مـخطط أولي لأختراق عالم مغلق

 

قطرة ماء ظماى..

سعت لترتوي..

فأحتضنت البحر بلهفة..

و عادت قطرة.

ظماى

 

م.زه نكه نه

 

 مخطط أولي لأختراق عالم مغلق

 

هذه محاولة افتراضية، لاجراء مقابلة افتراضية مع كاتب غير افتراضي، بقلم صحفي، أفترض كونه –كوني- أفتراضيا هو الاخر، أعني انا الاخر، مع محاولة اخرى، او بالاحرى، مع مغامرة اقتحامية، لاختراق عالم هذا الكاتب الخاص.. جداً.. عبر صيغة أو صيغ عديدة، افتراضية هي الاخري، لبعض اعماله، غير الافتراضية طبعاً، واعادة ترتيب بعض أوراقه الثقافية، والحياتية ايضاً، بتراتيبته جديدة، تستمد نغسها الحياتي من هذه الاوراق والاعمال والحياة.. نفسها.. ولكنها تختلف و تفترق عنها، في مناح عديدة.. بيد أن الاختلاف لا يصل حد التناقض. والافتراق لا يبلغ حد الفرقة والوداع للاصول والجذور.. وللمداد الذي تستقيان منه.

وثمة مغامرة، أخرى، ثانية، وقد تكون ثمة ثالثة ورابعة و عاشرة و.. و..

وهي تحاول ان تسير ابعد من تلك المحاولة.. وتطمح الى قلب معطفه، أقصد الاشكال التي تفرزها أعماله، وتجرى فيها شرايين الدم عبر عروق الحياة، وتكسيها الجلد والعظم، وترتديها وتظهر بها أمام العالم.. فهي اشكال.. او معطف- كما أحب أن اسميها- ضيق على الروح الواسعة، الشاسعة، الشاملة، الفضائية، التي تحته، فتضيق به.. ايما ضيق. حتى لتكاد تختنق.. وبعضها مختنق تحته بالفعل، مما يحتم.. لاتمزيق المعطف وأتلافه. و تغييره أو تبديله بمعطف اخر حسب.. وانما تظهير بطانته وتبطين ظاهره، اى كما تقول العامة (قلبه على بطانته) فكيثراً ما تكون (البطانة أغلى من القماش).. كما تقول العامة أيضاً.

بيد أن العامة اذا كانت تردد هذا المثل كدليل على رخص القماش.. وغلاء البطانة. على وفق نظرة سوقية سعرية.. اي سلعية.. فهي تحدس.. بل تدرك ان المخفي من القماش وهو (البطانة) أهم واعظم شأناً من ظاهر المعطف.. بالرغم من كل رونق الاخير وبهائه وجماله وجاذبيته..

شيء مثل هذا.. او قريب من هذا.. أكاد اراه في معظم.. بل في كل كتابات كاتبنا.. أبادر وانفى سريعاً بانى اقصد بان ظاهر هذه الكتابات رخيص.. وباطنها او المخفي منها.. هو الثمين.. هو الجوهرة.. فثمة توازن بين الخارج والداخل يبدو للرأي مقبولاً الى حد كبير.. واحياناً الى حد يحجب عن عينيه.. ما تطمح هذه المحاولة/ المغامرة، ان تكشفه.. من ان ما خفي في هذه الاعمال والكتابات عموماً، اعظم. وهذه الكلمة او الصفة الاعظم، ليست.. بالضرورة ايجابية ولصالح هذه الكتابات ولا سلبية لغير.. صالحها.. انما هي كذلك قياساً الى ظاهرها.. الى ما ظهر من هذه الكتابات أنما هي صفة حسب لا اكثر ولا اقل.

ولكنها (الكتابات) لا تعطي نفسها ولا تكشف عن مكنونها، بهذه البساطة لكل قاريء ولاسيما من القراءة الاولى لها.. الامر الذي يحتم اكثر من قراءة ويتطلب قارئاً متفتح الذهن، يتعامل مع ما يقرأ و ليس مع ما قرأ او سمع عما يقرا.

كلما امعن النظر والفكر في اعمال هذا الكاتب وكتاباته، يتراءى لي امام ناظري "جبل الجليد" العائم. الذي ذكره همنطواي ذات مرة.. بعض هذا الجبل فقط، ربما ربعه، حسب، هو الظاهر للرائي.. وثلاثة ارباعه غير مرئية، انها مغمورة في مياه البحر.. وبالنسبة لصاحبنا، استطيع أن اقول، دون الخوف من السقوط في لغة المبالغة، أن "العشر" من كتاباته هو البادي للعيان، هو الذي يراه القاريء، و تسعة اعشاره.. مغمورة.. تحت المياه.. والنسبة تختلف وتتباين من عمل الى اخر.. ولكنها في كل الاحوال وسائر الاعمال.. لا تقل عما ذكرته.. ولهذه الحالة.. اسباب موضوعية وذاتية، تتعلق بقدراته الفنية والفكرية وبحساسية، احترازه الشديد.. و.. ورغبته العارمة وتصميمه واصراره الشجاعين في تمرير اعماله.. في اقسى الظروف التي أحاطت وتحيط به.. واشدها حلكة ووحشية وبعداً عن أبسط حريات التنفس، عبر الكتابة والحياة على وفق الاختيار والارادة. مما سأتي على توضيحها وتبيانها في الوقت المناسب والمكان المناسب في هذه المغامرة التي ركبت أجنحتها، أو ركبتني وامتطتني، ولا ادري الى اين ستقودني.. ولا الى اي شيء ستوردني.

على اية حال، فالمحاولة/ المغامرة، التي اجهل حقا مسارها. او مساراتها.. وحتى مداها.. اعني طولها او قصرها وصعوباتها ومشقاتها.. تبدو لي طريفة.. وجديرة بالاقدام عليها.. وبمجمل ما يترتب عليها وعلى نتائجها.. ان توصلت الى تحقيق شيء من النتائج.. إذ هي في كل الاحوال، غير خالية من اللذة.. اللذة الشخصية التي استشعرها وأعيشها. في كل خطوة من خطواتي.. وانا اسعى الى الاقتراب من عوالمها، وطرق ابوابها والدخول فيها والعيش في ظلالها، بالرغم مما في هذا النمط من العيش، في عوالم كهذه.. من نكد اكيد.. ونغص.. متحقق.. او متوقع حد اليقين..

وهي إضافة الى كل ذلك، لابد لي ان أقر، بأنها، لاتخلو من الجراة.. ولكنها جرأة مقتصدة مؤدبة ومهذبة، لا تدنو من الوقاحة..

ان هذه البواعث مجتمعة تغريني.. أن أمد حبالي واتسلق أعمالاً اخرى.. لعلي أجتاز.. أسيجتها، وحصونها وقلاعها، او ما يبدو.. للبعض. أسيجة وحصوناً وقلاعاً.. يستحيل تلسقها.. ناهيك عن دخولها.. وسيظهر، في الصفحات التالية ان الامر ليس كذلك، ليس كذلك البتة.

ستقترب المحاولة/ المغامرة، كما ذكرت قبل قليل.. من تخوم النقد الشخصي للكاتب، كلما وجدت ذلك ضرورياً، طبعاً بعيداً وبعيداً جداً عن التجريح.. وستعبر هذه التخوم وتدخل ساحة النقد الموضوعي فيما يتعلق بالاعمال نفسها.. (تنبش) – ان صح التعبير فيها.. وتسعى الى ان تكتشف مخابىء الكلمة.. وما وراء الكلمة وما خلف الحرف ايضاً.. عبر أسس وأسانيد نابعة من مؤديات العمل الابداعي نفسه.. دون اية استجابة.. لدواعي فرض تفسيرات قسرية من خارج النص..

يحدو هذه المحاولة/ اامغامرة، أمل ان لا تتوقف عند حدود التعريف.. بالكاتب.. ولا الاكتفاء بتعداد مؤلفاته وتصنيفها في الحقول المتعدددة التي حرثها قلم الكاتب.. المقالة، البحث.. النقد، القصة، المسرح، الرواية، الدراسة، وسواها.. لا.. لان الكاتب معروف.. وغني عن التعريف.. وكذلك أعماله.. كلها، او بعضها في الاقل حسب.. وانما لان ذلك من شؤون أناس اخرين.. مختصين في مهامهم.. التي تدخل في صميم صناعة أو تأليف البيلوغرافيا والارشفة والفهرسة.. وهي مهام ذات قيمة فنية وتاريخية وأثرية لا تقل، باي حال من الاحوال. أهمية عن اي حقل من حقول الابداع المتعددة المتنوعة.

وتسعي المحاولة/ المغامرة.. كذلك الى الا تتوقف عند حدود التوضيح فقط، ولا التفسير حسب.. وانما الى ان تعبرهما الى واقع الاضاءة.. والانارة.. والاضافة كذلك، ما وجدت الى ذلك سبيلاً، لا بمعنى تحميل النصوص فوق ما تحتمل، وانما إستنطاقها.. لا قسراً ولا جبراً وكذلك استباط كشوفات جديدة اركيولوجية لهذه الاعمال.. زيادة على ما تم كشفه من قبل نقاد وكتاب مرموقين مقتدرين.. تناولوا اعماله بالكثير من الدراية والعلمية.. والحرية ايضاً.. مع الحرص الشديد على عدم تكرار. ما قاله.. او كشف عنه أولئك.. وعدم التعرض لهم.. سلباً أو أيجاباً، لا لاستهانة بهم، معاذالله، ولا لتعمد اهمال اعمالهم.. وانما انطلاقا من حقيقة تؤمن بها هذه المحاولة/اامغامرة، كل الايمان.. وهي انها بمقدار ما تسمح لنفسها بالحرية في القول والكشف والاستنتاج.. تمنح اولئك القدر نفسه. بل.. واكثر..

انه طموح.. طموح كبير.. وحلم..

ليكن.. لاباس.. ومادامت تدور في فضاءات الحلم والطموح.. فكل شيء مشروع.. ومباح.. اذ لاحد لحدودهما.. ولا حدود لمداهما..

منذ زمن طويل.. طويل جداً.. تتأجح في نفسي رغبة الاقدام على هذه المحاولة التي يطيب لي ان اسميهاً المغامرة، مجهولة العواقب والنتائج حتى الان. ولكني كنت اقاومها وادفعها عني، بكل ما املك من وسائل واسباب. فتضعف وتبتعد.. لحين.. ولكنها لا تموت.. ولا حتى تيأس.. فتعود تغزوني من جديد.. فاحصن نفسي وقلمي ضدها.. وتظل تهاجمني فلا استسلم لها.. وتستعر المعركة، غير المرئية، دائرة.. متكافئة، في معظم الاحيان، بلا هزيمة ولا انتصار.. وتتواصل سنوات و سنوات.. ولكن بالطبع، بلا ضحايا ولا اشلاء.. ولكن بهدر المزيد.. من الدماء، اقصد.. المداد.. الذي بات اغلى من سيول الدماء التي سفحتها الدكتاتورية المجنونة في بلادنا.. وتسفحها الان ازلامها ومرتزقها.. وتعبها، ولا ترتوي، وتصرخ وتعوي مثل جهنم، هل من مزيد، واندر. واعز منالاً.. من دماء شعبنا العزيزة.

بالتأكيد كانت لدي أسبابي.. اسباب عديدة للتردد أو الامتناع عن الاقدام. اقصد الاستسلام لرغبتي تلك التي لم ينجح معها الوأد ولا محاولات القتل.. لعل اولها، اقولها بكل صراحة، بلا خجل.. أو تواضع.. ذلك الاحساس المرير المؤلم.. ولكن المتجذر في داخلي بأني.. ليست "قدها" –كما تقول العامة- وانى لاأشبعها ولا حتى.. أوفيها بعض حقها.. وفي افضل الاحوال لا اضيف شيئاً ذا اهمية استثنائية على اكوام الكتابات النقدية والدراسات التحليلية الدائرة حول اعماله.. والمتخصصة في الكثير منها فيها.. ولا اكشف جديداً.. غاب عن الكثرة الكثيرة من الذين كتبوا عنه قبلي. فيردعني سؤال مرعب.. ومحبط في الوقت نفسه.. ينبثق في مكان ما في مكان ما من نفسي.. ويحتويني تماماً.. ما جدوى الكتابة. اية كتابة.. اذا كانت لا تضيف شيئاً.. ولا تكتشف جديداً؟ فاروح اتخبط بين الاقدام والانسحاب.. بين الكر والفر. بلغة اهل المعارك والحروب. المندثرة، والمتجددة في كل عصر.. وزمان ومكان.. للاسف مادام ثمة استبداد وحكام وسياسيون حمقى ومجانين.. تعميهم مصالهم الطبقية الانانية الجشعة. محصوراً.. او محاصراً.. بأسوار التردد.. مختنقاً.. داخل قلاعه الحصينة.. مغلولا باغلاله الثقيلة.

