هموم المسرح و إشكالاته – لقاء مع الأستاذ صباح الأنباري

إعداد و تقديم : د. صالح الرزوق

 

لا يوجد في مسرح الأستاذ صباح الأنباري سكون، وهذا يعني أنه ضد سياسة المَشاهد، أو تقسيم المسرحية إلى مَشاهد متتالية كما فعل سوفوكليس. و لكنه يعتمد دائما على الصمت.

وحتى إذا لجأ إلى الحوار يكون في حال تفاعل ذاتي. و هذا هو مربط الفرس.

أن تكون تفاعليا تجاه العاطفة الشخصية المكنونة، تجاه ذكريات الذهن وليس العين ولا القلب. وتجاه الفكرة – المثال التي تقود ربان سفينته.

وعلى هذا الأساس يبدو لي صباح الأنباري في مقدمة المجددين الطليعيين. وهذا يعني أن هويته محددة وواضحة، وهي من ضمن العالم الخاص لمأساة الحزن العام والشامل الذي أعقب الحرب العالمية الثانية.

وأقصد بذلك الدخول في جو من التجريب والعدم وإعادة البناء حتى نتوصل لمفهوم لا نعرفه عن المسرح. وحتى نواجه أنفسنا بالقيمة المشكوك بها لمعنى الفن: هل هو شكل ومضمون كما تعلمنا في المدارس، أم أنه تعبير انقلابي وضد نفسه ويدعوك غالبا لتضع كل ذكائك على المحك.

ولد الكاتب في بعقوبة العراق عام 1954 ، درس الفنون المسرحية في بغداد. وعمل بالتصوير الفوتوغرافي. قام بإخراج عدد من المسرحيات العربية والعالمية لخشبة المسرح و منها مسرحية الضدان للكاتب السوري وليد إخلاصي باقتباس من نص له بعنوان السماح على إيقاع الجيرك. وحصل ذلك في وقت مبكر من حياته، و بالتحديد عام 1976. له أعمال مسرحية ناطقة وأخرى صامتة. وكلها قصيرة تتألف من فصل أو فصلين فقط. و يأتي في مقدمتها: زمرة الاقتحام، مسرحية الصرخة، ليلة انفلاق الزمن (ناطقة)، قطار الموت، حلقة الصمت المفقودة، حدث منذ الأزل، طقوس صامتة (نصوص بلا حوار). ونشر أيضا عددا من المؤلفات النقدية في المسرح وغيره. و كان آخرها كتاب عن الشاعر الكردي بيكة سي عن دار نينوى بدمشق.

يقيم الأستاذ صباح الأنباري حاليا في أديلايد، العاصمة الجنوبية لأستراليا. و يتابع التأليف والكتابة في نفس البنود السابقة.

ولتوضيح بعض النقاط والاستفسارات الناجمة عن طريقته في الكتابة والتعبير كان لنا هذا اللقاء الموجز.

س1 : ألا تعتقد أن المسرح الصامت يحرم الكاتب من عنصر أساسي في المسرح وهو الحوار. ويفرض عليه قيودا تخفف من إمكانيات التعبير ؟.

لا يمكننا الركون الى شكل حواري تقليدي واحد في العملية الدرامية المحدثة.

