدام الموحيات الإيمائية عن طريق دعم وصف الفعل الدراماتيكي الصامت لحركة الأشباح، وسبغ الصفات الدرامية عليه. وبيان حقيقة الجنرال المناقضة لأوهامه ومزاعمه الوهمية.

 

الشيخ   : (بسخرية) للخوف وجوه كثيرة؟.

الجنرال : لا مكان للخوف في قلبي.

وهذا نفي وهمي، وتظاهر بامتلاك ما لا يملك. لقد كان الجنرال خائفاً من الأشباح فعلا، وان هذا الخوف استمر معه منذ بدء مهمته في العثور على الجثث الوطنية بهيئة كابوس انتقل به، إيهاميا، بين الوهم والحقيقة. شخصية الشيخ هنا مقاربة في صفاتها ومواصفاتها لشخصية المرافق فكلاهما شهد الحرب قبل أربعين عاماً بين البلدين وكلاهما يشهد الآن عملية البحث عن رفاة القتلى من الجنود، وكلاهما خبر الحياة بكل تناقضاتها، وان كان كل منهما في طرف معاد للآخر، ومدرك أن العلاقات تتغير بين الطرفين من العداوة المشتركة إلى المصالح المشتركة ،وهذا ما يقصر الجنرال عن إدراكه:

الجنرال : الدنيا تغيرت..وأعداء الأمس صاروا أصدقاءً اليوم.

الشيخ   : لا أعتقد ذلك.

الجنرال : ماذا تعني؟.

الشيخ  : قد تجمعهم مصالح.. لكن الصداقة شيء مختلف

 

وإمعاناً في الكشف عن شخصية الجنرال فان الكاتب ينقل لنا عبر مونولوج غير قصير خوف الجنرال من الأشباح حد توهم وجودهم على ارض الواقع. لقد بلغ ذلك الخوف حد الشفقة، شفقة الشيخ الضعيف على الجنرال القوي الذي راحت المخاوف تتناهبه جاعلة منه مثاراًً لسخرية القارئ في حالة النص، والمشاهد في حالة العرض. وإمعاناً في الكشف عن قسوة الحرب ووطأتها الشديدة على الناس يقدم لنا الكاتب شخصية العجوز التي جاءت لتنتقم ـ بعد سنوات طويلة ـ لمقتل زوجها، وابنتها في ليلة قلبت عليها الحال، وغيرت المآل، إلا أن الشيخ يتدخل فينقذ الجنرال من الموت، وهو مشفق عليه.

 اللوحة الثانية بشكل عام لم تحفل بتصاعد درامي مطرد، ولا نمو للفعل الدرامي، وفقط أفضت إلى عقدة جديدة وذلك بظهور مجموعة جديدة، وجنرال جديد لدولة أخرى تبحث عن رفاة جنودها في المكان نفسه.

 

اللوحة الثالثة:

وصف المنظر في هذه اللوحة جاء مقتضبا أيضاً. وهو بحاجة إلى إسناد بالحركات، والأفعال التي تضيف عليه إيضاحاً، ودراماتيكية وانطباعا عن ملامح وسلوك الجنرال القادم، للغرض نفسه، من دولة أخرى، وتنأى بالنص بعيدا عن أصله الروائي. الجنرال الجديد الذي خاض حربا على هذه البقعة منذ عشر سنوات عاد إليها بذراع واحدة ليلعب الشطرنج مع الجنرال الأول ولم يكن حضوره فاعلا إلا بقدر أدائه للعبة الشطرنج وحصوله على نصف جثث جنوده حسب. وهو لهذا بدا كشخصية طارئة يمكن حذفها من النص الذي أراد أبو مزيريق أن يجعل من شخصية الجنرال الابن فيه شخصية محورية مهيمنة على أحداث النص كلها، ولهذا همش الشخصيات الأخر، أو جعل دورها ثانوياً، أو تكميلياً (مثل شخصية المرافق، وشخصية الشيخ، وشخصية الجنرال2) ولم تظهر طوال النص أية شخصية كقوة موازية ونقيضة لقوة الشخصية الرئيسة، ولذلك ظل الصراع يتقلب على نار هادئة. فضلا عن أن العقدة الجديدة حلَّت نفسها بنفسها بطريقة سهلة لا تعقيد فيها. كما أن ظهور رفاة الجنرال الأب في نهاية المسرحية على الرغم من موتورية ما خلفه ـ يوم كان ذا سطوة ونفوذ كبيرين ـ إلا أنه غيَّر اتجاه مسار فكرة المسرحية (البحث، والعودة برفاة الجند) إلى مغادرة الجنرال الابن بجثمان الجنرال الأب من موقع البحث إلى التيه، والضياع، وهذا تغيير، ومنعطف كبير أفضى إلى فكرة أن ما جرى ليس إلا افرازات طبيعية للحروب، وان اختلفت مراميها، وأهدافها، وهذه هي الرسالة التي حاول النص النهوض بها وإيصالها ،بحرص، إلى المتلقي.

 في هذه اللوحة ثمة أفكار مهمة أخرى لم يرق للكاتب الاسترسال فيها، أو إبرازها بشكل واضح لأنه أراد فقط أن يقدم لنا الفكرة الرئيسة كما ينبغي أن تقدم.

*

   المسرحية، بشكل عام، تم بناؤها على شخصية محورية، وعلى حدث مركزي أساسي كان الجنرال الابن فيها فاعلا ومهيمنا منذ مفتتح النص وحتى نهايته، وعلى هذا الأساس نرى أن العنونة اتجهت بمسار غير متطابق مع مسار فكرة النص، وشخصيتها الرئيسة، وكان الأحرى بالعنونة أن تتخصص بالشخصية الرئيسة حسب.

والمسرحية بشكل عام، أيضاً، معدة بطريقة تجعلها أقرب إلى التأليف المسرحي منها إلى الإعداد المسرحي لما اتسمت به من سيطرة على شخوصها، وأفكارها، ومساراتها الدرامية والفكرية، ولما اتسمت به حواراتها من اختزال، وتركيز، وتكثيف، ولغة فصيحة شاعرية، ورشيقة.

*