وتاتي الايام والليالي.. لتستحيل في غمضة عين الى.. اسابيع وشهور وسرعان ما تصيران.. سنوات وسنوات.. وتتكوم السنوات والسنوات وتظل تتكوم.. لتغدو عقوداً تركب عقوداً من الزمن الهارب، بلا توقف ولا استراحة. حتى لالتقاط الانفاس.. وكل يوم من ايام هذا الزمن السرمدي، لايتوقف، ولا يتهمل لحيظة واحدة.. في جريه اللاهث بالقوة والسرعة نفسيهما. اللتين.. لاتتوقفان في تعزيز احساسي ذاك بالعجز.. وعدم الاهلية، ولكنما لاتقتلان رغبتي ولا تدفنانها، غير مأسوف عليها، ولا تمنحاني القدرة على التحرر من عبوديتها، ولا  حتى تخفيفها.. وتركها.. ولا مساعدتها على تنفس هواء الحياة الطبيعي، الذي قد تكون جديرة باستنشاقه.

احسب ان الحياة في البرزخ، الذي تتحدث الحكايات والكتب عن وجوده، بين الجنة والنار، اكثر صعوبة ومشقة.. من الحياة في احداهما.. بيد انها بالتاكيد.. الذ واطيب و احلى من العيش في اي منهما.. وفي كليتهما، ففيهما، الجنة والنار، معاً، على افتراض وجودهما، حالة من الاستقرار، الذي تأباه طبيعة الحياة. وشيء من الهدوء، الذي تسأمه النفس.. وثمة الاخطر.. والاشد مللا الا.. وهو اللا أمل في اي شيء.. والتلذذ الغبي، او التعذيب الشقي، في البقاء الدائم، فيهما. بينما في البرزخ، يوجد ذلك الترقب المتأمل والقلق اللذيذ.. والمبدع.. ذلك الانتظار للمجهول الآتي.. والبحث الدائم عن حالة اخرى، مغايرة مختلفة.. كائنة ماكانت.. او يمكن ان تكون.

ولكن، كما قلت، ذلك العذاب ايضاً، ذلك الاحتراق اللانهائي.. اقصد الا بدي الخالد، في اتون الاكتشاف والابداع الذي هو وحده الخالد، دون الوجود والكون والاشياء، الاشياء كلها.. بلا استثناء.

ثم تأتي فوق كارثة الزمان.. كارثة اخرى، فالرجل مايزال يحيا.. وكتاباته واعماله، بغض النظر عن قيمتها الفنية او اهميتها الفكرية. ماتزال تتري وتتوالي.. وهي حبلي بالتنوع والتباين والتفاوت.. لا في الاجناس الابداعية التي يفرزها حسب، وانما في الجنس الابداعي الواحد.. ايضاً.. في القصة القصيرة، كمثال، حتى لتكاد احداها لا تشبه الاخرى، وكانهن بمجموعهن –القصص القصار- لسن من رحم واحد.. بالرغم من انهن من نطفة رجل واحد، الرجل نفسه. دون سواه. وقل الشيء نفسه في مسرحياته وفي، روياته.. وفي سائر كتاباته..

مرة اخرى.. لا ارمي الى مدح.. ولا ذم.. ذينك القطبين الذميمين اللذين تتمحور فيها.. وتتحرك في مساحتهما المليئة باللاموضوعية، في اغلب الاحيان.. اكثر الدسارات النقدية.. وانما اقصد بيان ذلك التنوع.. الذي يصدم الراغب في الكتابة عنه. او على الاقل، وبالصدق كله.. يصدمني، مثلما صدمني من قبل بل.. بل.. وقد شرع يشلني.. الى حد بعيد.. الى.. الى حد العجز.

اظن انه قد آن الاوان ان اقول شياً ما.. عن هذه الفكرة –الجريئة بالنسبة لي- وعلى نحو شخصي بحت.. وكل ما قلت.. وما سأقوله لا يخرج عن هذا الاطار، اقصد، الانطباع الشخصي الصرف.

هذه الجرأة.. الاقتراب من هذه الفكرة/المغامرة، ليست وليدة الساعة، ولا بنت اليوم او الامس.. فهي – كما سبق وذكرت اكثر من مرة. وفي اكثر من موضع من هذه الكلمة/ العتبة- تعود الى سنوات و سنوات عديدات.. أخطط لتنفيذها.. وأتهياً له بالقدر نفسه الذي أتهيب منه..

إنها ترجع الى الايام الاوائل من علاقتي بالكاتب.. منذ كنت اقرأ له كتاباته الأولى.. قبل ما يزيد على نصف قرن.. و منذ كنت أصغي اليه والى ما يقرأ لي.. او يسرد امامي.. ما كتبه او يروم كتابته.. او يفكر وينوي كتابته.. من قصص او مسرحيات. او روايات.. او افكار.. مجرد افكار.. لم تتخذ لنفسها بعد اي شكل فني.. ولما يكتبها بعد، او كتبها ولكنه لم ينته من صياغتها الاخيرة. بالشكل الذي يرضيه او يطمح اليه.. لكي يخرجها على الناس.

لقد كنت وانا اقرأ له قصصه.. او استمع اليه وهو يقرؤها أو يسرد فكرتها حسب، احس ان وراءها قصة اخرى أقرؤها خلف السطور.. واسمعها تتردد في اذني.. وتتشكل اجواؤها وتسلسل احداثها.. وينتظم شخوصها.. خارج الكلمات التي تجري على لسانه.. وهي تنطوي أو تخفى، أو تتستر على اشياء واشياء غير التي ترسمها كلماته.. المكتوبة او المنطوقة.. وهو يقترب منها احياناً.. بحذر شديد، في مواضع معينة.. ويبتعد عنها في.. مواضع اخرى.. ولكن في كل الاحوال.. اكاد اراها امامي.. انها هي القصة الحقيقية التي كتبها او يروم كتابتها..!

كيف كانت هذه الافكار تتولد عندي وتتناسل وانا في تلك السن المبكرة من الحياة؟ ولماذا كان يفعل ذلك؟ و هل يفعله بتعمد..؟ ام بصورة عفوية؟ ام ان ادواته التعبيرية والنفسيه ايضاً قاصرة.. عن التشكل.. خارج ذلك الشكل والاسلوب..

اسئلة كثيرة.. بعضها.. كان يراودني انذاك، وبعضها بات يقتحمني الآن.. او منذ.. سنوات.. آمل ان استطيع.. او بالاحرى ان تستطيع محاولتي هذه/المغاصرة.. الاجابة.. عنها.. او عن بعضها.. او.. حتى الاقتراب من الاجابة الشافية.. على ما أمل.. وارجو.. واطمح.. و.. و.. أفرح.

بيد اني كنت اعالج الحالة على نحو اخر.. على شكل يستمد مكوناته وخطوطه والوانه من ابتكاري الشخصي اذ ما كنت افترق عنه –وهل كنت افترق عنه او يفترق عني؟. حتى اشرع باعادة كتابة القصة نفسها.. على نحو اخر. يخيل الى انه هو الشكل الحقيقي. او الذي ينبغي ان يكون كذلك.. وهو الذي يقصده ويهدف اليه.. ولكنه لسبب ما. او لاسباب عديدة، يحرص ان يجعلها مجهولة، لا يظهرها او يكبتها ولا يدعها تظهر..فتأتي القصة، بغير الصورة التي ينبغي ان تأتي بها..

اقول هذا، دون ان أدخل في تفاصيل من قبيل، اى الصورتين أفضل.. او أيهما أبدع.. تلك التي تظهر فيها او تلك التي تخفيها.. فذلك امر خاص.. خاص جداً.. لصيق به وحده.. ويبتعد.. عن القطبين الذميمين –المدح والقدح- مرة اخرى ومرات اخريات عديدات، ما نستطيع الى ذلك سبيلاً.

ثمة سؤال، او بالاحرى، اسئلة، تطل براسها او برؤوسهاباصرار:

لماذا كل هذه المكابدة؟ لماذا كل هذا التخفي؟ لماذا كل هذا  التستر؟ لماذا كل هذا التغييب للمقصود او الهدف..؟ لماذا كل هذا التغليف للحقيقة الساطعة الجلبلة؟ ولماذا؟ لماذا..؟ لماذا؟ والى اخر ما هناك  من هذه الـ(لماذات)؟! ان صح التعبير.

لا تزعم هذه المحاولة، بالرغم من هدفها المغامر. ولا تدعي انها قادرة –كما سبق وأوضحت- على اطفاء كل تلك اللماذات المشتعلة.. بل لعلها ستصب المزيد من الزيت فوقها.. فتزيد من تأججها.. في نفس القاريء.. والباحث. فهي أفضل احوالها. لا تعدو طرح اجتهاد.. من مجموع اجتهادات، طرحت.. وستطرح حتما. مستقبلاً.. وهي قد تكون متقاربة من بعضها حد التكرار.

وقد تكون متباعدة حد التناقض، كما يتهياً لكل قاريء او باحث.. او مستمع.. على وفق المكونات الموضوعية والذاتية.. المنبثقة من الواقع الثقافي والحضاري والنفسي.. لكل واحد. وقدراته التحليلية والنقدية.. واني.. صاحب المحاولة –اقول بكل تواضع، بان كل علاقتي التأريخية، المتجذرة في الزمن. مع الكاتب نفسه.. التي تبدأ من ساعة ولادته ومغادرته رحم امه والتي لا تنتهي، بكل تاكيد ويقين، الا بعودته الى رحم امه (الارض) لا تمنحني الحق في طرح زعم مضحك كهذا.

بالرغم من انني بوسعي ان اقول. بلا اي شعور بالتباهي، بانني اعرفه بشكل اعرق واعمق واشمل.. من اى شخص اخر.. مهما كان قربه منه ومن اعماله، واني اعرف اسرار كتاباته اكثر من كل من كتبوا عنه.. ومن مجموع من كتبوا عنه ايضا.. ليس فقط بسبب. العشرة الطويلة.. والمعايشه اليومية معه.. ولا بسبب قدرتي على النفاذ الى افكاره المعلنة والمخفية، الظاهرة والباطنة والوقوف بدراية وثقة على ينابيع كلماته التي تنبع منها ومرافىء كلماته.. التي ترسو عندها.. ان كانت لكلماته ثمة مرافيء يمكن ان ترسو عندها.. اساساُ.. فهي واقولها عن يقين.. سفن بلا مرافىء.. وحمائم بلا اوكار.. ولا.. اعشاش. وبالاف أو ملايين الأجنحة. واني، ايضاً، وباليقين نفسه اقول.. قد اسر لي، ويسر لي دائماً، باسرار ابداعه.. واسراره الاخرى.. قبل.. بل ودون اى شخص اخر، لابل.. وبما، لم يفض بها الى اى شخص اخر.. قط.

لقد امتاز منذ صباه بقدرة فائقة على الاختلاق- كدت اقول الخلق. ولكن لا.. فما كان يرويه في تلك السن المبكرة حباً. وضمن قدراته الفكرية والفهمية والتأليفية.. لكلينا، له ولي، يكون لفظ (الخلق) بما يتطلبه من مواصفات خيالية وتكامل في البناء وتناسق في النسج.. والحكبة والصراع.. امراً كبيراً.. لاسيما ان كله.. او جله كان ينتمي وينبع من المغامرات العاطفية او المشاجرات الصبيانية التي كان يخوضها، أو يدعي انه قد خاضها. ولكن والحق يقال وبالرغم من انتمائها الى فضاءات المبالغة واجوائها. وماذا يمكن ان نتوقع من طفل لما يبلغ السابقة بعد.. او المباشرة في اعلى الاحتمالات؟.

كان مايرويه يمتاز بتسلسل منطقي وتناسق مثير الى حد ما، وينطوي على حوافز لاثارة المقابل.. وتشويقه الى الاصغاء اليه بمزيد من الانتباه.. ولكن ما.. كان يفسد الامر احياناً.. افراطه في المبالغة الى درجة يصعب تصديقه او احتمال حدوثه، او حتى امكانية حدوثه، فعلاً، لاسيما ماكان يتعلق بمعاركه، اقصد مشاجراته ومشاكساته مع الاخرين، الاكبر منه عمراً. والاقوى جسماً.. وايضاً، مغامراته العاطفية، التي تعد في افضل حالاتها.. حباً من جانب واحد.. شطحات طفل او صبي.. واحلامه وآمانيه!! ولاسيما وانا اعرف جيداً، ماكان عليه انذاك.. من هزال في الجسم، ونحافة في البدن، وصغر في الحجم، واعتلال في الصحة. فقد اصابته نوبة صرع وهو دون الرابعة، في حمام النساء، حيث كانت امه تاخذه معها، تم اصابة اخرى بالديزانتري و هو في السابعة، اقعدته اياماً واسابيع في البيت، منقطعاً عن المدرسة، تحت رعاية امه، وشقيقاته الثلاث، خاضعاً لعلاج نساء جاهلات يزعمن الحكمة والمعرفة بكل شيء.. مما يستوجب ابتعاده عن كل ما يتطلب بذل اي جهد بدني.. وتجنبه تماماً.