 في البدء ــ من قبل أن تكون اللغة ــ كان الصمت. وكان على الصمت ابتكار لغة له فانتج الايماءة، والإشارة، والحركة وسيلة لتقارب البشر، وتجمعهم بهدف البقاء على قيد الحياة. لم تكن لغة الصمت ببدائيتها كافية لاستيعاب كامل احتياجاتهم فأضافوا لها الصوت ثم ترجموا شبكة لغتهم الإشارية إلى كلمات جعلتهم الأرقى بين سائر الحيوانات على الكرة الارضية. ومنذ الحوارات السوفوكليسية واليوريبيديسية وحتى يومنا هذا لم يعن البشر بتطوير لغة الصمت أو ابتكار حوارات لها كما ينبغي. لقد عرفنا أنواعا من الحوارات الصائتة مثل الحوار المقروء، والحوار المنطوق، والحوار الداخلي (المونولوج)..الخ. ولم نعرف شكلا من أشكال الحوار الصامت. وهذا هو أول هم من هموم اشتغالي على مسرحياتي الصوامت التي أزعم أنها قدمت حوارا فنياً لغته الصورة ومفرداته الأداء الحركي الدراماتيكي الصامت أو ما يعادل ــ في اللغة التقليدية ــ الحروف والنقاط والتي تشكل لك كقارئ لها صورا ذهنية تستقبلها ليعيد عقلك انتاجها معرفياً. هذه اللغة الجديدة امتازت بأدائيتها العالية وقدرتها على التعبير في شتى المواضيع الإنسانية كما امتازت باستقلاليتها عن التصويت. أنت ترى أنه لا يمكن للغة التقليدية أن تستبعد مفردات الصمت (مبتدأ اللغة) المعبر عنها بالأداء الجسدي للبشر جميعا فهي تظهر للعيان أردنا أم لم نرد. هل بمقدور أحد التحدث من دون أن يحرك عضلات وجهه؟ (حركة الفم، حركة العينين، الحاجبين ..الخ.) ناهيك عن اليدين والرجلين والجذع ذلك لأن اللغة التقليدية لغة منقوصة تبحث عن مكملاتها التقنية في الجسد البشري بينما تستغني لغة الصمت عن مفردات النطق تماما. يقول مايرهولد: "إن الكلمات ليست كل شيء ولا تقول كل شيء ويجب أن تستكمل بالحركة التشكيلية الجسدية بشرط أن لا تكون هذه الحركة ترجمة للكلمات: إن حقيقة العلاقات بين الأشخاص تقررها الإشارات والأوضاع والنظرات" وعود على بدء أقول إنني في كل صوامتي لم أشعر بوجود المقيدات والمحددات التي سألتني عنها والتي يمكن أن تخفف من إمكانيات التعبير إذا استثنيت أعمالي الأولى بطبيعة الحال. لقد استلهمت في بعض صوامتي التراث، واشتغلت في أخرى على موضوعات واقعية، واعتمدت في الأخرى على التناص مع نصوص عالمية وجلها اعتمد الصورة بنية أساسية في التحاور، والكشف عن أوجه الصراع حد أنني صرت أستسهل كتابتها وأفضلها على المسرحيات الصائتة.

 س 2 : المسرح الناطق أو الصائت كما تقول يفترض نوعا من الصراع الذي نعبر عنه ألسنيا. ولكن في مسرحياتك مثل ليلة انفلاق الزمن (وعذرا لو أن العنوان غير دقيق لأنني لا أتذكره بالضبط)   تبدو قريبة للمونولوج. لا يوجد صراع. اللغة شاعرية. العواطف في حالة تأهب من هذا الزمن الناكر للجميل ، الذي يحطم الهوية الأصيلة للمرء وينسخها. يحرم الإنسان من أن يكون هو ذاته ومن غير ظل يطارده. ما رأيك. أقصد هل فعلا المونولوج يساعدك على التعبير أكثر من الحبكة ؟.

  حقيقة لا أعرف كيف توصلتَ الى هذه القرابة بين هذه المسرحية وبين المونولوج. في هذه المسرحية تدور رحى الصراع بين ثلاث شخصيات رئيسة بعمر محدد، وبين مثيلاتها بعمر متقدم عليها بخمس وعشرين سنة بمعنى آخر إن الزمن فيها انفلق إلى زمنين وانشطرت معه الشخصيات ولكن باختلافات وفوارق كثيرة وكبيرة. وما الصراع بينها إلا لاثبات من هم الأصليون ومن هم المستنسخون أو المستنسلون أو المنفلقون أو المزيفون.

في هكذا نصوص لا يمكن للمونولوج أن يحقق شيئا ملموسا فنيا ودلاليا. قد ينطبق ما ذهبت إليه على مسرحية (الصرخة) أو مسرحية (شهوة النهايات) على سبيل المثال. عموما ثمة صراعات خفية كثيرة تدور كل لحظة في حياتنا التي تحيطنا بأسرارها وخفاياها تتطلب تأملا، واستبطانا، وقدرة خلاقة على استكناه أغوارها فهل ندير لها ظهورنا بكسل ونجبرها قسرا أو نجعلها حكراً على نوع محدد من الحوار؟ أعتقد أن النص هو من يفرض  اختيار الحوار الذي يتلاءم مع موضوعته مثلما يفرض قوانينه واشتراطاته الأخرى. وعبثا نحاول التأثير عليه من خارجه أو جعله يلبس لبوسا مونولوجياً فإن كانت واحدة من مسرحياتي الصائتة أو أكثر قد اعتمدت المونولوج كبنية أساسية في بنائها الدرامي فهذا متأت من كون الصراع فيها قائما على الذات التي تصارع قواها الداخلية في محاولة دائبة للانتصار عليها. عندما أكتب نصا دراميا لا أحفل بالإستئثار القسري بهذا العنصر المسرحي أو ذاك. أو لأقل إنني لا أحفل بأي عنصر منها وأنها تأتي على وفق مقررات السياق العام لموضوعة النص. الناقد وحده من يقرر أو يبرر استخدام أحد العناصر المسرحية دون غيره من العناصر الأساسية لكل بناء درامي.

