صباح الانباري

وموجهات النص المسرحي الصامت

                 

حاوره : بلاسم الضاحي

صباح الانباري .. أكاديمي له حضوره الفاعل في الوسط الثقافي العراقي لم يتوقف عطاؤه على الرغم من زحمة الحياة .. عصامي لم تزل به قدم نحو بلاط فراشاته الملونة تنتقل من زهرة الى أخرى كتب الشعر والقصة فلم يرضيا روحه المشاكسة المثقلة بالأشياء . درس الفن المسرحي دراسة تخصصية مخرجا مسرحيا فأعطى الكثير ، لم يتوقف عند هذه المحطة فراح يبحث ويتقصى ويكتب النقد والنص المسرحي فحاز على الترتيب الأول في مسابقة مجلة الأقلام العراقية للنص المسرحي عام 1993 م حاز على جائزة الدولة للإبداع عـــــام      ( 2000م ) عن  (مسرحية الصرخة) ، له سبق في كتابة المسرحية الصامتة .

صدر له :

1 ـ طقوس صـامتة  ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد/ 2001 م    ( مسرحيات )

2 ـ ليلة انفلاق الزمن ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق /2001 م         ( مسرحيات )

3 ـ البنــاء الدرامي ـ دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد 2002 م         ( نقد )

4 ـ ارتحالات في ملكوت الصمت ـ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد 20(مسرحيات صامتة)

التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار :                               

·      لماذا المسرح الصامت؟

على صعيد التجربة الشخصية ذكرت في كتابي "ارتحالات في ملكوت الصمت" أن اهتمامي انصب على المسرحية الصامتة وتجنيسها بسبب عدم قدرة الأجناس الأخرى على استيعاب شبكة أحلامي الواسعة. فالقصيدة التي كتبتها منذ بواكير حياتي الأدبية وكذلك القصة القصيرة والمقالة النقدية والصحفية، كلها، لم تستطع احتواء تلك الشبكة الهائلة من الأحلام والرؤى. وكنت على الدوام ابحث عن جنس يصهر كل هذه الأجناس في بوتقة واحدة ثم يصاهر بينها وبين اهتماماتي الأخرى في الإخراج المسرحي والموسيقى والتصوير والاكروبات. ولم أجد افضل من المسرحية الصامتة المحدثة وسيلة يمكن أن تحقق ذلك.

     وعلى الصعيد العام رأيت أن ما نحتاجه الآن، في زمن العولمة، هو إيجاد لغة إنسانية مشتركة بين أبناء البشر جميعا كي نتثاقف ونتحضر ونتبادل الأفكار والرؤى دون الرجوع الى الترجمة والمترجمين نريد أن نتحدث بشكل مباشر الى الناس جميعا دون اخذ لغاتهم المختلفة بنظر الاعتبار. وهذا يجعل المسرحية الصامتة اكثر ضرورة الآن من أي زمن مضى واكثر حاجة اليها من أي وقت آخر.

 

·  قلت أن المسرحية الصائتة استطاعت بوصفها فنا دراميا أن تجنس نفسها عبر العصور. أين نجد ذلك في الأدب العربي والعالمي؟

ـ الخطاب المسرحي خارج جغرافية المسرح ، وبعيدا عنها ليس ، إلا مجرد أدب. وان الكلمات المستخدمة في أية مسرحية مكتوبة ليست إلا مجرد أدب أيضا الى أن ترتقي الخشبة وتتحول ،أدائيا،من الكلمة المقروءة الى العرض العياني للفعل. يقول مارتن اسلن: " إن ما يجعل الدراما دراما، على وجه الدقة، هو العنصر الذي يمثل خارج الكلمات ويتخطاها، ذلك العنصر الذي ينبغي أن يرى ويشاهد بصفته فعلا في حيز التمثيل." عليه يمكن القول أن كل المسرحيات التي نقرؤها أو نعيد قراءتها من مآسي الإغريق الى مآسي صموئيل بيكت هي من الأدب المسرحي المقروء الذي دخل الى المكتبة العربية والعالمية باعتباره جنسا من أجناس الأدب المختلفة وفرعا من فروعه المعروفة باسم الأدب المسرحي نصا ونقدا. ولا حاجة بنا الى تكرار الكيفيات التي تطور على وفقها النص المسرحي المكتوب من أشكاله البدائية الأولى الى أشكاله الأكثر تطورا وتعقيدا في عصرنا الراهن، فهي معروفة للمطلع على تاريخ الحركة المسرحية محليا وعالميا.