ولولا هذه الحقائق التي اعرفها، عنه، حق المعرفة، لكان حرياً بنا ان نصدق –ضمن المقدمات والنتائج والتسلسل، التي يرتبها بحذق ومهارة و.. فنية – وان نؤمن بان امرأة، في غاية الجمال، دعته الى بيتها وذهب معها او ان فتاة.. من اجمل فتيات المحلة، قد بعثت له برسالة عشق و غرام محترقة الاطراف، معطرة بعطور الورد. ممتلئة برسوم قلوب تخترقها الاسهم..

او ان مجموعة من اشرس اشقياء المحلة الفلانية، تصدوا له.. وانه هزمهم جميعاً و.. و.. الى اخر ما كان يرويه.

مما يحملني الان على التساؤل اكان ذلك بداية للتأليف الروائي والقصصي والمسرحي عنده.. وارهاصات الرؤيا والخلق الابداعي.. بشكلها الاولي البسيط، وحتى الساذج في بعض الاحيان؟

احد الكتاب الالمان –عذراً نسيت اسمه.. تساءل ذات مرة.. من هو المؤلف؟ واجاب بنفسه: انه احد اكبر الكذابين في العالم.. بيد انه يختلق اكاذيبه بصورة منمقة جذابة.. ويرويها بشكل يجعلك تصدق، بالرغم من علمك انها مجموعة اكاذيب، بانها وقائع وحقائق.. ومن المؤكد ان الصياغة الجيدة لاحداث قصة ما.. خيالية بحت.. تجعلها تبدو اكثر واقعية من الواقع نفسه.,. ومقبوله بقوة.. حتى ولو كان اساسها "كذبة".

وليس بعيداً عن أذهاننا –مادمنا في سياق الحديث عن الواقع والاحداث والوقائع، واعادة خلق كل اولئك او صياغتها من جديد.. على نحو أفضل مما هي، وأكثر اقناعاً ايضاً.. ما كتبه العلامة الفقيد الطاهر الطاهر.. أحد اكبر اعمدة النقد. قبل اكثر من ثلاثين عاماً.. "جريدة الجمهورية في 20/5/1975) وثبته في كتابه (من حديث القصة والمسرحية ص 445 – الصادر عام 1987 – بغداد – دار الشؤون الثقافية العامة) بعد ان  شاهد احدى مسرحياته المعروضة.. وهي تعيد صياغة احداث و وقائع جرت قبل اكثر من الف وخمسمائة سنة.. وينفخ فيها الحياة من جديد.. من عنده وكما يراها هو.. وليس كما رواها المؤرخون والرواة والوراقون.. وهي –بقول الطاهر "لو قرأتها كما هي او سمعتها (في اصولها الاولى) لما رايت فيها شيئاً يستوقف الذهن ويكون (سؤالاً) له جواب يتصل بمسيرة الانسانية نحو الافضل.. ولكن الحماسة غلبت مؤرخينا.. فكان لابد منه (اي من الكاتب) ليعيد بناء الحقيقة مستعيناً بفكره وعاطفته وخياله، مالئا بذلك الثغرات في براعة تجعل الناظر يرى الامور وكأنها هكذا كانت. من يدربنا. فلعلها هكذا كانت. والا فلم سمى الاديب أديباً؟ ولم اشترطوا فيه القوة الابداعية؟)* - عفواً كدت انطق اسمه.. فافسد متعتي.

ويضيف الطاهر (لقد وجد، لاقل الكاتب نفسه. احجاراً متأكلة وبقايا تراب وعظام.. هي مادة خام يقف الكثيرون ازاءها عاجزين عن ان يفهموا منها شيئاً.. ويستحيل اخرون جماعين رقاعين يزيدون الموت موتاً.. اما هو فكان قوياً قادراً على اعادة البناء حياً متماسكاً بعد ان "خلق" عدداً من الناس يكملون المجتمع.. ووضع نقاطا على حروف ظلت دهورا يحسبها الحاسبون منقوطة.. لقد "أعاد" الاشياء احداثاً و حواراً وافكاراً.. وكأنها هكذا كانت.. ولعلها هكذا كانت، وجعل "ما قد يعود- بوجه من الوجوه- الى اكثر من الفي سنة ولكنه جاء في المسرحية- وكأنه ابن اليوم" ص446.

يثير هذا الاستشهاد الذي طال نوعاً ما.. سؤالاً.. هل ان احلام اليقظة.. والاوهام والحكايات الخيالية، التي كان ينسجها.. كانت اللبنة الاولى في تلك الابنية الشوامخ التي اقامها بقلمه؟

في الحقيقة ليس الدكتور الطاهر، وحده الذي استطاع بعقله النافذ ان يشخص هذه القدرة على الخلق ومنطقة الاشياء والاحداث وسلسلتها بهذا القدر من الاتقان والحذق فيه، الذي يبلغ حد ان يعيد احداثاً و وقائع جرت قبل اكثر ألفي عام. تعرضت خلال هذه القرون الطوال، لألاف.. التشويهات والتهويلات.. حسب الاهواء والمصالح. على ايدي مورخين ورقاعين يعملون في خدمة السلطان.. ولصالحه حسب. ويجعلها كانها كانت هكذا.. او كانت بالتاكيد هكذا.. وانما انتبه الى هذه الميزة، التي لا اتردد ان اسميها (الخلاقة) في كتاباته.. سائر او معضم من كتب عن هذه الاعمال سواء تلك التي تعود احداثها الى ما قبل الاف الاعوام كما في اعماله العديدة. وكمثال على سبيل الذكر لا الحصر.. في.. (.. ..) و (.. ..) و (.. .. )- وسواها كثير، أو التي تعود الى الامس القريب، او اليوم.. او الى ما قبل عشرات او مئات الاعوام.. وفرز تلك النبؤة، او الميزة.. التنبؤية.. لما سيقع.. او يحدث بعد عشرات الاعوام.. وقد حدثت فعلاً.. (.. ..) مثلا تلك الرواية التي تتحدث باسلوب تنبوئي حقاً، بالملاحقة الدائمة للانسان وحمله مع توقيع اوراق.. بالتنازل.. عن مباديء معينة. او قناعات معينة او من يحب او.. او..

و (.. ..) التي تطرح رمزها بسطوع اقوى.. اما ان تستحيل جراداً، مثقلاً بكل قذارات الجراد واوزاره واثامه وجرائمه.. وان تفترس الاخضر واليابس.. وتقضم الزهر والحجر وتشوه كل شيء جميل ونظيف في الكون، في الطبيعة والانسان.. واما ان يفترسك الجراد.. ولا حياة لك.. ولابقاء في هذه البلاد.. بلادك، فوق ارضك وتحت سمائك.. التي احتلها هذا.. المخلوق القذر.. الممسوخ واستباحها ناساً وهواءاً..

او رواية (.. .. ..) التي ترفض المدينة الملوته ابنها البار الصادق الامين.. لممارسته الصدق والصراحة، في كل شيء، في السلوك والقول والعمل.. وتطرده الى المنفى (مدينة اخرى) فينقلب فيها البطل على صدقه وذاته انقلاباً مريعاً. فتعشقه المدينة التي تعشق الكذب.. والذباب والعهر ولكن ترفضه ذاته وتحتقره.. ويحتقر نفسه.. فيغادرها، غير اسف، ولكن.. لى.. الى.. الى اين..؟

الى مدينة ثالثة.. ليس لها وجود.. الا في خياله وطموحه واحلامه. مدينة مصنوعة من مادة الحلم.. حيث تتقلص.. فيها المسافة بين الحلم و.. والواقع..

او.. او.. او.. سواها من الاعمال الكثيرة.. التي لا تريد هذه المحاولة الاولية المبسطة المحدودة، ولا تستطيع حتى لو ارادت، ان تحيط ببعضها.. ناهيك عن كلها.. او حتى معظمها لاسيما وانها جميعاً، المنشورات منها تحديداً، تكاد تكون معروفه وتبين، رموزها الشفافة، الموحية، ليس ضرباً من المستحيل. بيد انها لا تعطيك نفسها الا.. بقدر غير قليل من الجهد.. والتأمل وامعان النظر.. بدقة واهتمام وحرص.. ومن ثم ادراك العلاقة الجدلية.. القائمة، ولكن غير المرتبة.. بينها وبين الواقع المتغير، المتبدل، الذي افرزها، بكل مراراته.. التي لم تختف يوماً "من المر الى الامر" طوال الاربعين سنة الاخيرة.. التي عاشها الرجل.. وذاقها وعاناها.. حتى النخاع.. ودون انقظاع او غياب، عن الكتابة والحياة من اي نوع كان، واتخاذ المواقف التي يفرزها ضميره.. المتفاعل مع الاحداث، كانسان.. وكاتب.. او ككاتب وانسان، يشعر بالمسؤولية الشخصية ازاء كل ما يجرى في (بلده وفي العالم، على وفق الرؤية الفنية والفكرية، التي ترشح من وعيه التأريخي والآني، عبر قلمه الذي لم ينضب، كدت اقول لم يغمد، يوماً، وفي احلك الظروف واشدها قسوة.. على الانسان العراقي عموماً.. والانسان الكردي، بوجه خاص، الذي عاني ما عاناه اخوه العربي، والتركماني والكلدواشوري، اضعافاً مضاعفة..

صحيح أن فترات صمت.. او سكوت، او بالاحرى "اسكات" قد تخللت تواصله الابداعي ونتاجاته.. ولكن ذلك كان على صعيد النشر، الذي تتحكم فيه، قوى اخرى، القوى التي.. لا يتآلف.. ولم يتآلف معها قط.. بل ظل يحاربها.. بكل ما اوتى من سلطة الابداع.. ومن.. سلطة الصمت ايضاً. على صعيد التنفس عبر القلم.. وبناء العوالم على الورق.

تلك العوالم التي تبحر اليها سفن كلماته.. بلا توقف.. الا ليغادرها الى عوالم أخرى أرحب.. واسعد.. وتنطلق منها مرة اخرى.. ودون ان تمكث عندها طويلاً.. فدائماً، في.. ذهنه، تخلق عوالم أبهى.. واكثر جمالا وحياة وعدالة.. في عمل دءوب وسقي حثيت.. وجهد.. مثابر.. لايتوقف ولا ينقطع.. الا لفترات وجيزة.. قد تطول، لا لالتقاط الانفاس.. والراحة حسب.. وانما ايضاً، وربما بشكل اقوى، لتجديد المعرفة.. وتأجيج المعاناة.. واثراء الخزين الثقافي.. ومن ثم مواصلة الرحلة.. التي تستغرق العمر كله.. بعدما.. ابتلعت.. اكثر من ثلاثة ارباعه.. او نصفه.. او.. ربعه.. كما آمل وأبتهل..

من يدري؟ من يدري؟ ان حياة مثمرة، منتجة، كهذه.. وسنوات ثرية بالابداع.. يتمني.. كل امريء الا تنطفيء.. وتظل.. ما امكن، مشعة.. زاخرة بالعطاء.. ولكن.. ليس كل ما يتمنى المرء  يدركه..

قطرة ماء ظمآى..

سعت لترتوي..

فاحتضنت، البحر بلهفة..

وعادت قطرة..

* * *

عود.. ولكن ليس على بدء..

وانما الى بعض الاسئلة، ذات الاجوبة المبتورة.. وايضاً الى الاسئلة التي ظلت هائمة، خلال ما سبق، بدون اجوبة اساساً..

هل كان للجسد المعلول في الطفولة.. ومراحل الشباب الاولي دور في انزاوئه وانقطاعه.. او امتناعه عن الاختلاط مع الاخرين.. وبالتالي كان دافعاً.. او احد الدوافع الى الانطواء والعزلة، والعيش في الخيال.. و.. الوهم الى حد ما، اكثر من التقائه بالواقع والانتماء اليه، حيث كانت ايامه انذاك، في مدينته (.. ..) وبالذات في محلته (.. ..) التي ولد وعاش فيها، يتسم بالمعارك الصبيانية. والخصومات، والشجار  بين اطفال المحلة، على اتفه الامور والاشياء، "د عبلة"، كرة مصنوعة من الخرق.. لعبة حنجيله.. الخ.. الخ.. وهو المولود الرابع عشر، لاب أتسم بالتسط والسطوة.. والمولود الخامس لسيدة اتسمت بالهزال والضعف واعتلال الصحة (هل اورثته بعضا من كل ذلك).. وهو.. اصغر.. واخر طفل.. للاب والام.. في عائلة.. متكونة.. من الاب.. ذي زوجات ثلاث.. وكثير من الاولاد والبنات.. اعني من الاخوه.. غير الاشقاء، الاكبر منه.. والاكثر تسلطاً من الاب نفسه على وفق قاعدة الاواني المستطرقة.. وزوجة اب.. ذات سطوة ونفوذ.. حتى على الاب المتسلط نفسه، ربما بجرأة مستمدة من قوة ابنائها الاربعة الذكور.. او لاسباب اخرى خاصة لا يدري بها سوى الزوج والزوجة، وفي الوقت نفسه في شجار شبه يومي.. مع الام (الضرة) الاصغر منها.. ولكن الاضعف.. والاكثر تحملاً لاذاها وسلاطة لسانها.. وهي بلا حول ولا قوة.. لا تملك سوى ولد معلول.. وثلاث بنات ضعيفات هن الاخريات.. يقضين الليل والنهار في حياكة "الليف" وبيعها.. واطعام الشقيق الوحيد "المدلل" واكسائه.. حتى لكان يبدو دائماًَ اكثر نظافة.. واناقة من اخوته مما كان يحملهم على الحسد.. وبوغر صدورهم عليه.. ولاسيما الذي يكبره بسنتين.. وكان متخلفاً عنه في الكثير من النواحي.