س3 : نعم. أوافق أن اختيار الأسلوب من مهام الكاتب. و لكن يبدو أن الفكرة لم تصل. فأنا هنا لا أستعمل المفردات بالسياق القاموسي المعروف. لا يهم. انتبهت أن هذه المسرحية ، التي أعتز بها بالنيابة عنك ، تشبه أساليب التحقيق البوليسي في التأكد من الهوية. مطابقة الهوية لحاملها. ثم بدأت تدخل في الفلسفة الخاصة بالموضوع. ماذا تهم المدونات. الأهم هو ما يراه الآخرون. فالأصالة و التزوير شيء منوط بتقبل المجتمع لمعنى هذه المفردات. بإيجاز كنت أرى أن القسم الأول هو تحقيق في معنى الهوية. و القسم الثاني هو استطراد – مونولوج درامي و ذاتي – حول ما سبق. كنت تلاحظ و تعلق كأنك تكتب في الحواشي على النص. هل أنت معي أم تحب أن تفند كل الفكرة من أساسها.

أنا أتفق معك على ما ذهبت إليه من أن أساليب التحقيق كانت بوليسية فعلا ذلك لأنني في واقع الحال أردت أن أعكس صورة النظام السياسي الذي يفعل كل شيء حتى أكثر الأساليب خسة للوصول إلى ما يريد. لم يخطر على بالي وأنا أجيبك أنني أريد أن أكون ضدك أو أن أفند كل فكرة من أساسها فأنا بعد أخذ كل شيء بنظر الاعتبار أحترم وجهة نظرك حتى وإن كانت لا تتفق مع ما أتطلع إليه. أنت ناقد مهم، ورؤيتك ثاقبة، وفهمك لأي نص يتجاوز الحدود الدنيا بالتأكيد وهذا يفرض عليّ مجاراتك أو السير معك على طريق واضحة حتى نهاية حوارنا هذا.

 

س 4 : ما دام الكلام حول الحوار. ألا ترى أنك غير بوليفوني لو احتكمنا لمفردات باختين من الشكلانيين الروس. أنت ترسم صور شخصيات من خلفيات متضاربة. ومع ذلك اللغة متشابهة. وكأنهم شخص واحد. يفكرون بنفس الطريقة ويتمتعون بنفس المستوى من القدرات الإبلاغية – لنقل البلاغية. لا توجد لهجات. لا توجد كلمات شوارع. وحتى أن القارئ لا يعرف من الحوار أنه يتعامل مع شخص من العراق. بينما ترى جيمس جويس يلعب باللغة. لورنس يلعب باللغة. يستعمل الأصوات العامية و اللهجة البذيئة إلى جانب التراكيب الراقية. هل لديك تعقيب؟.

"لكل شيخ طريقه" وأنا أسير على طريق رسم شخصيات نصوصي من خلفيات متضاربة ــ كما تفضلت ــ فاجعلها تفكر، وتعيش، وتمارس نشاطها، وصراعها بعيدا عن اللهجة البذيئة والعامية ما دمت لا أجد ما يبرر استخدامهما داخل النص. وإذا قيض لي استخدام العامية يوما ما فإنني لن أستخدمها إلا كما استخدمها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته (غريب على الخليج) حيث جاءت مفردة (خطيه) المستخدمة في اللهجة العراقية الدارجة والتي لا توازيها ولا تماثلها أي مفردة من الفصحى يمكن أن تحل محلها من حيث الدلالة، وعمق المعنى، وقوة التأثير أو كما يستخدمها الآن الكاتب المسرحي السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي بحيث لا يمكنك فصلها عن الفصحى وكأنها جزء حيوي منها. ثم لا يمكن إلغاء سمة فنية ما أو تثبيتها من خلال نصوص محددة دون غيرها. عندما كنت في العراق كتبت عن شخصيات يصعب تحديد هويتها بالضبط. وعندما رحلت إلى أستراليا كتبت عن شخصيات عراقية حصراً ولكن من دون الإعلان المباشر عن عراقيتها. لم تكن الشخصيات هي ما همني بالضبط لأن ما همني ويهمني حقا هو ما حدث لها بعد عام 2003 وهو نفس ما حدث لأغلب العراقيين إن لم نقل كلهم... أنا متأكد من أنك ستعيد صياغة السؤال بعد الاطلاع على نصوصي الثلاثة الآتية:

 شهوة النهايات.

