مسرحية العلبة الحجرية
الانفلات من بؤرة المكان في العلبة الحجرية
على الرغم من تعدد الامكنة التي يتحرك عليها شخوص زنكنه وتدور عليها احداث مسرحياته وقصصه فانها تشترك بصفات بيئية ، ترد ضمنا ، فتساعد على تحديد هويتها . وقد يأتي هذا التحديد استنتاجا من طبيعة الشخوص السلوكية وطريقة حياتهم :
ففي مسرحية (السر) يحدد لنا زنكنه المكان مسبقا ، لاعتبارات تتعلق بفكرة المسرحية وبقضية بطلها . وفي مسرحية (الجراد) يستنتج من خلال سلوكية الشخوص وطريقة حياتهم . وفي (الاشارة ) و (في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا ) يستنتج من هوية الشخوص القومية ومن خلقية وقيم وطبيعة النظام الاوتوقراطي الذي يسود عالم المسرحيتين . وفي مسرحية (السؤال) يرد التحديد مقصودا لغاية تاريخية وايديولوجية . وكل تلك الامكنة تتبأر في بقعة واحدة حرص زنكنه على ان يبتعد عنها ، هذه المرة ، كثيرا ليصل الى بقعة اخرى ذات صفات بيئية لا تمت الى مكانياته تلك بأية صلة او صفة من تلك الصفات التي تتقاسمها جغرافية اعماله الفنية . وهو خروج مكاني مدروس وفر له الارضية الملائمة لاظهار جوهر التناقض الاخلاقي في مجتمع تحكمه اخلاقية شاذة هي اخلاقية رأس المال .
ولو اننا تتبعنا مسرحيات زنكنه الاخرى لوجدناها لا تبتعد ، في التحديدات المكانية ، عن جغرافية الشرق وسماحاته باستثناء (العلبة الحجرية ) اذ خرج فيها الى بقعة اخرى خارج بؤرته وداخل علبة خانقة في قلب الخارطة الامريكية حيث حجرت هناك فتاة المسرحية وبطلتها ، لا بسبب حملها للاعراض والامراض ولكن خوفا عليها من ان تصاب خارج تلك (العلبة ) بتلك الاعراض والامراض التي لا محال انها ستفجر في رأسها ينابيع الفكر والوعي ومعرفة حقيقتها المضيعة . وحقيقة ان اميركا ليست العالم وان العالم ليس اميركا .
ولكن لماذا الخروج الى اميركا بالذات ؟
اعتقد ان ليس من الصعب على المتأمل في فكر زنكنه (المادي) معرفة ان اميركا هي المكان الذي ترعرعت فيه البورجوازية حتى بلغت اعلى مراحلها تطورا . وهذه المكانية الجديدة وفرت لزنكنه ارضا خصبة ، وان كانت خارج مكانياته المعروفة ، للصراع الطبقي الذي جعل منه اساسا لمعظم مسرحياته واعماله حيث يوجد التناقض فيها على اشده . وتبرز وحدة وصراع الاضداد من داخلها . وحيث ان موضوعاتها حبلى بالانفجارات والطاقات التدميرية التي تعمل على تفتيتها من الداخل كما تحبل الرأسمالية بتناقضات هائلة تؤدي حتما الى زوالها من المجتمع الانساني .
ولكن الى ان تزول فانها تجدد نفسها وتحاول بكل وسائلها وامكانياتها العظيمة حماية كيانها ومصالحها من حتمية ذلك الزوال ، فتلجأ الى اكثر الاساليب تضليلية والى تسخير كتابها ومنظريها للتعتيم على هذه الحقيقة التاريخية والى تضليل قطاعات الشعب والغاء دورها في العملية التاريخية .
ومسرحية (العلبة الحجرية ) تتحدث عن احدى تلك الوسائل . فهي تنفلت من مكانيات زنكنه السابقة لتتوغل في قلب مكانية جديدة حيث (السيدة روزستون) وهي امرأة عجوز ، في الثمانين ، تلقن (الفتاة) ، في العشرين ، معلومات كاذبة تزيف حقيقتها وحقيقة العالم من حولها وتوهمها بمعلومات زائفة ان العالم هو امريكا وان امريكا هي العالم ، وان المطر يحرق الجلد تماما مثل حامض النتريك .