كان الاب يسير.. ويمشي وراءه اولاده.. وأحد احفاده.. وهو كان دائماً اخرهم في السير.. واذ يتلفتون ولايرونه.. يضطرون الى التوقف وانتظاره.. واذ يطول بهم الانتطار.. يأمر الاب احدهم بالبحث عن هذا "الجرو" الضائع، الذي يضيع دائماً. واذ يعود المكلف بالبحث عنه، براه واقفاً امام "دكان" خردوات يبيع من ضمن ما يبيع اقلام حبر (اقلام باندان) مستعملة.. او مكسورة.. يبيعها كاجزاء. لمن يحتاجها.. او امام بائع كتب مستعملة ايضاً، تفترش الرصيف.. الى جانب مجلات مستعملة ايضاً.. أو.. أو.. أو.. او امام "نجار" يصنع خزانات ملابس.. ذات واجهة زجاجية، ينقش.. فوقها.. حصاناً بجناحين.. طائراً.. لاتكاد اقدامه تمس الارض وهو بوجه.. فتاة جميلة جداً.. فيذهله الامر تماماً.. ويسأل "الرسام!!" عن هذا المخلوق الغريب.. ويجيب انه "البراق" ويسأل عن البراق: ويعرف انه الفرس التي.. طارت وحلقت بالنبي محمد في رحلة فضائية.. اسرع من سرعة الضوء..

ويقبل الاخ.. ليجره بقسوة و عنف، ويضعه امام الاب الذي لا يتردد عن صفعه.. في السوق.. امام جموع من البشر مع التهديد.. بضرب أقسى.. ان ندت منه صرخة.. او نزلت من عينه دمعه.. فينتحب بصمت، ويبكي بلا دموع.. ويغطي صفحة وجهه المحمرة.. ويطأطيء رأسه.. خجلاً من الناس مستاءاً من شماتة الاخوة وقهقاتهم.. الصاخبة.. ويسير.. معهم زارعاً عينيه في الارض.. ويصطدم ببعض المارة.. وحتى الاعمدة.. فيثار حوله ضحك جديد.. وينكفيء هو على الم جديد.. يمضغه.. يجتره.. مكبوتاً مختنقاً.. بعويله الاخرس.. ودموعه المتحجرة في عينيه.. واذ يعود الى البيت، يلقى نفسه في احضان امه، فيكتسب عويله الاخرس الف الف لسان صارخ.. وتستحيل دموعه المتحجرة الى سيول نهر الخاصة الربيعية الجارفة..

أكان كل ذلك وغيره كثير.. كثير.. كثير. مما يعجز عن استيعابه مجلد او مجلدات.. من حياة البؤس والشقاء التي عاشها، والتي لا سبيل الى ذكرها هنا.. ولا يدخل ضمن مهام.. هذه الكلمة! سبباً اخر.. من الاسباب العديدة.. لنكوصه.. وايثاره العزلة والانطواء.. والتعويض عن العالم الخارجي بعالمه الداخلي.. والمبالغة في تنشيط المخيلة وتضخمها.. وخلق الاوهام.. كبديل واق؟ ثم.. لماذا هو، وحده، دون سائر اخوته، دائم الارتداد الى الداخل؟ ولماذا هو، وحده ايضاً، دون سائر العائلة التي تعدى افرادها وتشعباتها.. من الفروع و فروع الفروع.. المئات.. صار اليوم ماهو عليه.. دون سواه.. الا واحداً او اثنين من الاحفاد.. ولم يبلغ اي منهما بعض ما بلغه؟

مرة اخرى.. ومرات.. اخر.. ومرات و مرات، حتى يضجر القاريء.. وآمل الا يضجر! لماذا..؟ لماذا..؟ حسناً، لنترك الاجابة.. هائمة.. ايضاً.. اعني.. بلا جواب.. الى حين.. او الى الابد.. حتى تنبثق.. او تولد من.. او في ذهن القاريء نفسه.. بغض النظر عن كونها صحيحة.. او الاهتمام بكونها صحيحة.. ام لا.. أو.. لا تولد.

في مرحلة تالية، بعض الزمن، خرج من دنيا المغامرات التي كان يرويها والتي كان يصنعها.. او يخلقها.. والتي كانت بالرغم من كونها في بعض اجزائها قابلة للتصديق.. فقد ندر ان صدق بها اصدقاؤه.. وهو نفسه كان يعرف هذه الحقيقة.. بيد انها لم تكن.. لتهمه.. بدليل.. انه كان سادراً في سردها، في كل الاحوال.. وامام كل الاصدقاء والمعارف.. وبالحماس نفسه، كما لو كان يرويها.. لنفسه حسب.. ثم.. لم تلبث ان تطورت عنده تلك القابلية.. في الاختلاق.. او طورها.. عبر قراءات عديدة، ومستديمة، حيث كان الكتاب.. يكاد لا يفارقه حتى في الفراش الا بعد ان يختطفه النوم.. فيسقط من بين يديه.. ويتواصل بعده.. في الحلم.

فكم مرة روى لي انه.. التقى، في منامه، طبعاً، بتوفيق الحكيم او همنغواي.. او تشيخوف.. او شهرزاد.. او.. او.. او.. او.. عبر ابتسامة خجول، واحساس بالتباهي والزهو، والامتياز.. وحتى حين كان يجلس الى الطعام.. على الارض طبعاً. كان الكتاب الى يمين الاناء الوحيد في الغالب.. او يساره يغرف من هذا بعينه.. وكل حواسه بشغف.. ولهفة وجوع اقوى من ذاك.. الذي كان يلقي.. بملاعق منه في جوفه.. لحاجة.. بايولوجية حسب..

اقول شرعت تلك القابلية، هل اسميها الموهبة؟ تتحول عنده رويداً رويداً الى مقدرة من نوع اخر.. استطيع ان اسميها مقدرة في التأليف.. تتسم بقدر ما من النضج غير قليل، قياساً الى عمره انذاك، وعبر لغة منسقة مرتبة.. غير خالية من الشعرية المبكرة.. وسليمة.. كانت تتوزع (مقدرته تلك) بين القطعة النثرية.. والقصة.. فقد كتب وهو مايزال في المرحلة الاولى من الدراسة المتوسطة اكثر من قصة.. كانت تقابل.. باللاقبول من اصدقائه.. مما حمله ان يغدو اكثر ذكاءً منهم.. فاخذ يحكي لهم قصة اخرى.. وينسبها الى غيره، موباسان.. همنغواي.. غوركي.. الحكيم.. تشيخوف.. والاغلب هو تشيخوف.. الذي اطلع على الكثير من قصصه، في مجلة  الرواية المصرية، ومن خلال بعض ترجمات منير البعلبكي.. ومن كتاب حظي باهتمام كبير جداً منه.. وقرأه اكثر من مرة.. عن تشيخوف.. الفه وترجم قصصه ومسرحيتين.. الكاتب العراقي.. شاكر خصباك.. ومن منشورات، الثقافة الجديدة.. فكان اصدقاؤه يفتحون افواههم.. اعجاباً بالقصة.. واخذ يمارس طريقة اخرى.. يحكي لهم قصة من قصص تشيخوف الحقيقية وينسبها الى نفسه.. فكان يجابه او بالاحرى.. تجابه (القصة) بفتور وضعف حماس او انعدامه.. وتخرج بعض الالسنة.. الدعية، او السن الادعياء من مكانهما.. لتلدغ القصة من هذا الموضع او ذاك.. ومن هذه الشخصية او تلك..

فايقن.. ربما منطلقاً من خيبة امل مريرة باصدقائه.. ان لا جدوى من اسماعهم ما يهجس به او يجول بخاطره الشاب، او عرض ما يكتب أمامهم.. دون ان يؤدي به ذلك الى القنوط, ولا حتى الى الكف عن تنشيط هواجسه وتغذيتها.. او.. يتوقف عن الكتابة.. ولكن اقلع تماماً عن إطلاعهم على اوراقه.. وظل يكتب ويكدس، يكتب ويكدس.. او بالاحرى وعلى حد تعبيره.. يوئد.. كتاباته ومخلوقاته.. في ما صار يسميه.. في المراحل المتأخرة. بـ(مقبرة المخطوطات العمودية) او الجماعية، ولكن غير البشرية.. طبعاً..

هل أشعر بالسعادة لاني كشفت سراًمن اسراره التي لم يطلع عليها أحد.. واستطيع ان أجزم انه لن يطلع عليها احداً ايضاً؟ أم بالاسف.. والندم لائي اخترقت امتيازي في معرفة اسراره.. ولم يعد ذلك امتيازاً.. يمنحني.. الزهو.. لتفردي؟

لا ادري..!!

على اية حال.. ليس ما ذكرت الا نزرا يسيراً.. من اسراره.. الكثيرة.. والكثيرة جداً.. التي.. ماتزال غير معروفة من قبل احد سواي.. مما يبقى لي قدراً من الامتياز، يفتقر اليه.. الاخرون.

حسناً..!!

مادمت على هذا  القدر من المعرفة، وباسراره العامة والخاصة جداً.. لماذا اسمي هذه المقابلة.. او المقالة.. او الكتابة عنه.. افتراضية؟؟

واذا كنت انا –ولا اعوذ من كلمة انا.. فانا احب الــ(انا) وأناي بشكل خاص- لسبب ما.. او لاسباب عدة، اجعل من نفسي شخصاً افتراضياً.. فان هذه المقابلة/الكتابة.. ستكون بالضرورة، وبكل تاكيد افتراضية، ولكن ذلك لايعني البتة انها غير موجودة.. والا فما معنى.. ان تقوم.. الان او في المستقبل، صحيفة ما، او مجلة ما، وربما غداً، او بعد غد.. ومن باب التفاؤل حسب، صفحات كتاب ما.. بنشر شيء غير موجود؟ هل يمكن لاحد- مهما بلغت به الشحة والبخل- ان يضع امام ضيوفه الاعزاء، الذين شرفوه في داره بزيارة.. مرجوة وموعود بها.. بضعة اوان و صحون.. فارغة، لاسيما وقد حان وقت تقديم الطعام.. واشتدبهم الجوع ايما اشتداد.

على اية حال، لنقل انه لسبب ما.. ايضاً.. اذا جاز لنا.. او أبحنا لانفسنا ان نعتبر المقابلة وانا، شيئين.. حيين.. يعيشان.. أو غير حيين ولايعيشان، ضمن شكوك معينة، افتراضية او غير افتراضية، او ضمن يقينية صارمة جازمة فانه لايمكن بأي حال من الاحوال، ان نعتبر الكاتب نفسه، شخصاً افتراضياً، فهو رجل معروف، بشكل جيد، على نطاق واسع، بلا حسد، كما ذكرت ذلك، وعلى مستويات عدة. خاصة وعامة، محلية.. ووطنية، وابعد منهما بهذا القدر.. او ذاك.. فعلى المستوى الخاص جداً (لنقل المحلي، تحديداً) هو ابن واحدة من اقدم واعرق المدن الكردستانية. ومن اهمها.. إن لم تكن اهمها اطلاقاً، لا يسبب ثرواتها الطبيعية الغنية جداً.. حسب، وانما بسبب طابعها الديموغرافي والاممي.. وتميزها بالتأخي العملي والحقيقي والواقعي.. المتحقق على ارض الواقع، بين قوميات عديدة، واديان متعددة.. ومذاهب شتى.. من مسلمين ومسيحين.. ففيها الكورد والتركمان والكلدواشوريين والعرب والارمن، واليهود.. قبل تهجيرهم القسري الظالم.

يعيش الجميع في هذه المدينة، الموشورية الاضواء.. القوس قزحية الاجناس، في صفاء ووئام.. واخوة وتالف وإنسجام، دون تفريق او تمييز.. قبل ان تعمد السلطات العنصرية الحاكمة المتتالية، لاسيما بعد مؤامرة شباط الاسود، على الشعب والبلاد برمتها.. من بذر الشقاق.. والعنصرية، والشوفينية.. والطائفية.. القذرة بين ابنائها.. وتعمد الى افراغها من اهلها  واصحابها، وملئها بالاغراب والغرباء.. من شتى انحاء البلاد ظلماً وعدواناً..

ويكتوى هو (كاتبنا) بنار هذه السياسة الفاشية.. اربعين عاماً.. محترقاً بنار عشقه لمدينة الاثيرة.. ونار ابتعاده، او ابعاده القسري عنها..

