صلاة الى نه وروَز  في محراب المسرح

حيث: الكلمة تتحرك .... الحركة تتكلم استرجاعات. تداعيات. انثيالات

محي الدين زه نكنه

 وتتمخض الصالة بولادات من نوع فريد غير مألوفة ولا سابق عهد بها الا هنا حيث يعبق  الجو بشذى سحر المسرح حتى قبل ان يتهدم ما يسمى بـ الجدار الرابع سواء اكان هذا الجدار موجودا فعلا.. على شكل ستارة مخملية او متخيلا من قبل المشاهد حيث تتداخل العيون مع بعضها كدت اقول تدخل في بعضها عبر علاقات وسيميائيات خاصة ذات دلالات خاصة. تتحاور بلا لغة تتناقش تتجادل من غير كلمة ولا كلام اذ يحل محل اللغة الترقب والتوقع والتخمين. والاهم من ذلك كله الانتظار على نار هادئة وقودها الدائم وحطبها اليابس القلق.. الذي يغذيها ويذكيها باستمرار بلا توقف ولكنها نار بلا الم وجع او انه الم لذيذ يسر.. يدغدغ. يثيره فيك.

ويهيجه احيانا. الفضول ان صح التعبير. الفضول المشروع جدا لمعرفة هذا المجهول الذي يحبل به الزمن الاتي او الدقائق القادمة والتعرف على هذا المولود الذي لما يولد لما يأت الى الوجود قبل ان يلد وياتي الى الوجود..

ويكتسب الحياة عبر الفن عبر كل الام المخاض التي عانى منها ويعاني كل شهود المسرحية المؤلف ،المخرج ،الممثل ،الـ ..الـ ..الى آخر صانع من صانعي الحياة على الخشبة غير الظاهرين اللامرئيين الذي لا يظهرون الا بعد اكتمال عملية الولادة، في الختام وبعد ان يغدو الجنين الذي يترقبه الجميع مكتوين بنار التلهف مخلوقا سوبا ويدب على اثنتين او ثلاث او حتى اربع.. او يحلق بجناحين او مجموعة اجنحة او بلا جناح في الفضاء فضاء الحلم والخيال والخلق.. او يغور في الارض اعماق الارض.. او اعماق البحر..او..او..او.. فكل شيء في المسرح ممكن ومباح ومبرر ولكن على وفق ما يقتضي منطق الفن..

وتستهويه ضرورة الفن في عالم المسرح.. ويبرره قانون الدراما فهو وحده القانون والسيد على المسرح.

ومما يجدر ذكره ان الفضول هنا يكتسب مدلولا اخر خارج معناه الاجتماعي او المجتمعي المتداول والمعروف الذي يعد عند بعضهم نوعا من الابتذال ويدخل في اطار الصفات المذمومة عادة انه هنا فضول خلاق فضول مبدع ينبغي ان يتمتع به مشاهد المسرحية فهو يجعله الا يكتفي بالمشاهدة السلبية حسب وانما يدفعه الى المشاركة الايجابية فيما يحدث عبر طموح وتوق نحو الاسهام في العملية المسرحية ككل ،ومحاولة التنبوء باحداثها ووقائعها ..وقراءتها قبل ان تطبع صفحاتها بل.. بل.. قبل ان تكتب سطورها وكلماتها..

والاذن حتى الاذن  لا تعود الاذن الاعتيادية المعروفة قطعة غضروفية او قطعتين غضروفيتين ملتصقتين او نابتتين على صفحتي الوجه.. ليس لانهما تلتقطان الاصوات والهمسات اسرع واعمق حسب وانما لانهما تحاولان وتسعيان ان تغيرا هما الاخريان، دورهما الذي اناطت بهما الطبيعة البشرية.. او.. او.. الا يقتصر دورهما على اعتبارهما مجرد معبرين او مدخلين للاصوات والالحان والموسيقى حسب.. وانما ان تستحيلا ايضا في الوقت نفسه من فرط ما تختزنان باللهفة والتشوق الى رائيتين تريان ما يجري وما لا يجري ايضا بعين الخيال عبر الحدس والتوقع.