وان الشمس تحرق الجلد هي الاخرى وتجعله مثل جلد الزنوج نتنا على الدوام . وان الهواء خارج المنزل ضار ومخرب ، فهو يقتلع الاشجار والمباني ، ويقطع الاسلاك ، ويحرق الغابات ، وانها هي نفسها ، اي الفتاة ، مريضة على الدوام ، حتى تتحول هذه الاوهام الى يقين ثابت في ذهنها فتنشأ نشأة لا تؤدي الا الى احتباسها داخل علبة العجوز الحجرية لقاء القليل من الطعام ومن الملابس التي تتكرم بها العجوز عليها من ملابسها القديمة .
ان العجوز هنا هي الرمز الاعمق دلالة لامريكا ، العجوز الهرمة الشمطاء ، وامريكا الاستغلال والوحش الذي يأكل الابناء . وما (الفتاة ) الا واحدة من اولئك الابناء الذين تاكلهم امريكا بوحشية وجشع بينما يقدمون لها انفسهم عن طيب خاطر ، وربما عن قناعة ويقين . ولهذا فهم لا يفتئون يدافعون عنها كما تدافع (الفتاة ) عن العجوز ، على الرغم من ما تفرضه عليها من ضوابط قاسية وقيم وقيود ، وعلى الرغم من ما تقوم من استغلال قذر لها ، من اقرارها بحقيقة انها ليست ، في النهاية ، غير حفيدة لها .
تقول الفتاة مدافعة عنها امام الشاب :
"ارجوك . لا تسيء اليها " .
وعندما يقول لها انها خنزيرة تقول راجية :
" لا تدعها كذلك آه .. انها تسمية فظيعة " .
ويقول ايضا :
(انها تستغلك ابشع استغلال ، وانت تدافعين عنها )
لكن الفتاة ، شأنها شأن الاغلبية في امريكا ، لا تفهم الامر على انه استغلال اذ ( لا احد هنا " يقصد في امريكا" يفهم الاستغلال حق فهمه بل ولا احد يعترف حتى بوجوده ، مع ان الجميع ضحية له ، بهذا الشكل او ذاك ) .
ان حالة الفتاة وتكوينها الذهني يشكلان بحد ذاتهما ادانة كبيرة وبرهانا قاطعا على بشاعة قانون الرأسمالية ، استغلال الانسان لاخيه الانسان ، ومع ان زنكنه لم ينقل لنا حالة الصراع ، في المسرحية ، من داخل معمل ما او شركة انتاجية ، تنتمي لتلك المكانية ، حيث تكون التناقضات والصراعات على اشدها ، وحيث طبيعة الاستغلال ، على وفق مبدأ فائض القيمة ، اكثر وضوحا وتأثيرا واسهل تناولا الا انه استطاع ان يوضح لنا هول ذلك الاستغلال وتأثيراته وانسحابه على العلاقات الاجتماعية والانسانية من داخل شقة صغيرة في احدى الضواحي الامريكية ومع ان ذلك التأثير والانسحاب ، امر بديهي ومنطقي ورتيب في الواقع . الا ان زنكنه يعرضه لنا بشكل فني جميل يحقق ، من خلاله ، الوعي المطلوب لفتاته كشخصية داخل المسرحية . ولقرائه وجمهوره خارج النص . وسنجد الى اي مدى ، من الجشع تبلغ العجوز ، فتمحي من اعتباراتها العلاقات الاسرية وعلاقات القربى وقدسية تلك العلاقات فتتعامل مع الفتاة ، على وفق ما تفرضه عليها اخلاقية الرأسمالية وقيمها ، وكما لو انها لم تكن حفيدتها لا ولا حتى كخادمة تنقدها اجرا كاملا ، بل كفتاة مستلبة مسخرة تتكرم عليها بالماكل والمشرب والملبس العتيق . فهي في نظرها ينبغي ان لا تصلح لعمل غير خدمة مصالحها ، وان كانت تلك المصالح خدمية بحته . وهي لهذا تحاول على الدوام ، تضليلها وابعادها عن الحقيقة .