على اية حال.. هو ابن هذه المدينة، اعني (.. ..) المنكوبة والمبتلاة بخصوصيتها الخاصة جداً، التي لا تكاد كتابة من كتاباته، تخلو من ذكرها، تصريحاً، وفي الغالب ترميزاً، فهو ابنها البار.. أماً واباً.. وجداً.. وجدوداً.. واجداد اجداد..

ولد فيها عام (.. ..) في محلة (.. ..) في الدار المرقمة (.. ..) رقمت بعد ميلاده بسنوات عديدة.. أبوه فلان بن فلان الفلاني.. وامه.. فلانة بنت فلان الفلاني.. وله من الاخوه والاخوات.. كذا عدداً.. ومن الشقيقات كذا عدداً..

بعضهم او بالاحرى معظمهم، ابناء وبنات، مايزالون فيها، الاحياء منهم يدبون فوق ترابها، ويتنفسون هواءها.. والاموات منهم يرقدون تحت ترابها.. وهم أو اكثرهم، مكثوا في المحلة نفسها.. اباء وامهات.. ابناءً وبنات.. احفاداً وحفيدات، بل في الدار الكبيرة نفسها التي كانت تأويهم.. قبل ان يفرقهم استقلال الابناء والبنات بالزواج وتأسيس أسر جديدة..

وقبل ان يشتتهم ايضاً، استغلال المستغلين الاقوياء منهم، الضعفاء والصغار فيهم.. و.. طردهم منها.. وكاتبنا وامه وشقيقته الصغرى من هؤلاء الاخيرين. ومايزال في المحلة نفسها بعض الاعمام والعمات.. وابنائهم وبناتهم، الخ.. الخ..

اما على صعيد الدراسة.. فلم يكن بالطالب المتفوق جداً، الملفت للنظر كثيرا.. ولكنه انهي دراسته الجامعية الاولية في احدى كليات جامعة بغداد.. متخصصاً في (.. ..) اما الوظيفة.. فبعد حصوله عليها، استحقاقاً، ولكن بعد شق الانفس، بسبب العائقات الامنية، لم يمكث فيها، الا شهرين، او اقل.. اذ تركها في زمن مبكر جداً، حين بات بقاؤه يوجب عليه دفع ضريبة حياتية ووجودية باهظة جداً، بعد الهجمة الجرادية الشرسة الاولى، على حد تعبيره، في الثامن من شباط الاسود، اشد ايام التأريخ سواداً، وهي اما ان يستحيل جراداً قذراً، يقرض الاخضر واليابس، من الزرع والنسل.. ومن الحجر والزهر.. ويحيل.. الناس، كل من يستطيع من الناس الى الجراد.. او ان يقتل تحت التعذيب.

وقد كان الخيار الثاني.. اهون عليه في كل الاحوال ولكن من يستطيع ان يتحكم في نفسه، او بنفسه، تحت ظروف لاانسانية..

ومع هذا وايا كان الظرف، يتحتم عليه ان يتصرف.. بما يميله عليه ضميره.. قبل كل شيء، وان لا يلحق تصرفه هذا.. ضرراً، قيد شعرة واحدة، باي من رفاقه واصدقائه والناس جميعاً..ولابد ان يحسم الامر بسرعة وجكمة.. فما كان منه الا ان يرفض وبقوة روحية ومعنوية عالية جداً، الخيارين معاً..

فما كان الوقت الذي يفر من بين يديه، ويهرب بالسرعة الضوئية، ولا الظرف العصيب الرهيب الذي يحيط به ليسمحا له بطول تفكير.. وتأمل.. ناهيك عن التردد لحظة واحدة، تذكر، ولا يدري كيف، او لماذا مقولة (لينين) التي سبق ان قرأها في قراءاته التي أدمن عليها.. والتي قالها عشية ثورة اكتوبر العظيمة.. التي باشراقة شمسها حل نهار جديد على البشرية كلها اسس تأريخاً اخر.. لمسيرتها.. (أمس لم يكن الوقت قد حان.. غداً.. يفوت الاوان.. الى الثورة.. الان..) مع انه لا وجه للمقارنه البتة بين الموقفين..

كرر مع نفسه.. بعد دقائق.. او ثوان.. "سيفوت الاوان.. .. وعلي ان اقرر. الان.. الان.. في التو واللحظة.. ولا ادع الاوان يفوت مهما كان الثمن.."

انه قرار.. بالنسبة اليه، لايقل خطورة واهمية عن قرار (لينين).. اذ عليه تتوقف حياته وحياة العديد من الاخرين، المؤملة، وخلاصه المتوقع.. سيمد فيها زمناً.. او.. او.. عليه ان يلقى نفسه بين انياب موت لئيم وبرائنه لاشك فيه اطلاقاً، قد يكون جسدياً، وهو الاهون.. او يكون معنوياً وروحياً.. وهو الابشع والاكثر رعباً وهولاً.. و.. عاراً ايضاً.. اذ سيظل يحمل على قدميه.. حياة ممسوخة.. يقضي.. عمره او ما يتبقي من عمره، يبحث عن سبيل للخلاص منها ومن عاره..!

اذن..؟ ما السبيل؟ ما العمل؟

القرار!.. اجل القرار.. انه القرار.. الوحيد.. ولا قرار سواه.. واستطاع.. باعجوبه، اختراق جيوش الجراد، الظلامية المنتشرة كالهواء الفاسد في كل مكان، وقطع مئات الكيلومترات في ذلك الزمن الوحشي.. والتحق، بعد مسيرة ايام وليال وايام وليال، بثورة شعبه، المندلعة شرارتها في كل انحاء كردستان.. وظل ثمة يقاتل الجراد.. حتى توارى.. ولو موقتاً، و... عود الى السؤال!

اذا كان الرجل موجوداً كل هذه الوجود المكثف.. العريض والواسع في الحياة الثقافية وفي الحياة العامة، فكيف نعده.. رجلاً افتراضياً؟ لاسيما وان وجوده، قد أمتد الى العشرات، بل المئات من الناس والصحف والمجلات والكتب.. وارشيفات الصحافة.. وفي ارشيفات المسارح.. وفي فهارس المكتبات العامة. ومكتبات الجامعات. والمكتبات الخاصة و.. باالتاكيد.. وبكثافة اكبر.. في تقارير رجال الامن والشرطة والمخابرات، في سائر العهود.. منذ اعتقاله، لاسباب سياسية، اوائل عام 956، وحتى تواري الجراد.. عام/2003 عن البلاد. الذي آمل.. ويأمل العالم كله ان يكون هذه المرة أبدياً.. وانقراضاً.. كلياً.. لهذه الحشرات المفترسة القذرة.. و.. استطراداً، للسؤال نفسه..

اذا خرجنا من نظاق مدينته (.. ..) وبلاده (.. ..) كلها فهو معروف.. الى حد لايستهان به، في سائر البلدان العربية، تقريباً.. من خلال اعماله العديدة ومنشوراته وعلى نحو أدق.. خلال اعماله المسرحية.. المعروضة.. فيها، مصر، السودان، تونس، الجزائر، المغرب، الكويت، الامارات، اليمن، البحرين، سوريا، الأرددن، و.. و.. و.. وايضاً.. من ارتباط اسمه بالعديد من الجوائز المرموقة التي نالتها اعماله الفنية..

وعلى نطاق اوسع فقد عرضت بعض اعماله.. وظهرت بعض كتاباته.. وبعض الكتابات عنه في المانيا، هولندا، السويد، الدانمارك، بلغاريا، امريكا.. و.. و.. في بلدان اخرى.. تخميناً لم تبلغني اسماؤها.. حتى الان..

كما كتب عنه وعن اعماله، عشرات، بل مئات المقالات والدراسات والبحوث.. وبعض هذه الدسارات، قدمت كأطاريج، في الجامعات لنيل شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.. وما تزال تقدم.. وتناقش..

كما صارت بعض كتبه.. مواد منهجية.. جامعية.. في بعض الكليات.. وللمراحل المتقدمة من الدراسات الادبية والنقدية.. بعضهم يفدون عليه, ويترددون، يزورونه بين أونة واخرى.. يستشيرونه.. يستأنسون برايه في موضوعات اطاريحهم.. ومناهجها، او في اخراج مسرحياته.. وبعضهم لا يفعل.

يرحب بالاولين كما ينبغي.. ويتبسط معهم في الحديث.. كل حديث.. الا الحديث الذي يعنيه، فيقتصد.. ما امكن الاقتصاد، ويتهرب كلما وجد الى التهرب، او الهرب.. سبيلاً لا يخل بشروط الزيارة او الضيافة.. ولا يحمل المقابل على (الزعل) ولايستاء من الاخيرين. لا بل، وحسب معرفتي، التي زعمت وازعم.. انها دقيقة واكيده.. به وبمزاجه.. اقول انه يرتاح للفئة الثانية اكثر، لا لانه يضيق بالاولين صدراً.. ولا لانه يبخل عليهم بوقته.. او لانه يأبى ان يرشدهم او يجادلهم.. بل لانه يسعده جداً ان يراهم احراراً في اجتهاداتهم حول اعماله.. وتعاملهم معها بالشكل الذي يرتأون، اذ يخشى ان يؤثر اللقاء بهم والتباحث معهم  والاطلاع على خططهم ومناهجهم البحثية، بهذا القدر او ذاك، ويبعدهم، قليلاً او كثيراً، عن الموضوعية التي ينشدها لهم.. ويقربهم، على نحو ما، من المجاملة.. على حساب الراي الحر.. والنقد العلمي، وهي الد أعداء البحث.. واعدائه شخصيا..

على اية حال..

الرجل، عاش في المدينة (الصغيرة الهادئة) التي فرضها عليه موقعه الوظيفي.. وقد استأنس اليها.. بل شغف بها.. وارتاح الى وجوده فيها. الراحة كلها وهو مايزال يحيا فيها ويعيش.. اعنى انه يكتب.. والكتابة بالنسبة اليه، منذ اختارها او اختارته.. غدت كل حياته.. بل الحياة كلها. واذا كان ديكارت يقول:

(انا افكر.. اذن انا موجود).. فهو يقول.. او بالاحرى.. لسان حاله يقول: "انا اكتب.. اذن انا أحيا".. وهو كذلك اينما يكون ويعيش ويحيا.

اذن.. وبعد سرد كل هذه المعلومات الدقيقة عن الرجل التي لاتشكل في نهايتها.. سوى جزء قليل مما تخترن به ذاكرتي من تفاصيل تستغرق مجلدات.. وبعد معرفتنا بالوجود الحقيقي للرجل، وبهذا القدر من الكثافة في الوجود المتنوع، والمتعدد في جوانبه.. لماذا اصر على اعتبار المقابلة او المقالة. افتراضية؟

اراني مطوقاً بالسؤال، من كل جانب، بالرغم من كونه سؤالاً واحداً.. اساساً.

لقد بات لزاماً على ان اقول، أو أقترب من الحقيقة.. او بالاحرى أقرها واعترف بها. لاسيما وانها قد باتت معروفة لدى الجميع.. وهي ان الرجل.. يتمتع بزهد غريب.. عن كل مايتعلق باسباب الشهرة.. واجنحة الشهرة.. اعنى عن كل ما يستعين به العديد من الناس، ويتوسلون، في تسلق الشهرة، ولهذا.. فهو بالرغم من كل ماذكرت، وما اعرف، شخصياً من فيض ابداعه، يكاد يكون غير معروف الا عند القلة.. وقد صدق العلامة الفقيد على جواد الطاهر.. حين كتب عنه ذات مرة.. .. (انه كاتب معروف لدى الخاصة، ولكن تواضعه الشديد من اسباب عدم شهرته.. عند العامة..) يقول نزار قباني: (لايكفى ان يكون الشاعر، مهماً، وعظيماً وكبيراً، وانما لابد ان تكون له.. او يوظف لنفسه وزارة.. للدعاية والاعلان). واين هذا الكلام.. من حال صاحبنا..؟

على اية حال. فان انزواءه المبكر.. وتحصنه.. بالعزلة وابتعاده عن اشغال اية وظيقة, وقد عرضت عليه اعلى.. الوظائف.. وأدسمها! حسب معرفتي اليقينية.. ولكنه ابى ورفض، أو بالاحرى.. اعتذر، بادبه الجحم واصراره العنيد.. على الحرية والتنفس خارج اقفاص الوظائف واغلالها.

احسب ان ما أحيط به.. او احاط نفسه به، على نحو ادق.. قد زاد من قوة حصانته الداخلية.. وصمته في سنوات التلوث.. التي اسقطت الكثيرين.. ولوثتهم. بل.. لوثت حتى الهواء.. من حوله.. تم ان اصراره العنود في الابتعاد عن الاضواء.. ساهم هو الاخر، في ابقائه خارج متناول انياب الذئاب.. وهيأ له.. المناخ المثالي الذي خطط له.. للانتاج بصمت، و.. حرية.. وعلى وفق رؤاه الابداعية حسب.. دون السقوط تحت اي نوع من انواع التأثير، او الترغيب، والترهيب معاً..