كتبت ذات مرة مقالة عن مجموعة مسرحيات طريفة للناقد والكاتب المبدع صباح الانباري نشرها تحت اسم مسرحيات صامتة كذا وهي ليست من نوع البانتومايم حيث الجسد يحل محل اللغة عبر حركاته ورقصاته التعبيرية وانما  هي طراز جديد من الكتابة الإبداعية فاخترت لمقالتي الاحتفائية بالمجموعة عنوانا لا يخلو هو الآخر من الطرافة.. وهو دعوة للرؤية بالآذان.

ربما كان العنوان غرائبيا بعض الشيء ولكنه جاء تتويجا لذلك النمط من الكتابة ومنسجما تماما معها لان الكتابة الجديدة، كل كتابة جديدة بالمعنى الحقيقي للجدة لا الكتابات المراهقية التي تصدر عن بعض ناقصي الموهبة والقدرات والإبداعية تحت عنوانات دعائية وادعائية فضفاضة تخل بكل قوانين الكتابة الحقة وضوابطها الأساسية من غير أن تبتدع لها قانونها الخاص وضابطها الأساس.

أقول إن كل كتابة جديدة أصلية تتطلب كما أرى لغة جديدة في التعامل معها وتقويمها ضمن الوفاء للموضوعية والإنصاف.

وهكذا فسحر المسرح لا يقتصر على العين  والعقل والقلب حسب.. وإنما يتجاوز كل أولئك.. إلى الحواس كلها.. وأعضاء الجسم كله.

طبعا، مرة اخرى ليس بقصد تنويمها وتخديرها وانما بهدف شحنها باليقظة الدائمة.. وزرقها بجرعات قوية من التنشيط والحيوية والفعالية بصورة دائمية ومنعها من الاغفاءة والغفلة وحتى التثاؤب الكسلان والاسترخاء البطران.

تنتقل الصالة كلها.. من اقصاها الى اقصاها الى احتفالية عارمة واعية وتغدو في عرس من طراز خاص تصلي تبتهل تتعبد بطريقة عذراء غير مطروقة عبر طقوس بتولية غير مألوفة غير ممارسة من قبل خارج المسرح.. وبلغة بتول هي الاخرى غير منطوقة ولا مسموعة في اي مكان اخر.. او بالاحرى بلغات عديدة.. متعددة مختلفة متباينة ولكنها بالرغم من ذلك لا تحتاج الى مترجمين لانها سرعان ما تنصهر في لغة واحدة هي ليست لغة شخص واحد ولا لغة قوم معينين او شعب معلوم محدد.. انما هي لغة كل اولئك جميعا، وفي آن واحد. انها لغة كل انسان يفهمها لغة كل عقل يعيها ويستوعبها ينطق بها كل لسان ويتكلم بها كل شعب.. فهي لغة المحبة لغة الالفة لغة الصداقة لغة الفن التي تواتيني الجرأة ان اقول بل اجزم انها لغة الكون اللغة الاولى في الكون كله ولغة الخلق جميعا وحتى قبل نشأة الاكوان والخلق وهي اسمى اللغات قاطبة انها اللغة التي كان ادم وحواء يتغازلان بها.. ويتشاكسان ويتخاصمان ثم يعودان عبرها يتصالحان.. ويتناجيان حينما كانا عصفورين في الجنة.. قبل ان تدب الغيرة في نفس الرب.. وهو يرى من عليائه تماديهما في الايغال في اللغة والافراط في تنويعها واستيلادها واكتشاف عوالمها المجهولة.. والدخول في اوقيانوساتها المحظورة.. عبر طقوس لغة الجسد وحركة الجسد اللغة الحركة والحركة اللغة مما حمله على ان يغضب عليهما ومنهما ويرميهما في العراء وينجوان من شروط الايواء وينطلقات في فضاءات ممارسة الحرية ولو الى.. الى حين.

***

واخيرا:

تزاح الستارة وتذوب العتمة في نور فيضي او في فيض نوراني وينهار الجدار الرابع هل للمسرح هذا الفضاء الشاسع الذي لا يحده حد ولا يؤطره اطار جدار لنتفق مؤقتا انه ثمة جدار انها جريرة الهندسة والمصطلح او بالاحرى يرتفع الجدار، الواقعي او المتخيل ويسمو الى الاعلى فتعانق القلوب والعقول والافكار بين اناس هنا في الصالة واناس هناك على الخشبة بينك انت كمشاهد وبين تلك القناديل التي شرعت تضيء فوق المسرح.. وهي تروح وتجيء.. او تقف وتجلس وفي كل الاحوال لا تكف عن الاضاءة لا تتوقف عن الاشعاع ولا عن الحركة.. قط فالكلام فوق الخشبة حركة والصمت فوقها كلام.. مثلما العتمة هناك نور..