تلك هي امريكا – العجوز التي لا تنى تصرف ، بعد ان اصبحت مقرفة ومملة ، الدولارات لتجد من يتحدث اليها او يسليها بحديث مبتذل وسخيف . ولكننا على الرغم من هذا لا نظن ان حقيقة الانسان يمكن ان تظل خافية دوما . اذ لا بد ان يدركها يوما . وسوف يسرع ظهور حافز ما في عملية ذلك الادراك . ولقد كان لظهور (الشاب) ، في المسرحية ، فعلا مثل هذا الحافز الذي ادى في النهاية الى ان تأخذ كل الامور مجراها . فاصبحت امريكا ، منذ ظهوره ، هي امريكا وليست العالم . وانها ليست اكثر من بقعة صغيرة في الخارطة العالمية .
كما رجع الهواء نقيا والمطر ماء ، لا حامض نتريك , ولم تعد الشمس محرقة للجلد او سببا لنتانته وزنخه . ومع ان لهذه الامور التي تزامنت مع ظهور الشاب التأثير الايجابي الكبير على الفتاة ، الا ان الفتاة تخفي تلك الايجابية لتأسيس حياة جديدة رائعة بعيدا جدا عن العجوز وقيمها .
ولكن اية حياة تلك التي يدعوها اليها الشاب ؟
انها باختصار تتأسس على السر ، الذي اهتدى اليه كلكامش ، من قبل ، في العراق القديم, بعد ان قطع القفار والفيافي،وسار في الغابات التي لا احد يعرف كنهها ، وكابد ما كابد في سبيل ذكرى صديقه ومن اجل مواطنيه ، انها تتأسس على العمل مادام العمل يصنع من الانسان انسانا رائعا وقويا بما فيه الكفاية لمواجهة اخطار الحياة وصراعاتها . وكان لا بد للشاب من ان يفتح ذهن (الفتاة ) على حقيقتها ما دامت مهمته ، ازاء امر كهذا يحتم عليه ذلك . ولقد استطاع فعلا ان يملأ نفسها توقا لمشاهدة العالم والتاكد من وجوده على السعة التي حددها وتحدث عنها والرغبة في الرحيل معه نحو اقطار العالم حتى وان كان ذلك الرحيل صعبا وشاقا ، كرحيل كلكامش من قبل ، وسوف لن يتقاعس عن قتل الشياطين والمردة الذين يعترضون سبيل رحلتهم مقابل ان تقتل هي شيطانا واحدا فقط متجسدا على شكل اغلاط في رأسها . غير انها ترفض الدعوة ، كما اشرنا ، بسبب قوة العجوز المهيمنة عليها التي جعلت منها ، بشكل او بآخر خادمة ذليلة تتقاضى اجرا اسبوعيا اقل حتى مما يتقاضاه كل من يسلي العجوز . الي ذهب بها جشعها وخستها الى الحد الذي لم تعد تعترف معه بانتساب الفتاة اليها كي لا يؤول الميراث اليها فيما بعد .
ان اصرار الفتاة على البقاء ، واظهارها القناعة والقبول بحياتها مع تلك العجوز وفر الدافع المنطقي لخروج الشاب من المنزل دون ان ينجز ما جاء من اجله اصلا . غير ان هذه القناعة غير ثابتة ولا صادقة وفقط تظاهرت بها لشعورها . انها ما تزال مرتبطة بالعجوز وان لا بد لها من ان تحل ذلك الرباط ما دامت تؤمن (ان الانسان لا يظل مغمض العينين الى الابد . لايمكن ان يظل كذلك الى الابد .. لا بد ان ينبثق نور من مكان ما ، فيبدد الظلام ويزيل الغشاوة عن العين ) وعند هذه النقطة تحدث الانعطافة المهمة في حياتها فيأخذ الصراع مجراه الطبيعي ، بعد ان استعرت ناره بينها وبين العجوز ، ولعل تلك الانعطافة الكبيرة ادت ، من دون شك ، الى ان يكون الاختيار متمما لها خصوصا بعد ان ادركت عمق التناقض بين الشاب والعجوز ، بين عالمين :
احدهما متفتح وانساني واخر منغلق ولا انساني .