نادرة جداً.. هي لقاءاته الصحفية.. والاندر منها مقابلاته الاذاعية والتلفزيونية.. وسواها مما الف عليه الكتاب، الاعلى منه شأناً.. والاقل منه ابداعاً وانتاجا، باشواط، من ندوات.. او القاء محاضرات.. او اجراء حوارات، مباشرة او غير مباشرة، مع جمهور القراء المحبين، وغير المحبين، على الرغم من شدة الحاح الاصدقاء والمحبين له.. وعلى كثرة الطلبات من جهات رسمية وغير رسمية..

وقليقة ايضاً، بالقياس الى نصوصه الابداعية، مقالاته، او بحوثه النظرية، التي اعتاد الكثير من الكتاب تدبيجها، ونشرها في الصحف والمجلات، على الرغم من ايمانه وتأكيده الشخصي على اهمية هذا النوع من الكتابات وضرورتها.. ايضاً..

واذا كان.. ما تقدم من مواقفه، او بعضها على الاقل، مفهوماً، لاسباب ذاتية، تتعلق به شخصياً.. وموضوعية يفرزها الواقع.. ويحمل قدراً ما من المبررات، او على الاقل، من أسباب لاقناع نفسه، او لاقناع.. عدد قليل من المقربين منه، ألذين يعرفونه عن كثب، فان له مواقف  آخر.. او حالات اخرى، تصدر عنه.. تبدو كانه قد اتخذها، الا فيما ندر، نهجاً ثابتاً في سلوكه العام والخاص، واسلوب تعامله، مع الناس والاشياء من حوله.. لايمكن ان تقبل.. ناهيك عن ان تقنع احداً، دون ان استثنى حتى نفسي، انا الشخص الافتراضي الذي يسطر هذه الصفحات عنه، والذي اعتبر نفسي الاقرب اليه.. والا درك والاعلم به من سائر الخلق.. وهي امتناعه شبه التام.. لا ترفعاً ولا تواضعاً، ولا عجزاً، عن الرد على ما يكتب عنه وعن اعماله، او الدخول في سجالات او مناقشات مع الذين يكتبون، على الرغم مما في بعض هذه الكتابات.. من شطط.. وهشاشة.. وخروج على الحقيقة واجتهادات خاطئة.. وفهم ساذج مما يسهل، ولا شيء اسهل من دحضها.. هذا في حالة افتراض حسن النية في كتابها.. واعتبار المسألة تنطوى على الطيبة ولا تعد رداءة في الفهم او سوءاً في التحليل والاستنتاج.. ومحدودية في المعرفة.. والتمكن من النقد..

ولكن ليست كل الكتابات التي تكتب عنه تنتمي الى هذه الفئة الصالحة! وهنا.. تكمن مسالة اختلافي معه.. اذ ان بعضها وكتابها.. ينطلقان من سوء نية مسبقة فتأتي كتاباتهم طافحة بالتشويه.. والافتراء.. وتقويل اعماله.. ما لم تقله.. ولم يقله هو، وما انزل الله ولا الشيطان به من سلطان. الا انك تراه، وبالرغم من ذلك، هو هو حاله مثل حاله مع الاولين.. وموقفه ازاءهم موقفه نفسه مع اولئك،مع انه قادر كل القدرة، وبوسعه تماماً، ببضع كلمات حسب ان (يفلش) كل تلك الكتابات ويخزي اصحابها ومدبجيها..

في ندوة نقاشية، أقيمت في احدى العواصم العربية خارج العراق.. على اعقاب عرض احدى مسرحياته هناك كانت مخصصة.. لمناقشتها.. فنطق الجميع.. وسكت صاحب الشأن، واذ توجه اليه اكثر من واحد باكثر من سؤال، ان كان لديه شيء يود قوله.. فتنحنح.. وتهيأ للقول.. واستبشر محبوه الخير. اخيراً سيخرج "ابو الهول" من صمته ويتكلم، وانفتحت، على اخرها.. الاذان والاذهان وااعيون.. فقال:

"نعم لدي شيء.. وربما اشياء.. ساقولها.."

فتعلقت بشفتيه.. العيون.. ولكنها سرعان ما ارتدت.. ساقطة في خيبة الامل التي يتوقعها كل من يعرفه.. حين اضاف.

"بيد اني.. اود ان اقولها في نص جديد.. أولاً..

وثانيا: فيما يتعلق بمناقشات الاخوة.. واختلافاتهم مع بعضهم.. ومع النص.. او حوله فهم احرار.. واني مثلما منحت نفس الحرية الكاملة والتامة في الكتابة ارجو من الاخوة جميعاً.. ان يمنحوا انفسهم اضعاف اضعاف تلك الحرية.. في ارائهم.. ووجهات نظرهم حول أعمالي"

وعاد (أبو الهول!!) الى صمته..

و.. صعق كل من لا يعرفه.. عن قرب.. أما انا فلم افاجأ ولم اهتز حتى.. اذ تذكرت موقفاً سابقاً له.. جرى وفي ندوة نقاشية لاحدى مسرحياته ايضاً.. اذ تعرض لها احدهم لها بسيل من الاكاذيب والافتراءات.. حتى حسب الحضور ومن جملتهم (ذلك الشخص نفسه) انه سوف ينهض صاحب الشأن ويصفعه.. ولكن برز اكثر من واحد.. وصفع الشخص.. طبعاً.. عبر الجدال والنقاش.. اما هو.. واذ تحول اليه الحديث فلم بأت على ذكره بتاتاً.. واهمله تماماً.. وفي قرارة نفسي اكبرت موقفه.. (فالشخص) كان اتفه من ان يستحق.. اية انتباهة او التفاتة منه.. وتحدث قرابة نصف ساعة.. والشخص يغلي ويتوقع كل شيء.. الا هذا الاهمال.. ونعم ما فعل.. "اقتلوه بالاهمال".. كما قال شكسبير.. وصدق فيما قال..

أمل الا يحملن كلامي هذا.. على الاعتقاد، او الظن بان الرجل، فظ غليظ.. عبوس قمطرير.. ابداً.. انه انسان دمث طيب الخلق.. حسن العشرة.. يستقبلك، اذ تلتقيه، بالترحاب والود والمحبة.. كريم الضيافة، سخيتها، وحتى حين تكشف له عن مقصدك.. او غايتك من زيارته في بيته.. بانك تبغى اجراء لقاء صحفي، او مقابلة اذاعية.. او تدعوه الى القاء محاضرة او اقامة ندوة.. او تروم كتابة مقالة، او دراسة او بحث، او اطروحة جامعية عنه.. بجيبك بادبه الجم وخلقه الرفيع وحرصه الشديد الا يدعك تشعر باي قدر مهما ضئل. بالاحساس بالخيبة او الشعور برفض تلبية طلبك.. "ارجول اسمح لي ان اعتذر.. فانا قد اعرف الكتابة الى حد ما.. ولكني ولكني لا اعرف.. او على الاقل.. لا احسن الحديث عما اكتب.. فاعفني.. واذا اردت ان تكتب عني شيئا اي شيء، فلك الحرية كلها.. دون ايه حاجة لان ارى او اقرأ.. ما تكتب.."

ولا تملك، اذ ذاك، الا ان تغلق جهاز التسجيل.. وتوقف معدات التصوير.. وتعيد القلم.. الى جيبك.

هنا.. وانا ماازال بصدد ذكر امتناعه عن المقابلات.. واغلاق ابوب نفسه دونها.. اجدني مضطراً ان اسوق واقعة خرج منها عما اعتاده والزم به نفسه.. وقد سبب له هذا الخروج الما شديداً.. وجرحاً في الروح.. لايجد سبيلاً الى شفائه والبراء منه.. اذ عاد عليه بنتائج وخيمة.. يعدها كارثية. ليس، بسبب الخسارة التي أصابته في وثائق هامة عنده حسب.. وانما ايضاً.. وبقدر اكبر لما تعرض له من خيانة و خداع.. من قبل من جاء بلبوس الصداقة والمحبة.. و.. فتح له ابواب قلبه بالمحبة نفسها التي فتح له.. ابواب بيته.. ومكتبه.. واطلعه على الكثير الكثير من اوراقه الخاصة وصوره و.. و.. و وثائقه ومخطوطاته و و الذي حدث، أن احد اصدقائه المقربين، ممن يعمل على صعيد المسرح والترجمة، بعض الاحيان.. وهو رجل صادق وامين يجله صاحبنا ويحترمه ويحبه لنقائه الى حد بعيد.. اخبره ان صديقاً له يدرس السينما وهو بصدد تصوير فيلم وثائقي عنه.. وعن بيته.. وعن عاداته.. في الكتابة.. اضافة الى تصوير اوراقه ووثائقه و.. و.. فاعتذر صاحبنا كالعادة.. ولكن الحاح المقابل وحرصه هو على عدم جرح شعوره.. جعله ان يوافق، على مضض.. وفعلاً جاءا الى بيته في اكثر من زيارة.. ولب لهما كل ما يطلبان.. او يطلب طالب الدراسة ذاك.. ولم يرفض شيئاً ولم يمتنع عن شىء أي شيء.. ووضع في خدمته كل ما يهمه ان يطلع عليه.. لأنجاح مشروعه، الذي قال انه قد يقدمه.. كاطروحة تخرج، او على الاقل يحتفظ به في فرقة مسرح (.. ..) كمادة ارشيفية..

وتكررت الزيارات وتعددت وهو يقابلهما بالمودة نفسها وبحرارة الاخ الحقيقي..

في واحدة.. او اثنين من هذه الزيارات.. اصطحبا معهما ثالثاً.. كان يعمل في صحافة السلطة. أعني ينشر فيها ما يعن له.. مثلما نشر مقابلات صحفية.. ومقالات عادية في بعض الصحف الخليجية.. والاردنية.. و..

رجا الصحفي. صاحبنا وكان قد رجاه سابقاً مرات عديدة ان يجري معه مقابلة او مقابلات صحفية.. وكان طبعاً.. الامتناع من جانبه.. ضمن المنهج العام الذي كان قد التزم به مع كل صحفي.. وان استجابته.. لصناعة مادة ارشيفية عنه لاتعني خروجه على قاعدته التي الزم بها نفسه طواعية واختياراً..

ولكن يبدو ان الحس النفعي في الصحفي ظل ينبح في داخله ويعوي حتى دفعه الى نشر بعض مادار في الجلسات الاعتيادية.. من احاديث مع صاحبنا من قبل الضيوف الثلاثة.. او اثناء تجوال.. على ضفاف النهر.. في احدى المجلات الخليجية.. زاعماً أنه لقاء قد جرى مع الكاتب.. ولم يلتزم حتى بآمانة النقل.. حيث.. اضاف ولفق.. ماشاء له خباله.. المريض المنصرف كليا الى مايجني وينتفع من الصحيفة المذكورة.. من أجور رخيصة.. يفترض ان يترفع عنها كل من يمسك قلماً. بل وتمادى في غيه.. اذ نشر، او بالاحرى، لفق خبراً اخر كما نتبين فيما بعد.. بانه قد جرى حفل تأبيني لاحد أعمدة المسرح والسينما في العراق.. وقد حضره.. الكاتب الكبير (..) وبضع صفات اخرى.. سبقت اسم صاحبنا.. مع انه لايدري اساساً بافامة حفل كهذا.. ولم يبلغه به احد، بل والا دهي وألامر.. والاكذب.. ان حفلا كذلك لم يقم اساساً.

من يصدق هذا؟ من يتنازل ويصدق اية كلمة او اي حرف يمكن الى يصدر عن صحفي لفاق وكذاب ولفاط.. الى هذا الحد..؟

اما الاخر.. السينمائي.. الطالب، ألمؤدب، الخلوق المهذب في الظاهر.. فقد اخذ ما شاء من الوثائق واشرطة فيديو وصور.. ومؤلفات.. و.. و.. اعاد بعضها. فقط..

واحتفظ بالبعض الاخر، المتمثل بثلاثة اشرطة فيديو تصور صاحبنا في لقاءات نادرة جداً.. وفي احتفاء خاص جرى له.. في مناقشة طلبة احدى الكليات لواحدة من مسرحياته.. بحضوره شخصاً.. واسهامه في النقاش.. وهو امر.. نادر الوقوع.. كما ذكرت..

لو كانت هذه اللصوصية، سرقة افكاره من قبل الصحفي ونشرها دون اي علم من صاحب الشأن، ناهيك عن موافقته على شكل لقاء.. باهت.. وتافه.. منسوب اليه، ونشر كذبة.. اخرى عن الحفل التأبيني.. الى جانب سرقة اشرطة الفيديو.. بهذه الطريقة الوسخة.. وهي كلها من الاعمال اللصوصية التي يعاقب عليها القانون الجزائي والاجرامي، لا قانون الملكيات الفكرية حسب، لو شاء صاحبنا ان يحرك دعوى ما على هذا المستوى، لوصمهما كليهما فوق عارهما.. بعار جريمة السرقة وخرق حرمة البيوت والاعتداء الجبان.. على ملكية الغير.. لقاء مكاسب.. رخيصة.. تشوه وجه الصداقة الناصع.. الذي لبساه كقناع خداع منافق..