ترى بعين عقلك وتدرك بعقل عينك وتعرف انهم اناس كانوا معك قبل دقائق حسب وانهم دخلوا المسرح معك او قبلك بقليل او بعدك بهنيهات ولكنهم هناك قد استحالوا نجوما تتلألأ تضيء تزخر في الظلام في العقل والمكان.. تنير اروقة الذهن والفكر والوعي تطرد منها اشباح الخوف وتغسلها من مظاهر القبح.. تضخ فيها الجمال والحق والشجاعة.. تلتقي بينهم وجها لوجه الصديق الذي يسكن جوارك في المحلة والزميل الذي يجالسك  مقعدك في المدرسة والشابة التي عشقتها ذات يومك.

تبصر امامك الام التي لم تخرج من رحمها والاب الذي لم تطلع من صلبه وترى ثمة  الغرب الذي لم تقع عليه عينك ولم تعرفه قط بل ترى هناك غرباء لم تلتقهم ابدا.. كما لو كنت مسافرا في حافلة كبيرة.. لا تعرف في البداية ايا من الذين يسافرون معك او تسافر معهم ولكن ما هي الا لحظات وسرعان ما تجد نفسك قد تآلفت معهم.. واحببتهم وبادلوك المشاعر نفسها وصرت معهم اخوة واصدقاء.

وفي المسرح تكتشف اللون الذي يخرج من لونه اعني يتجاوزه ولا يتحدد به لتصبح الالوان كلها على تعددها وتباينها ودون ان يفقد اصالته وهويته وترى الجسد يسمو على جسده ليغدو الروح السابحة في فضاءات المعرفة والجمال..

تشاهد كل ذلك وتحياه حتى النخاع وانت جالس في مقعدك مترعا بالعشق منتشيا حد الثمالة  ولكن بلا خمر ولا شراب!!

اهي خمرة( باخوس )مرة اخرى ومرات اخر قد عبرت كل تلك القرون  واحتساها هواؤها فباتت اقوى وانفذ الى الروح بعدد الايام منذ ذلك الزمان حتى الان وسكنت جسدك نفذت اليك من كل مسامة من مسامات جلدك الملايين دخلت فيك من كل فتحة من فتحات جسمك..؟

انها هي..

بيد انها على الضد من خمور المصانع والمعامل والشركات المغشوشة في هذه الايام جعلتك  كما اسلفنا اكثر يقظة واشد حيوية واعمق وعيا.

تصرخ باوثيللو بلا صوت صرخة هائلة تردد صداها كل جدران جسمك التي تكاد لهولها تتصدع تتداعى وتتساقط..

لا..أ يها الاحمق الجميل ايها القائد الشجاع الاخرق حد المتهور يا من اعمت الغيرة عيون عقلك وقلبك لا تؤذ ديزدمونة الملاك  لا تفتك بهذه الفراشة الرقيقة التي يكاد النسيم ينجرح اذ يلامسها فالشر هناك والخيانة هناك.. في الخبيث اياكو الماكر اللعين..

وتنصح هملت برقة ولين مثل رقته وليونته وطول اناءته وصبره بالرغم من انك تكاد تفقد كل صبرك ازاء تردده وتقلبه الامور بعقلانية باردة ابرد من الصقيع.

ذاك هو من قتل اباك بكل خسة واغتصب امك ونهب عرشك انه عمك فلماذا كل هذا التردد اقدم يا هذا اقدم ولن تندم.

وتتأسس مع كل شخصية من شخصيات شكسبير ام اقول مع كل مخلوق من مخلوقات هذا الخالق الاعظم والامهر علاقة بهذا العمق.. وبهذه الحميمية اذ تلغى الحدود كل الحدود، بينك.. وبينهم واذا كنت هنا قد اقتصرت على هذين الرجلين حسب وبهذا الشكل المقتضب جدا فلان الاحاطة بكل مخلوقاته تحتاج الى مجلدات بقدر الاحرف التي خطها هذا العملاق في سائر مسرحياته..