 ·  قلت أن السيناريو مثلا نص غير قابل للقراءة الأدبية وكذلك النص المسرحي الصامت"الميم" كيف استطاعت إذن وكما قلت أن تصبح فرعا من فروع الأدب؟

  ـ الحقيقة أن المسرحية الصامتة، التي ازعم أنني قمت بتجنيسها، لم تصبح بعد فرعا من فروع الأدب. فهي لم تخط بعد إلا بضع خطوات من الألف ميل الأولى. أنا بشرت بها كجنس أدبي إبداعي محدث منذ عام 1994 عندما نشرت أولى مسرحياتي الصامتة. ودعوت النقد ليمارس دوره الأدبي والفني في ترسيخ هذا الجنس الجديد.

·  أي عمل مسرحي يعرض على خشبة المسرح من الممكن أن يتحول الى عمل صامت بعد كتابته كسيناريو أو كتابة "سكربت" العمل وطرحه على انه مسرحية صامتة كيف تعلل ذلك؟

ـ على صعيد الواقع العملي لم يحدث هذا أبدا. ثمة محاولتان في هذا الصدد: الأولى محاولة شفيق المهدي تحويل "معطف" غوغول الى عرض صامت وقد نجح في هذا حسب ما ذكره لنا الناقد علي مزاحم عباس في كتابه " فن التمثيل الصامت". والثانية محاولتي تحويل فصل من فصول رواية دستويفسكي " الاخوة كرامازوف"، فضلا عن اشتغالي على قصة الالتحام وتحويلها الى عمل صامت أخذ طريقه الى خشبة المسرح عام 1995 ، ولا يمكن الاستغناء عن الحوار دائما، وهو عنصر مهم من عناصر الدراما المسرحية، خاصة إذا عرفنا أن اللغة تتبلور في الفعل اغلب الأحيان كما يقول مارتن أسلن وتصبح بأسرها فعلا بالضرورة، وهذا يعني عدم القدرة على تحويل تلك اللغة الصائتة الى لغة صامتة فلكل منهما منظومتها الإشارية الخاصة ولكل منهما فعله الادائي الخاص. لقد هيأ تجنيس المسرحية الصامتة الأرضية الخصبة للكتابة في هذا الجنس دون الاعتماد على التحويل الذي أشرت اليه في مقدمة سؤالك هذا .

·      ما هو دور المخرج، غير مؤلف النص الصامت، في عملية إخراج وتقديم هذا النص على خشبة المسرح؟

ـ  كان الكتاب الأوائل للمسرحيات الحوارية الصائتة يوجهون الممثلين ويحددون أماكن وقوفهم وحركاتهم وكل ما يتعلق بعملهم المسرحي لفترة طويلة من الزمن قبل أن يظهر المخرج المتخصص ويؤدي دوره البارز في العملية الإخراجية . المسرحية الصامتة ليس لها تاريخ طويل وهي إذن تنتظر اليوم الذي تتمرد فيه على الكاتب/ المخرج وتسلم أمرها الى المخرج المتخصص وربما الى الدراماتورج . وعلى الرغم من هذا أقول أن أفق النص الجديد أفق  واسع  لا يحده حد ، أبدا ، ولهذا يمكن للمخرج ، غير الكاتب ، أن يجعل العرض خاضعا لرؤياه الإخراجية عن طريق تطوير محددات النص الفنية والادائية وتحريرها من قالبها ، الذي وضعت فيه ، وإطلاقها في فضاء الرؤيا الجديدة .

·  إذا كانت الغاية الأساسية الأولى للنص الصامت إيصال المعاني المختلفة الى المتلقي (الجمهور) هل في هذا ميزة مهمة عن المسرح الحواري الذي هدفه أيضا إيصال ( المعنى) الى المتلقي ؟

ـ  عندما يتعلق الأمر بإيصال المعنى الى المتلقي لا ميزة لهذا العمل على ذاك.  وإذا كانت ثمة ميزة فأنها تكمن في اختلاف لغتي التوصيل التي تمتاز في المسرح الصامت بكونيتها وفي المسرح الصائت بمحدوديتها.