 الوحش والكبش ونصب الحرية.

نيازك متناثرة.

والتي كتبت بعد عام 2003 وتناولت الاحتلال وجرائره على العراق والعراقيين.

س 5 : ألم يؤثر المنفى – الهجرة على أسلوبك بالتفكير. ألا ترى أنك لم تكتب " على نحو واضح و مباشر " كلمة واحدة عن أحداث 2003 الدامية. و أنك تعيش مثل مواطن غربي من النخبة يواجه أوجاعه الذاتية دون أية ارتباطات مع الأزمات التي يعاني منها أهل الداخل. هذا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الطبيعة العصيبة لكل أعمالك.

لا أحد يعيش في المنفى وينكر تأثير المنفى عليه. كنت وما أزال أمتلك أسلوبا خاصا بالتفكير لم يتأثر بما فرضته الهجرة من مستجدات إلا بما يخدمه ويجعله أكثر مرونة وطواعية وتقبلا للجديد. هنا يشعر المبدع بارتباطه القوي بالمكان الأول، وانتمائه إليه، وتفاعله مع أحداثه، وأزماته، وأتراحه، وأفراحه، وكل شيء. هنا كتبت أقسى مسرحياتي عليَّ. بعض من قرأها اعتقد أنني ما زلت أعيش داخل العراق وهو محق في هذا لأنني عشت أحداث 2003 أولا بأول ولم أغادر العراق إلا بعد أن صارت حياتي مهددة بالموت. الغربة ليست خياري إنما هي ما اختير لي وأرغمت على القبول به.

الآن وبعد مرور خمس سنوات من الاغتراب أشعر وكأن عشرات الحواجز تحول بيني وبين المجتمع الجديد الذي قدمت إليه بعمر متقدم بعض الشيء. صدقني كل ما أحببته في أستراليا الجميلة تمنيت أن يكون للعراق وهو المؤهل أكثر منها ليكون بلدا أنموذجا بكل معنى الكلمة فهو بلد غني بموارده المادية والبشرية والثقافية و..و..إلخ. ولكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه" فالسفينة تسير بأمرة سارقيها.

س 6 : لم تتكلم عن القضية المركزية لفلسطين إلا بمسرحية حجر من سجيل. هل تظن أنه حان الوقت لنتكلم عن أوجاع أخرى ، عن مرحلة ما بعد فلسطين.

 فلسطين هي الجرح الذي لم يندمل بعد. ثمة جروح كثيرة ما يزال نزيفها مستمرا. الجسد العربي منتهك دوما وموبوء بأمراض الساسة، والقادة، والملوك، والرؤساء حد تحولهم إلى داء وبيل عجز الناس عن شفائه بالكيِّ ولم يبق لهم إلا الثورة علها تستطيع إعادة العافية لهذا الجسد الآيل للسقوط. فلسطين مرحلة مهما تقادم الزمن عليها تظل قائمة على أرض الواقع، وشاخصة داخل نفس العربي حتى وهو يمر بمراحله الانتكاسية الجديدة وستظل هكذا إلى أمد لا أحد يستطيع تحديده بالضبط وهذه واحدة من إشكالات الاحتلال الاستيطاني. حتما سأعود الى هذه الموضوعة ثانية وثالثة ولن أكتفي بالحجر السجيلي الذي انهمر من داخل روحي لينقذ ما يمكن انقاذه من الوهن العربي.

س 7 : لماذا لا تهتم بالديكور. و تعتمد على الحبكة كأنك تكتب قصة تنتمي للفن الطليعي ، أو فن القصة الجديدة المحرومة من الحوار و التي تكتفي بالسرد فقط و حتى من غير التعليق على العالم النفسي و وجدان الشخصيات.