اقول، لو جرت هذه الواقعة القبيحة حقاً في مقتبل حياته الادبية.. لوجدنا فيها اكثر من مبرر وعذر.. للامتناع عن كل انواع المقابلات.. ولكنها جرت من السنوات الاخيرة.. الاخيرة جداً.. اواخر عام 2002 واوائل عام 2003 الامر الذي زاده.. تمنعاً..واحكاماً للعزلة حول نفسه، وتمسكا.. بنهجه.. والتزاماً بما اختار منذ بداية حياته.

طوال سنة دراسية كاملة.. درس طلبة احدى الكليات في الجامعة، واحدة من مسرحياته، في مادة دراسة الاعمال الدرامية الادبية وتحليلها.. لم يذهب مرة واحدة الى الكلية.. ليرى او.. يسمع.. او يطلع.. على كيفية دراسة مسرحيته تلك ويستمع الى الاراء واساليب المناقشة من قبل الطلبة والاساتذة، معتذراً عن الدعوات العديدة التي جاءته بهذا الخصوص، "أخشى ان يسبب وجودي الحرج.. للطلبة او الاساتذة.. ويوثر بشكل ما على سير المناقشات والاراء الحرة حولها.. دعوهم يفسروا ويفكروا بحريتهم.. كما يشاءون ويريدون".

ولكنه زارهم في حفل تخرجهم. وتحدث اليهم.. وابتهج بهم وبارائهم، بغض النظر عن كونها مع او ضد المسرحية.

وهذه الزيارة.. و ما تخللها من نقاشات واحاديث وسين و جيم و.. و.. من الحالات النادرة التي حضرها وقد بادرت الكلية يتوثيقها في شريط فيديو.. ولكن السيد السينمائي الهمام الذي استعاره، مع ما استعار لم يعده اليه ثانية..

مرة اخرى تطل الاسئلة بروؤسها وتصرخ وهل أخفتها ابداً، ولا املك ازاءها الا الانجرار وراءها والاسجابة لها ومحاولة ايجاد.. مايسكتها.. ولو مؤقتا..

ما السبب في رفض، عفواً، قد تكون الكلمة هذه خشنة.. بعض الشيء.. لا تليق برقة الرجل وعذوبته.. اذن لاقل في اعتذاره.. او.. او.. الافضل ان اقول في عزوفه الدائم.. او شبه الدائم.. عن كل ما يتمناه الكثيرون من الكتاب؟

السبب، في تصوري وحسب فهمي له، لا يكمن فيما يقوله ويعلنه دائماً.. من انه.. لايجيد الحديث.. قدرما.. يجيد الكتابة.. وهو ما ذاعه بنفسه عن نفسه وساهم بقوة في نشره.. لكي يتجنب الحاح من يبغي منه.. او معه اجراء احاديث.. حول اعماله او تجاربه في الكتابة والحياة. (وهل له حياة خارج الكتابة؟).

لانه في المناسبات او المرات القليلة.. التي تحدث فيها مع صحفي.. او مذيع.. او في محاضرة او ندوة.. قد جاء حديثه عكس ما يدعى ويزعم.. ويتهم نفسه، مثالاً طيباً للثقافة والمعرفة.. والدقة واصابة الهدف.. اما في المناسبات الاعتيادية، أقصد في جلسات الاصدقاء والاحبة، وما اكثرها حيث لا قلم مشهر.. ولا صحفي متربص، ولا كاميرا ترصد.. ولا لاقطة مذيع تهم بالانقضاض على كلماته واحاديثه.. فيكاد يكون هو المحور.. للاحاديث كلها، او معظمها، وهو المساهم في اغلب ما يدور من نقاش وكلام و.. و.. و..

اذن لماذا؟ مع انه هو القائل.. ان الحديث عن التجربة و عن الكتب والقراءات والناس.. سواء أجاء كحوار صحفي.. او لقاء اذاعي.. او امام الجمهور.. ابداع لا يقل شأناً عن ابداع النص نفسه، وفن.. يتمتع بكل جمالية الفن ودوره في اثراء المستمع.

هل، مرة اخرى تترى الاسئلة، هل يعود السبب في  ذلك الى الخجل المتأصل في الرجل، ام الى الاستبطان الدائم للذات.. اعني الدخول الى النفس، والتعامل مع.. الداخل اكثر من التعامل مع الخارج.. مع ان الداخل والخارج.. عنده، كما يقول، مترابطان.. في علاقة جدلية متينة، احدهما يؤثر في الاخر.. ويتأثر به؟

ان علامة الاستفهام "لماذا؟" و كل علامات الاستفهام ذوات المعنى نفسه، تظل تلاحقه.. وتلاحقني.. وتظل.. تتناسل وتتوالد.. ولا تتوقف؟

يقول في خاتمة احدى رواياته.. عن مدينة الحلم التي ما يني يحلم بها.. (هي في الداخل، دخلت الى الداخل.. فمتى تخرج الى الخارج.. متى؟ اه.. متى..؟).

واسال انا الاخر، الشخص الافتراضي، متى.. يا ترى.. متى؟ ثم ما سر هذا النكوص الى الداخل.. وهذا النفور المريع من الخارج..؟ و.. هل بوسع هذه المقابلة الافتراضية ان تنفذ الى الداخل.. وتكشف ولو بحدود، بعض ما فيه؟

عسى و لعل.. مع انني اشك.. ولكنها ستبقى محاولة، على اية حال، مع التأكيد ان السؤال سابق لاوانه، لاسيما وانا لم اشرع في المقابلة، حتى الان. ومن يدري، فقد لا اشرع بها ابداً، واظل في حالي.. في حالي.. كما انا.. احوم حولها.. ولا اطرق حتى بابها..؟

وتبقى "لماذا" اللعينة ملحاحاً وحية. وكل ما تقدم لا يقتلها، بل يزيدها هيمنة وسطوة، على، ويجددها على الدوام، لماذا هذا الارتداد الدائم الى الداخل..؟ هل يكمن السبب في ذلك اليوم الاسود الذي اخترقه من الخارج.. حتى النخاع.. وتأخبط، في الداخل مالئاً اياه.. بالكامل. يوم 8 شباط 963، اشد ايام.. بل بالاحرى اشر ليالي التأريخ.. حلكة و عتمة و سواداً.. وهو لم يزل شابا يافعاً، لم يعبر عقده الثاني الا بسنتين.. فابتلع من عمره وعمر شعبه وبلاده اربعين عاماً.. يصفه هو "انه ليل كل ثانية فيه دهر. وقد.. توارى فيه القمر خجلاً وانتحرت النجوم كلها اشمئزازاً.. ولم تعد الشمس تخرج على العالم..".

تلك السنوات الوحشية التي عاشها في مناخات الدم والقتل.. والاغتيال.. والسقوط الاخلاقي والذاتي والانساني.. للبعض، جراء التعذيب، وتحولهم الى مسوخ.. يخدمون السلطة الفاشية.. وبينهم العديد من الاصدقاء والمعارف، كان أشد وقعاً على روحه الغضة من الموت اليومي الذي كان يفترش الشوارع والازقة والدروب.. ناهيك عن السجون واقبية التعذيب الرهيبة والسراديب الفائضة بالجثث.. جثث خيرة ابناء الشعب و بناته.

كل ذلك قد الجاه الى ان ينطوي على نفسه، داخل نفسه.. وان يسرح بخياله المجنح.. ويبني عوالم ودنى، هي الاخرى تسبح في الدم.. تمتليء بالقتل والجثث.. والمسوخ ايضاً، في محاولات لاعادة انشائها في الذهن.. كقصص وروايات ومسرحيات باسلوبية خاصة وتحت اشكال ابداعية، تثير وتحرض القاريء على مقاومتها.. وتدفعه الى العمل، الفردي، او الجماعي، في سبيل تغييرها.. وخلق العالم البديل، الذي تتسم فيه الامور والاشياء.. بقدر اكثر من الجمال.. والعدالة.. والاستقامة و.. والشجاعة ايضاً.

والايام او الاسابيع التي عاشها بعد حلول الطاعون او هجوم الجراد الشرس، -كما اسماه هو-  جعلته بين فكى الموت او قاب قوسين منه اكثر من مرة.. فضاقت به الدنيا، على اتساعها.. وحلق فوق رؤوس الصيادين، صيادى البشر والطير والزهر.. الجلادين المتوحشين، القتلة المحترفين.. وبنادقهم ورشاشاتهم.. طائراً الى ارض اخرى.. بحجم القلب و ومحبته وضرورته للحياة وبسعة فضاءات الروح والحرية.. الى كردستان.. قال عنها في احدى رواياته (لقد حنت علينا جبالها و وديانها وسماؤها حنان الام على فلذات اكبادها.. وكان بيننا وبينها.. عهد لا سبيل الى نقضه.. ان نحيا معاً.. او نفنى  معاً.. بل ان نحيا.. ونحيا حسب.. نحمي هذه الارض الطيبة.. وجبالها.. وشمسها.. مثلما تحمينا ونحتمي بها..".

مع ان الحياة هناك. بين الجبال والوديان، وفي الكهوف والمغاور.. لم تخل هي الاخرى.. من اصابع السلطة الدموية ومن الخوف والموت والدمار والحرائق التي تشعلها طائرات الحكومة المحتلة وجيوشها وجحوشها.. بشكل يومي.. ولم تخل ايضاً.. مما هو اد هى وامر.. واوجع على القلب والروح من صراعات الاحزاب، فيما بينها.. التي لم تكن كلها بريئة.. ولا خالية من روائح الدم.. بقصد تصفية حسابات.. قديمة.. تعود جذورها الى ما قبل سنوات، وترمي الى تصفية بعضها البعض.. والغاء وجود الاخر تماماً.. الامر الذي كثف، اضعافاً  مضاعفة معاناته، واوجاع روحه والام نفسه وجسده.. وحيرة عقله ووجدانه.. وكومها عليه فوق احزانه ومخاوفه.. الموت والقتل المتوقع، في اية لحظة، الذي لم تنحسر ظلاله كليا.. ولا اختفت اشباحه.. ولا.. توقف صانعوه.. وهذه المرة بين الاخوة انفسم.. اخوة النضال والمصير المشترك، الذين استحالوا في بقاع غير قليلة من كردستان نفسها، الى (اخوة اعداء) يحاول البعض الايقاع بالبعض.. يسعى البعض الى اقتناص البعض.. فازداد.. احساساً.. بالوحدة والعزلة.. والغربة.. بالرغم من انه.. يحيا و يعيش.. وسط رفاقه واصدقائه واهله.. و فوق ارضه.. وتحت سمائه.. التي ركب اجنحة الموت.. وتحدى الموت.. للوصول اليها.. فدخل قلمه يتنفس من خلاله.. يقتات من ايات ابداعه.. يبني به عوالمه.. يكتب ويمزق.. يكتب ويخفي.. يكتب ويكدس.. يكتب ويدفن.. يكتب.. ليحيا.. ليعيد، ما يستطيع، التوازن بينه وبين الخارج.. ثم صار يحيا.. ليكتب.. ليعيش، ليكتب، خائضاً بشجاعة.. كل ما يتطلب ذلك ويستوجب من صراع مع النفس.. ومع الاخر.. مع الداخل.. ومع الخارج.. بلا كلل.. ولا مهادنة.. ليعلن عبر الكتابة، سلاحه الوحيد وصوته الوحيد.. موقفه.. من الاحداث والاشياء حوله، بصراحة ووضوح.. مستعينا بالرمز الشفاف تارة.. وبالفن و مكره و ذكائه وشجاعته.. دائماً..

على ان هذه التجربة، على الرغم من قسوتها ومرارتها، التي وقعت عليه، وهو في هذا العمر الغض.. مع الجراد.. او بالاحرى مع بعض البشر الممسوخين جراداً.. ثم فيما بين اخوة اعزاء عليه، ورفاق درب ومصير أصلاء.. اختلفوا حول قضايا.. ثانوية.. عاني هو منها وبسبها الكثير.. اذ ترافق بالضرورة.. مع هدر أليم.. لطاقات الجميع.. لم تكن معاناته الاولى، وليست.. بالتأكيد، الاخيرة..

فقد تعرض للاعتقال.. وهو دون هذا العمر بكثير.. لم يكن قد عبر نصفه الا بسنتين او ثلاث. اذ داهمت شرطة أالشعبه الخاصة) كما كانت تسمى في العهد الملكي.. بيته. واقتحمت غرفتهم الوحيدة، التي ينام فيها مع امه وشقيقاته.. ويكدس فيها كتبه ومجلاته وأوراقه.. والقت القبض عليه.. وعلى بعض كتبه التي اعتبر تها (ممنوعة) وبعض اوراقه الخاصة.. من محاولات كتابية، في القصة، ومن رسائل مع اصدقاء له خارج المدينة.. ومن صور.. و.. و..فانتزعه من بين اهله مقيد اليدين.