وثمة امر في هذه الشخصيات/ جدير بالتوقف والتعمق والتأمل فانك بلا شك تلوم اوثيللو على تهوره وتسرعه وتعاتب هملت على تردده وبردوة اعصابه ولا توافق ليرا على هدره اراضيه واملاكه ومملكته ومنحها لاناس لا يستحقون وتحتقر شالوك على خسته وجشعه ودناءته وتنتقد بشدة مكبث لخيانته واخلاله بقيم الضيافة وانجراره وراء المخططات التآمرية التي دبرتها الليدي مكبث و.. و.. و.. والمسائل طبعا اعمق بكثير مما ذكر.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة لو كنت مكان احد هؤلاء اقصد في الظروف الموضوعية والذاتية والقدرات العقلية والثقافية.

التي احاطهم بها شكسبير وربط بينها وبينهم بعبقرية على وفق علاقة جدلية علمية هل كنت تتصرف بشكل مغاير لما تصرفوا. بقدر تعلق الامر بي فجوابي اوضحته كلماتي.

ذلك بعض سحر شكبير الذي حارت فيه العقول والازمان وكذلك هو شأن كل خالق عظيم ولكن ولكن لا احد قد بلغ ما بلغه.

***

هل من النافع ان نكرر ما قلناه اكثر من مرة تصريحا وتلميحا ان المسرح عالم اخر.

دنيا اخرى.. كل ما فيها من الاشياء تراه كل يوم في حياتك اليومية الاعتيادية ولكنه على المسرح يكتسب القا جديدا ومعنى جديدا حتى لكأنك تراه للمرةالاولى بفعل خمرة شيطان المسرح التي هي الاخرة خمرة جديدة  فنية ذات مذاق خاص مقطرة من منشأ  اخر. ليس هو العنب ولا التمر والا الشعير ولا.. ولا.. ولا اي شيء مما اعتاد الناس عصرها وصنعها منه.. انها خميرة كل اولئك معا مضافا اليها او مذابا فيها ثمار الفنون كلها والعلوم والافكار والشعر والاساطير والاحلام الخيال. والهندسة والمعمار والرسم والموسيقى ومالا يعد ولا يحصى مما تعرف ومما لا تعرف ومما تتخيل ومما لا تتخيل.

عود على بدء:

لعل القارئ بعد هذه السياحة التي طالت بعض الشيء في فراديس المسرح يتساءل لماذا شكسبير من بين سائر عباقرة المسرح وحده الذي يثير الاسى عند الشاعر السويدي لكونه احد الاشياء الثلاثة من بين بلايين الاشياء في الكون التي لم يحالفه الحظ في الكشف عنها...؟

احسب ان شكسبير هنا ليس وليم شكسبير الذي ما من مخلوق في الدنيا الا ويعرفه وانما شكسبير هنا هو المسرح على امتداد تاريخه منذ القدم  وعلى امتداد حضوره الى الابد انه ..انه خميرة المسرح المترسبة والمتطورة منذ احتفالات ديونيسوس وطقوسها الساحرة.. حتى بيكيت وميلر مرورا بكل القمم الشم. والكواكب السواطع والخلاقين السواحر سوفوكليس يوربيدس ارسطوفان، مولير، راسين، شيللر، غوته، ابسن، شترنبرج.. تشيخوف.. بيراندللو. لوركا. اداموف، ، وبريشت وفريش ودورينمات وو..

ومن هنا فاننا نتحسر جميعا ونشجن مع ستيرلاند لحظنا التعس الذي لم يحالفنا ولن يحالفنا ان نكتشف تلك الاشياء الثلاثة واهمها في نظري وفي نفسي واشدها مثارا للالم اللذيذ.. والتوق المؤرق والشوق الحزين هو شكسبير شكسبير المسرح.. شكسبير/ الشعر وبعد فالحديث عن المسرح كالجلوس الى جانب العشيقة حديث ذو حسرات وافراح وشجون ايضا.. وانثيالات وتداعيات لا سبيل الى وقف تدفقها اذ تنهال وتسيل ومع هذا لابد من وقفها.

اه.. ما اشق ذلك على النفس !! ليكن فالاشياء الشاقة على النفس قد باتت لا تعد ولا تحصى..

وفي الختام لا املك الا ان اردد بأسى ثلاثة اشياء لن يحالفني الحظ في الكشف عنها اولا..؟ ثانيا..؟ ثالثا: المسرح .