تقول الفتاة مهاجمة العجوز ومقارنة بين الاثنين :
كان يتعذب ـــــــــــــــــ وانت تقهقهين .
كان يطوي بطنه جائعا ـــــــــــ وانت هناك متخمة ..
يرتجف من البرد ــــــــــــــ متدثرة فوق عرينك وتلقين في جوفك كؤوس الكونياك .
(اية مخلوقة انت ؟ تضحكين على آلام الناس وعذاباتهم )
وليس الهجوم وحده بكاف للتدليل على الوعي الناجز بل الاختيار الذي لا بد وان يكون هنا منصبا على الجانب المشرق ( فمن يهتد الى منابع النور .. لا عذر له بالرجوع عنها ) . وبما ان افكار الشاب افكار نبيلة ومشرفة وتقدمية بقدر انسانيتها واهتمامها بالانسان وغايتها في تخليصه من ظروف الاستغلال والابتزاز . فلا بد لها من ان تنحاز الىجانبه ، على الرغم من انها لا تعرف عنه سوى انه من بلاد كلكامش . ان الاختيار ، باعتباره عاملا حاسما للتفريق بين نقيضين ، سوف يستأثر ، في المسرحية ، باهتمام كبير لانه سيغير في مجرياتها وسيجعل خط صراعها البياني متجها نحو الذروة على نحو اسرع . والاختيار باعتباره اكبر في مسرحية محيي لا يعني تحول الفتاة الى ذلك الموقف حسب ، انما يعني تحول الصراع ايضا . ففي الوقت الذي كان محتدما بين الشاب والفتاة ، حيث يقوم الشاب بالهجوم بينما تقوم الفتاة بالدفاع ، ومن ثم بين الفتاة ونفسها حيث تتصارع في داخلها قوتان متناقضتان مرموز لاحداهن بالشاب والاخرى بالعجوز . فان الصراع يتحول ، فيما بعد ، ليصبح بين الفتاة وبين العجوز حيث تتحول الفتاة الى الهجوم بينما تتحولالعجوز الى الدفاع . ولحظة شعرت العجوز انها هي الطرف الخاسر ، بعد ان قصر دهاؤها ومكرها والاعيبها في ابقاء الفتاة ، فانها تكشف عن حقيقتها المقنقة اذ تفرض على الفتاة ترك ملابسها ، كل ملابسها ، والخروج عارية الى الشارع كما دخلت ، وهي طفلة ، عارية ، فكل ما تملكه العجوز يظل للعجوز . الا ان ورقتها هذه تفشل ايضا فلقد وجدت الفتاة معطف الشاب داخل الحمام ، وكان قد نسيه في لحظة انفعال وغضب ، فارتدته لتقذف بكومة الملابس في وجه العجوز ، وكذلك الكتب الزائفة ، ولتفتح الباب لتغادر المنزل كما غادرته (نورا) في (بيت الدمية ) فتبلغ المسرحية ذروتها العظيمة . فاذا كان خروج نورا ابسن يشكل اعظم الذرى في المسرحية ، كما يخبرنا الناقد المسرحي (ملتون ماركس) فان خروج فتاة زنكنه لا يقل عن ذلك الخروج عظمة . ولم تكن عودة الشاب لاسترجاع معطفه وسروره لمرأى الفتاة وهي ترتديه ومن ثم اصطحابها معه وابتعادهما عن منزل العجوز نهاية للمسرحية . ذلك لأن زنكنه في هذه المسرحية ايضا قد جعل نهايتها غير مغلقة على احداثها . اذ ما تزال امام الفتاة مهمة استكمال طريقها الذي لم تضع سوى الخطوة الاولى عليه . وان وراء هذه الخطوة خطوات اخر . كما ان وراء احداثها احداثا اخر قد لا تدور على خشبة المسرح ولكنها يقينا ستدور على مسرح الحياة .