من عامي السادس وحتى عام 2003 شهدت بلادي عددا من الانقلابات، والاضطرابات، والتظاهرات، والنكبات، والحروب ما لم تشهده بلاد مثلها. إننا أبناء التغيرات السياسية المضطربة. لا شيء ثابت على الإطلاق. كل شيء يلغي كل شيء في حركة لم تتوقف طوال عمرنا الذي مر سريعا. لم أعش في بيت واحد بل في بيوتات كثيرة أذا استثنيت فترة الطفولة. لكل بيت ديكوره وأكسسواراته وستائره الخاصة وهذا هو ثمن الاشتغال في السياسة التي كان الأكبر منا ينهوننا عن التدخل فيها. ولكي تنتقل من هذا البيت الى آخر عليك أن تحمل ما يسهل حمله فقط وهو ما يفيدك فائدة ملموسة فأنت بعد أخذ كل شيء بنظر الاعتبار مستهدف ومراقب  بعيون مبثوثة في كل مكان وزمان. بعد هذا كله أليس من الحكمة أن نقنن قطع الديكور في مسرحنا أو أن نترك أمر اختيارها لمصممه ولرؤيته التشكيلية؟.

س 8 : كيف تكتب. في ساعات معينة. في الزحام. على ورق بالقلم أم بالطابعة مباشرة. بعد المساء أو في وضح النهار. و ماذا يحرك الشرارة الأولى. و هل تعيد السيناريو لأكثر من مرة.

للكتابة عندي طقس آني ينتهي بانتهائي منها. كنت مضطرا للكتابة في كل الأجواء التي ذكرتها: في الزحام، على الورق، على الطابعة، بعد المساء، وفي وضح النهار. لم تكن حياتي مستقرة أبدا. وفي كل ظرف أحاول إيجاد وقت للقراءة والكتابة. أحيانا تقول ابنتي الكبرى توقفوا عن الكلام لقد بدأ بابا بالكتابة فترد عليها والدتها لا تخافي عليه يا ابنتي والدك يستطيع الكتابة في كل الأجواء، وتحت كل الظروف. هي محقة جدا ففي خنادق القتال أيام حرب الخليج الأولى أكملت كتابي النقدي (البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنگنه). أما شرارة الكتابة فأنا لا أعرف كيف تتحرك في داخلي فقط أشعر بحركتها فأسلمها أمري طواعية وبعد الانتهاء منها ككاتب لها أقوم بمراجعتها كناقد أو قاريء لا يقع تحت تأثير مباهجها وإغراءاتها الكثيرة.

س 9 : أين ذهب الحب من مسرحك. لم يتبق منه غير الخوف و الموت و سيل من الدماء. أنت بعيد عن هذه العاطفة السامية و كأنك ترثي القلب أو تهجوه. ألا تعتقد معي أنك تسير وراء أنتونين أرتو مؤسس مسرح العنف أو القسوة كما نترجم الاسم أحيانا.

لم يختف الحب من حياتي ولا من نتاجي. إقرأ على سبيل المثال لا الحصر مسرحيتي الصامتة (سلاميات في نار صماء) ستجد أن الحب هو الثيمة الرئيسة في المسرحية. ونظرا لتواجد الحبيبين في بيئة مضطربة وقلقة فإنهما يقعان تحت طائلة العنف والقسوة. الحب  في بلادي مقرون بالإثم، والإثم مقرون بالعقاب، والعقاب مقرون بالمعاقب، والمعاقب يمارس ظلمه على المحب في الوقت الذي ينسى نفسه عندما يقع هو نفسه في الحب. سلاميات في نار صماء هي قصة حبي العنيد لزوجتي الذي حاول المجتمع بكل قوته وقف نبضه الحي.

س 10 : ما هي أهم المؤثرات و ماذا تحب أن تقرأ. المسرح أم غيره. و من أعمال النهضة كشكسبير أم من الكلاسيكيات الإغريقية أو الحداثة و اللامعقول ، بيكيت و ما جاء بعده ؟.

  بحكم كوني المشرف على موقع (مسرحيون) فإنني أقرأ كل النصوص التي ترد إلي من الأخوة كتاب المسرح العربي. كما يطيب لي أن اقرأ ما يتيسر لي من المسرح العالمي. وجريا على عادة قديمة فإنني أعيد قراءة شكسبير كل عام. هذا فضلا عن النصوص الصديقة التي أتناولها بالنقد في موقعي الشخصي والنصوص التي تتبارى في بعض مسابقات الكتابة المسرحية . 

 س 11 : ما هي مشاريعك القادمة.

عندما أنتهي من طبع (كتاب الصوامت) وكتاب (شهوة النهايات) فإنني سأتفرغ لكتابة النص المسرحي الصامت. ثمة شرارات (كما أسميتها أنت) ما تزال متقدة في داخلي وهي تنتظر اشتعالتها الأخيرة.