وقفت الاخوات والوالدتان.. دامعات عيونهن.. بلا دموع.. نائحات.. منتحبات.. بلا اصوات نحيب.. في الوقت الذي كان يحاول ان يبتسم.. وان لايدع اي مظهر.. من مظاهر الخوف او الضعف يظهر على ملامحه.. وباحساس المراهق ذي الستة عشر عاماً.. الذي لايعرف حتى الان.. ماذا يعني الاعتقال.. ماذا يعني التوقيف.. والمحاكة.. والسجن.. لاسيما في التهم السياسية، التي تتعلق بأمن الدولة.. ومخاوف الحكومة.. يقول في نفسه.. وهو يفكر انذاك، دون اي تقدير حقيقي لخطورة الموقف.. ان يحيل الامر كله، او بعضه.. الى قصه او.. رواية.. وضع عنوانها مسبقاً وكان (وعرفت يداي القيد) كان مفعماً بالمباهاة.. اكاد اقول بالزهو والغرور.. كما لو كان قد نال جائزة.. او حقق شيئاً عظيماً.. و.. ممتلئاً بثقة تامة في نفسه وروحه.

وكانت النتيجة انه.. حوكم.. وعوقب.. بتسعة اشهر، مع وقف التنفيذ لمدة خمس سنوات.. لصغر سنه.. ولانه (يفسد) هكذا جاء في حيثيات الحكم.. اذ دخل السجن في مثل هذا العمر.. ثم.. جاءت ثورة 14 تموز.. لتلغي كل.. الاحكام.. والعقوبات السياسية، وتلقي بها في مزبلة التأريخ ويعود هو، مرة اخرى، الى مقاعد الدراسة.. ويواصل تعليمه المدرسي.. ودراسته الجامعية..

الا ان كل ما لاقاه.. وهو في هذه السن المبكرة، من عذابات الاعتقال والتوقيف والتحقيقات الامنية.. ومن ثم الحكم والفصل من المدرسة و.. و.. و.. لايعادل حسب قوله فيما بعد.. قطرة واحدة.. من عذابات الروح والجسد ايضاً.. التي اغرقته في بحارها بعد 8 شباط الاسود.. مع انه لم يعتقل ولم يسجن وبالتالي لم يعذب ولم بصبه اي انهيار مما اصاب العديد من اصدقائه ورفاقه.. اذ حمته كردستان وجبالها من كل ذلك..

ان ثواني من الام النفس وغياب الاحبة القسري بتلك.. الاساليب الوحشية القذرة.. التي بلغت منتهى ما تبلغه القذارة.. والوحشية.. كانت عليه اشد وقعاً واعمق جروحاً.. من مصائب البشرية واوجاعها كلها..

هل نجد في كل ما سبق.. او في بعضها، سبباً اخر، او اسباباً اخر.. لاستحالة.. او على الاقل صعوبة ومشقة اقتحام عالم الرجل وحمله على كشف دواخله.. عبر لقاء ما.

الا تراني.. عزيزي القاري –ازاء حالة عصية كهذه، مضطرا اشد الاضطرار واقساه.. ان اختلق.. او افترض مقابلة.. مع الرجل استجابة.. لالحاح رغبة قوية عارمة، داخل نفسي، لا املك الى قبرها.. ولا تجاهلها.. ولا حتى كبتها او تاجيلها سبيلاً.

كلي امل ورجاء الا اكون قد وضعت على لسان الرجل.. شيئاً يخل بضميري..

واذا حدث وجرت على لساني عبارة واحدة، او كلمة واحدة حسب، لا تنتمي الى الحقيقة، او تدخل ضمن ما يسمى، التلفيق او الافتراء على الرجل.. فلتعنى السماء والارض.. واني لأرجو –بل اتوسل الى كل واحد يعرف ويحترم ابداعه، اذا عثر على ما يخل بالصدق.. ان برجمني بحجارة، حجارة واحدة حسب.. واني واثق اني بعد ذلك ساغدو جبلاً.. شامخاً.. عالياً.. لا يقل علواً وارتفاعاً و وضخامة عن اي جبل من جبال كردستان التي حمت لنا كاتبنا، من انياب الذئاب واقدام الخنازير، و.. قوارض الجراد.. ولكن شتان ما بين الجبل الذي ساغدو.. وبين تلك الجبال الشم الأباة.. بين ما جبل مصنوع من اللعنات.. وبين جبل او جبال هي عنوان الرجال.. وكان بينها وبينهم.. ومازال، وسيبقى.. عهد الرجال.. لا ينقضه ولا يخل به الا غير الرجال. الامن لايمت الى الرجولة بصلة.. وبالرغم من تثتي التامة بنفسي، باني لست من هولاء، ولن اكون.. فاني مازال اتهيب.. واتخوف.. ويزداد تهيبي وتخوفي كلما اقتريت من الموضوع خشية ان اضطر.. او اغفل عن نفسي وعن قلمي.. او ياخذني حماس ما يسلبني من نفسي.. ويدفعني الى قول ما لم يقله الرجل.. وقد لا يكون ذلك بالضرورة.. خلاف ما يريد هو قوله ولكنه يبقي امراً لم يخرج من فيه.. و لم يلفظه لسانه.. وهنا تمسك بخناقي.. شئت او ابيت، طوعاً ام كراهية.. المسألة الاخلاقية وتردع قلمي وتردعني.. من ان يسير. بهذا الاتجاه الذي لا ارتضيه لنفسي.. ولا اظن.. ان ثمه احداً يمتلك ضميراً اديباً.. يمكن ان يسمح لنفسه.. ان يسير باتجاه كهذا.

اذن ما العمل؟ مادامت هذه الخشية، اعني الوقوع في اختلاق مالم يقله, ولوكان بدافع حسن النية، قائماً.

اظن.. ان لا عمل.. غير مغادرة هذا المشروع الذي بدأته بحرارة و حماس شديدين.. وسودت كل تلك الصفحات السابقات للتهيئة له، والتمهيد الى وضع اللبنة الاولى لأجل اقامته على رجليه.. مدركاً، وغير قادر على تجنب كل ذلك التكرار الذي سادها.. حد الاجترار.. والملل.. وشفيعي.. الوحيد في المشروع كله.. اعني مشروع اجراء اللقاء معه، ليس بالتأكيد، بحثاً عن شهرة ما تاتيني عن طريقه او بواسطته فاني، حتى النهاية، كما كنت منذ البداية، مصر الا اعلن عن نفسي، طبعاً ليس خوفاً من شيء، او من احد..

وانما.. هكذا.. لرغبة ذاتية تستبد بي.. وتحرك قلمي في هذه الطريق.. وعلى هذا الاسلوب.. لتصوري.. بانه قد يكون مدخلاً علمياً وعمليا، للدخول الى عوالمه.. من داخله هو.. أعني من لسانه.. ومعرفته باسرار كتاباته.. بالشكل الذي لا يعرف احد سواه. بمن فيهم.. انا الذي أزعم اني الاقرب اليه والألصق به والاعرف بما يسر ويعلن..

ولوكان اللقاء.. قد تم.. ولم يدخلني الياس، او بالاحرى يردعنى عنه وانا لما ازل في بداية الطريق، لكان، قد قدم.. خدمة جلية، للقاريء، ومعرفة خاصة، ليس لسيرة كاتب حسب.. وانما ايضاً، لقضايا.. ابداعه وخفاياها مما يشكل عوناً، ليس لدارسي ادبه فقط، وانما ايضاً.. بشكل من الاشكال.. لادب مرحلة.. على جانب كبير من الاهمية من الناحية التأريخية والاجتماعية والسياسية والابداعية ايضاً.. فالرجل يكتب منذ ما يقارب نصف قرن.. شهد من المتغيرات والصراعات الكثير الكثير.. وقد عاشها هو كلها، حتى النخاع، ليس كاتباً لها.. او خلالها بالاصح، حسب.. وانما قد عاشها حياة.. عملية واقعية وبفعالية استثنائية، مشاركاً فيها ومساهماً في احداثها.. ثم هاضماً كل ذلك، ومتمثلاً.. اياه.. ومفرزاً، ادباً او كتابات متنوعة اقل ما يقال عنها أنها ذات نكهة خاصة تختلف عن كتابات غيره.. وهنا.. لا اقصد افضليتها على سواها.. ولا تخلفها.. وانماً اؤكد.. على تميزها فقط.

وليس بالضرورة يكون التميز لصالح المتميز.. دائماً وبصورة مطلقة..

على اية حال.. وبناء على كل ما سبق.. اجدني مضطراً الى ان أترك المشروع.. واعلن عن اسفي الجم.. ان كان هذا الاسف مجدياً لتضيع الوقت والورق معاً.. وقت القاري الثمين.. والورق التجاري غير الرخيص.. بيد انى رجل عنود.. متمسك بمشروعي الى حد النهاية.. يقال ان السائر في طريقه اذا اصطدم بجدار صلب امامه، عليه ان يثقبه.. وينفذ من خلاله واذ عجز كلياً عليه ان يزوغ عنه.. اعنى ان يلتف عليه.. او ينحرف عنه قليلاً ويسلك طريقاً اخر.. يوصله الى هدفه.. وذلك اضعف الايمان.. بمعنى الا يتخلى عما يريد، ويعقد.. ملوماً.. مدحورا.. يائساً قانطاً.. يلعن حظه العاثر.. او يلعن الظروف الخارجية.. او الداخلية التي حالت دون ذلك.

اذن سابداً مشروعي.. واقيمه على اساس اخر.. او اسس اخرى.. وكل ما احتاجه.. صبر القاريء علي.. وبضعة اوراق اخرى.. وكمية اضافية من المداد.. وسوف اسلك طريقاً اخر.. للوصول اليه.. مادمت قد عجزت عن اختراقه.. طريقاً، لا يقتضي السير فيه موافقته، ولا حتى اذنأ مباشراً منه.. وان كان هذا يقتضي تحمل النتائج كلها، منفرداً.. وبمسؤولية شخصية.. بحت..

اما المشروع.. فيكمن في الاتي..

اعادة ترتيب اوراقه.. بشكل اخر.. بشكل يختلف، بهذا القدر او ذاك، من هذه الزاوية او تلك، عن الشكل الذي اختاره هو.. او اضطرته الظروف الموضوعية على اختياره، حسبما أرى، على ذلك النحو الذي ترتبت.. وظهرت فيه سواء في الكتب.. او المجلات.. او على المسرح.. او حتى في المحاضرات واللقاءات والمقابلات، على محدوديتها وقلتها..

طبعاً لا اعني باعادة ترتيب اوراقه.. تغيير تسلسل صفحاتها، عبر تقديم بعضها.. وتغيير بعضها.. انما اعني محاولة، اعتذر مقدماً قبل الافصاح عنها.. مرات.. و مرات.. خشية ان تكون وقحة بعض الشيء.. او تطاولاً الى حد ما.. عليه.. او بالاحرى على أوراقه، التي اعشقها، كل العشق، والتي احرص، الحرص كله، مثله.. تماماً.. وربما اكثر منه، على بتوليتها.. ونقائها.. ذلك لان المحاولة.. اذ أبعد عنها وانفي كل تلك الصفات السلبية التي ذكرتها.. تتسم بقدر غير قليل من الجرأة التي أرجو الا تسيء اليه.. اذ هي تسير في مدارج.. الطموح.. بخطى اوسع من المقابلة او اللقاء.. وتعلو اكثر.. الى حد التجرؤ على اعادة صياغة بعض نصوصه.

وليت الزمن، او بالاحرى العمر، الذي بات يوشك على الانطفاء، يسعفني.. لاعادة كتابة نصوصه كلها من جديد لا بالشكل الذي اريده، انا، وانما بالشكل الذي كان يريده هو، كما احدس، ولكنه لسبب ما، او لاسباب عديدة، لم ينجزها.. او لم يكن بوسعه، حينها، ان ينجزها على النحو الذي يعزم ويريد.. وقد سبق ان ذكرت تلك الاسباب.. او بعضها على الاقل، في اكثر من موضع في هذا.. المخطط الاولى.. للدخول الى عالمه، او عوالمه، المتنوعة، المتعددة.. ساختار لمهمتي، الصعبة حقاً، آملا الا تردعني صعوبتها.. او تحملني اضطراراً على الاخلال بها.. وهذا امر اشقى واكثر هولاً.. واحداً من نصوصه، نشره قبل ما يقارب الاربعين عاماً، تحت تعريف متواضع به، كما اعتاد ان يفعل مع.. سائر نصوصه، وكما هو في سلوكه واخلاقيته، وهو "قصة" هكذا قصة فقط، لا طويلة ولا قصيرة.. وهي في نظري.. رواية، دون ان يعني الحاحي على هذه التسمية، تعظيما, او تفخيماً وهمياً لها.. وايضاً وبكل تأكيد دون ان يعني ذلك.. انه لايعرف، او يجهل.. تصنيف نصوصه في خانة الاجناس الابداعية، في الموضع، او الموقع، الذي ينبغي ان تكون فيه..

وسيكون ذلك موضوع الفصل التالي، او بالاحرى، الخطوة الاولى، بعد.. هذا التمهيد.. للدخول.. او اختراق هذا العالم.. الذي اسميته مغلقاً.. والذي آمل.. وارجو.. ان اكون اهلاً لهذا الفعل الاختراقي والاقتحامي ان صح التعبير.

 

 

1 / 1 / 2007