 ·  متى وأين عرف العرب التمثيل الصامت ؟ وهل يمكن أن نعتبر ( المهرج ، البهلوان ، المضحك ) في مجالس الخلفاء تأسيسا للمسرح الصامت عند العرب ؟

ـ  في الطقوس والفعاليات الدينية على الأرجح. كنت وأنا صغير اذهب برفقة أهلي و أقاربي كي أرى (التشابيه) وهي ضرب من التعزية يقوم فيه الممثل (الشمر) ، بملابسه الحمر  ،بملاحقة أولاد مسلم ، بملابسهم الخضر، ليضرب بسيفه الدامي إناء الماء الذي يعطى لأولئك الصغار العطشى. هذه هي اكبر الصور التي رأيتها واعتبرتها ، فيما بعد ، بذرة حية للتمثيل الصامت في العراق ومن المؤكد ان هناك بذورا أخرى في دول عربية أخرى فالكتابات في هذا المجال لم تتناول الموضوع بكل جوانبه حتى يتسنى لنا معرفة ذلك .

·  قلت أن النقد المسرحي لم يستطع اللحاق أو مواكبة النص الصامت والمعروف أن الكتابات النقدية تلي كتابة النصوص أين نجد نصا صامتا لم يكتب عنه نقدا؟

ـ  لم أخص (اللحاق والمواكبة) بالنص المسرحي الصامت المحدث بل بتلك الجهود الفنية الرائعة والعروض الصامتة التي قدمت على خشبة المسرح العراقي منذ عام 1919 . وأنا اتفق معك بعدم وجود نص صامت لم يكتب النقد عنه شيئا لان النصوص الصامتة بالشكل الذي اكتبه أنا لم تكن موجودة قبل عام 1994 إذا استثنينا محاولة الأستاذ شفيق المهدي "المعطف " عام 1984 .

 

·  الصورة الشعرية لها ثلاثة مكونات الجدة والتكثيف والإيحاء إضافة الى مولدها الخيال ووسائلها اللغة كيف استطاع النص الصامت أن يقدم الصورة الشعرية كما ذكرت بوسائله الإيمائية فقط؟

 ـ المسرحية الصامتة تختزن الصور التي تمتاز بشاعريتها ودراميتها ومنطقيتها. بمعنى أنها تأخذ من الشعر والدراما صفتهما ومن المنطق مبررات تشيئها ضمن مكونات العرض وتمثلها لفعله العياني. أما الصور الشعرية، بمعناها المجرد، فلا وجود لها في النص المسرحي الصامت على الرغم من ورودها، بهذا المعنى، في مقدمة كتابي الأخير "ارتحالات في ملكوت الصمت".

· ما الفرق بين التمثيل الصامت والباليه من حيث استخدام وسائل إيصال الفكرة الى المتلقي؟                                                   

ـ  الفرق الأساسي الكبير أن الباليه رقص، بينما البانتومايم تمثيل. صحيح أن الرقص الطقوسي هو بذرة التمثيل الأولى إلا انه وكما يقول بيتر برنسون، وهو مؤسس وصاحب مسرح "الباليه للجميع":  (بمرور الوقت ذهبت الكلمات في مسار لتوجد الدراما. في حين أن الرقص ذهب في مسار آخر ليوجد الباليه. وعليه فان وسائل الباليه الادائية الايصالية تعتمد على خمس وضعيات للأقدام على خشبة المسرح ومثلها للذراعين. أما التحليق فيعتمد على ثلاث قفزات مختلفة، ويعتمد الارتكاز على ثلاث أوضاع أيضا. وربما أضيف اليها عدد آخر من الوضعيات الجديدة وهذا ليس مجال اهتمامنا بالطبع. ما يهمنا هو الكيفية التي يؤدي بها الجسم حركاته انطلاقا من هذه الوضعيات وصولا الى طريقة رسمه للصور الإشارية الذهنية على خشبة المسرح. أما البانتومايم فيستخدم أدواته الخاصة المتحررة من هذه الوضعيات، والمعتمدة على الإيماءة والإشارة وحركة الجسد في رسم صورة الفكرة المراد إيصالها الى المتلقي عيانيا لا ذهنيا. لان الصورة في المسرح الصامت ترفل بشاعريتها، بينما تعتمد في الباليه على ذهنيتها لاقتراب الباليه من الشعر. يقول بيتر برنسون: "كل رقص (تقريبا) يجب أن يعامل كشعر.. انه يعالج العواطف. وقليل من الدراما هذا اليوم ضرب من الشعر، وإذا ما بلغت الدراما القلب فان ذلك يتم عبر الذهن.

 

حاوره : بلاسم الضاحي

جريدة الزمان العدد 3343    في 11 تموز 2009