س 12 : آخر كتاب صدر لك هو عن دلالات المكان في شعر بيكه س. لماذا تختار هذا الشاعر مع أنه لا يكتب باللغة العربية ويعبر عن علاقة الطبيعة الصخرية وغير المؤنسنة مع جسد الإنسان قبل قلبه.

ولماذا عليّ أن أختار من يكتب باللغة العربية حسب. الشعر هو الشعر سواء كتب بالعربية أو بغيرها.

س 13 : لم أقصد أن الشعر له قومية. أو لسان. فهو أولا إحساس و عاطفة. ثم بنية و تركيب. و في هذه الدراسة كنت تطبق التحليل على بعض المفردات و الصور بالاستناد للقاموس العربي و لبعض الأسس البلاغية كما وردت لدى القاضي عبد القاهر. ألا ترى أن هذا خطر.. لغة غير عربية تكون تحت مبضع البلاغيات العربية الأصيلة و المتخصصة بلسان الضاد. في هذه الحالة ألا يمكن أن الدراسة تنطبق على رؤية المترجم فقط و ليس على النص. هل دققت النص الأصلي بالنص المترجم.

أصبتَ كبد الحقيقة كما يقال. ولكن مشكلتي الكبيرة أنني أرغب في ركوب الخطر أحيانا. والخطر هو شكل من أشكال تحدي الذات. كلما شعرت بضرورته أشرع في كتابة النقد الأدبي مع أنني أقرّ أمام نفسي وأمامك أنني لست بناقد ولا أريد أن تلصق بي تهمة النقد. لو كنت أجيد الكردية لفعلت ولكنني واثق من أن التراجم التي اعتمدتها قام بها مترجمون ضليعون في اللغتين العربية والكردية. في بلادنا يتعلم الكرد لغتنا على نطاق واسع منذ الطفولة شيركو مثلا يجيد العربية لكنه لا يكتب إلا بلغته ومحي الدين زنكنه يجيد الكردية ولا يكتب إلا باللغة العربية وهذا هو حال المترجمين الكرد المعتمدين أدبيا حصرا ولك كناقد حصيف أن تقيّم نجاح التجربة أو فشلها بطبيعة الحال.

 

س 14 : تشترك مع قاسم مطرود في متابعة موقع مسرحيون. هل تركت صداقتك مع شيخ المونودراما العراقية المعاصرة أي أثر في كتاباتك. ماذا تود أن تقول لنا عنه.

لا أحب أن تلحق مفردة (شيخ) بصديقي قاسم مطرود. قد أوافقك الرأي إن اسميته (شيخ شباب المونودراما) أولا لعدم تقدمه بالعمر. وثانيا لإرادته الفولاذية التي لا تشبهها إلاإارادة الشباب. وثالثا لتجدد أفكاره وحيويتها وديناميتها التي تبعدها عن ترهل الشيخوخة وانطوائها على مغاليق الحكمة حسب. قاسم مطرود كاتب مجدد، ومبدع تجريبي، وفارس يعدو بجموح نحو أهدافه النبيلة والمستحيلة. اختارني بمحبة لأشاركه الصرح الكبير الذي شيده بجهده الدؤوب، وصبره الأيوبي. وإذا كان ثمة تأثير له على كتاباتي فإن هذا التأثير نابع من صدق علاقته وحميميتها، ومن صفاء روحه وألقها، ومن عمق محبته وجوهرها.

أخيرا : هذا ليس سؤالا و لكنه توضيح أدين به لكما. إسدال ستار بمفردات الدراما. كلمة شيخ المونودراما تعني أمير المونودراما بلغتيز تعني المتألق و المبدع. و ليس لذلك اية علاقة بالعمر أو بكثرة المؤلفات. كنت اشير للنوع و للتميز فقط. و قد سبقتني بإجابتك و عبرت بإيجاز و هذا يكفي.

أشكر لك هذه الفرصة الثمينة التي أرجو أن تتكرر في القريب العاجل لتوضيح مسائل أخرى و بعد صدور مؤلفاتك الجديدة. لا يمكن للكاتب أن يكتب بأسلوب واحد و لا بد له من أن ينعطف قليلا. أن يبدل قليلا. أن يهجر نفسه و يطلقها ليسير مع موكب البشرية الذي لا يتوقف. شكرا جزيلا.

 

كانون الأول 2011