أوراق من سيرة آدم

 

(1)

 فصل في حكاية إبراهيم

هادي الربيعي

  لماذا يرد إبراهيم على مخيلتي بمجرد التفكير في البدء بتسجيل هذه المذكرات ؟ ولماذا ابراهيم بالذات من دون كل الذين التقيت بهم وعملت معهم في البدايات الأولى؟ ، يخطر لي الآن هاجس ٌ طالما راودني ، هل يحيا الإنسان حياة ً واحدة متواصلة منذ طفولته وحتى رحيله؟ اؤكد لكم ان الأمر غير ذلك تماماً ، فالطفل الذي كان أنا لا علاقة له بي إطلاقاً ، لقد سمع من والدته التي رحلت منذ أمد بعيد ان والده خطفه منها عندما كانت تزور الإمام الكاظم عليه السلام فجذوره الحقيقية التي لا يعرفها الكثيرون تنتمي الى مدينة الكاظمية والى محلة التل فيها على وجه التحديد ولكنه يتذكر ذلك وكأن الأمر لا يعنيه إطلاقاً ، يبدو وكأنها كانت تتحدث عن طفل آخر؟ اردد دائماً لماذا يرد ابراهيم أمامي دائماً ؟ قد يتذكر طفلاً كانت تطارده دائماً فتاة مجنونة فيهرب خائفاً ولكنه كان طفلاً لا علاقة له بي إطلاقاً ، ثمة مرحلة تم فيها قطع الإتصال بهذا الطفل وآه لو أعرف اين تكمن هذه المرحلة ، وثمة سنوات سبقت التعرف على ابراهيم فلماذا لا ترد في مخيلتي كما يرد إبراهيم دائماً  ؟ يتذكر الشارع المتعرج الذي يفضي من السوق الى داخل محلة التل ، ويتذكر جده ، يا إلهي أكاد أنسى ذلك الرجل الذي وهبني نصيحة قبل أكثر من أربعين عاما ً ما زلت اتذكرها جيدا ،  آه انه خليل الجيَّاًل ، والجَّيال لقب يغلب على اولئك الذين يعملون في وزن الحنطة بميزان هو عبارة عن عتلة خشبية تتدلى منها في كل جانب  ثلاثة حبال مربوطة بإحكام بإناءٍ واسع مستدير حيث يوضع العيار في جانب والحنطة المُرادُ وزنها في الجانب الآخر ، يتذكر ايضا محل زوج خالته ذلك الرجل العصامي الذي بدأ من الصفر حتى أصبح من الأثرياء ليرحل عن هذه الدنيا تاركاً ثروته لأولاده الحمقى الذين لم يحققوا أي نجاح في حياتهم العملية فعبثوا بالثروة وحمدا لله انهم حصلوا على بيوت تأويهم مما تبقى من هذه الثروة الكبيرة ، ومع كل هذه الذكريات تبقى العلاقة منفصلة تماماً ويبقى هذا الإحساس الغريب بأن ذلك الطفل لا ينتمي له أبداً ، انه طفلٌ آخر له خصوصياته وله عالمه الذي يجهله تماماً ، هل ابتعدت عن ابراهيم ؟ ساعود اليه بالتأكيد ، وألادهى من ذلك ان هذا الإنفصال لا يتوقف عند مرحلة الطفولة وحدها ، بل ان الأمر يتجاوز ذلك بمراحل فهو يعتقد وهو مؤمن بهذا الإعتقاد انه عاش أكثر من حياة ، وكل حياة لا علاقة لها بالحياة الأخرى ،  كيف يوضح ذلك إذا كان هو لا يفهمه تماماً ؟ فلنقل ان مرحلة الشباب ولنتجاوز مرحلة المراهقة فهو لم يعرفها تماماً لأنه عاش حياته في رحلة عمل دائمة وشاقة افقدته حتى معنى طفولته نعود فنقول ان مرحلة الشباب تبدو وبشكل لا يقبل الجدل منفصلةً هي الأخرى عن مرحلة الطفولة ، الشاب الذي نشأ تحت طرقات معاول الزمن لاعلاقة بالطفل الذي سرقه والده في حضرة الإمام موسى الكاظم لينتقم من والدته التي هربت الى أهلها من قسوته التي لا تُحتمل فأضاف نوعاً جديداً من القسوة بسرقة ابنه والله وحده يعلم فيما إذا كان هذا الطفل هو أنا ، وفي مرحلة الشيخوخة التي يجلس فيها لتدوين هذه المذكرات ، أو ما تبقى من هذه  المذكرات بعد نسيان أطنان منها ذهبت في منحدرات النسيان تحت رياح الزمن العاصفة والقاسية ،يشعر تماماً وبوعيه الكامل ان ذلك الشاب الذي كان هو أنا لم يكن هو أنا  أبداً ، ربما كان ظِّلاً له ، وربما كان شيئاً أخر، لقد انفصل عنه تماماً ليعيش حياة أخرى لا علاقة لها بذلك الشاب ، لقد تأخر كثيراً في التدوين وها هو يحاول ان يجمع شتات الذكريات من هنا وهناك ، انها تبدو وكأنها بيادر حنطة بعثرتها الرياح في كل الإتجاهات ، كيف يجمع هذه البيادرالتي تحملها الريح بعيداً كلما اقترب منها ؟ ليس من طريق آخر غير ان يحافظ على ما تبقى لديه ، ولكن ما الذي يدفعه الى تدوين هذه الذكريات ؟ ما الذي حدا به لإن يفكر بذلك بعد فوات الآوان ؟ هذا هو شأنه دائماً ، ان يتقدم بعد فوات الآوان دائماً ؟ ثمة روح إقتحام كان يفتقد اليها دائماً في الماضي ، وها هو يحاول ان يتجاوز هذه الخلل في حياته .. ولكن بعد فوات الآوان كما هو شأنه دائماً ، أية معادلة صعبة يحاول أن يقمها في أعماقه بين ابراهيم الذي يتحدث عنه والذي يرد دائماً كمنطلق لهذه التدوينات التي لا يعرف لها رأساً من كعب؟ انه ينطلق كنهر هادر جديد يفتتح له مجرى مجهولا في منحدرات لا يعرفها ومع ذلك لا يملك هذا النهر غير الإندفاع المتواصل فأية مصبات سيصل اليها ؟ هذا ما يجهله تماماً ولكنه لم يعد يقيم وزناً للأسباب والنتائج لقد علمته روح الإقتحام التي توهجت في أعماقه ذلك ، لقد أضاع شطراً كبيراً بل الشطر الأكبر وهو يبحث عن الأسباب والنتائج حتى توصل الى لا معنى ذلك؟ فأية اسباب ونتائج يبحث عنها في عالم يختلق اسبابه الخاصه ليصل الى نتائجه الخاصة وصولاً الى أهدافه الخاصة بعيداً عن المنطق السليم لحركة الأشياء في الكون ؟ أعني بطبيعة الحال بعض من يعيشون على هذه الأرض الساخنة بالف مشكلة ومشكلة , اولئك الذين يبررون الوسائل مهما كانت للوصول الى أهداف لا علاقة لها بخدمة الجنس البشري وعلى اجساد المتعبين على الأرض قامت دول وممالك لا حصر لها كانت فيها خيرات الأرض لعدد محدود على حساب الملايين التي كانت كقوافل الجمال التي تحمل الذهب وتأكل العاقول ؟ يعود فيقول أية معادلة صعبة يريد ان يقيمها بين ابراهيم الذي يرد على لسانه دائماً وبين ابراهيم الخليل عليه السلام الذي شيّد مركز الإيمان على الأرض  وقبلة السائرين على طريق الإيمان في كافة بقاع الأرض ، ربما لأن هذا الرجل هو الذي ساهم في بناء كعبة روحه المخربة ؟ ربما كان هو السبب في كل هذا الإهتزاز الذي رافقه طوال حياته ؟ وربما كانت هناك اسرار اخرى يجهلها تقف وراء هذا الخراب الروحي الذي عانى منه كثيراً ولكنه أراد ان يلقي تبعة ذلك على احدهم فوقعت الواقعة على ابراهيم ليتحمل وزر ذنوب لم يقترفها ، وربما كان هو من اقترف هذه الذنوب فعلاً بهذه الطريقة أو تلك وذلك ما لايعرفه حقاً فقد ابتعدت المسافات وتسربت خيوط اللعبة القديمة من يديه تماماً ولم يعد يرى غير طائرات ورقية تعبث بها الرياح بعيداً..بعيداً بحيث لا تكاد تُـرى ولابد من أحدٍ يلقي عليه تبعة هذه الإهتزازات التى رافقته طوال حياته وجعلته لا يؤمن الإ بأنصاف الأشياء

فثمة نصفٌ آخر كان يتداخل مع كل نصف يحاول ان يجعله كاملاً ، وتلك معضلة اتعبته طويلاً وما قد يبرر ذلك وهو ما يخطر على باله في أحيان كثيرة هي أنها  ما كانت عليه فعلاً وليس كما يتمنى ان يراها ،  وتلك معضلة لم يجد لها أجوبة هي الأخرى والحقيقة انه يعبر في غابة عميقة وشائكة أشجارها علامات استفهام تبدو وكأنها تنتشر على أرض بأكملها فكيف يجد الطريق الى بناء روحه المخربة وسط هذه الغابة الشاسعة وهل يستطيع ان يعيد بناء هذه الروح وهو الذي يتأخر دائماً حتى أطلق على نفسه لقب المتأخر أبداً ؟ وهل يستطيع ان يمحو هذا اللقب من الوجود بإرادة صلبة او هو يراها صلبة ولم يختبر حتى الآن مدى هذه الصلابة . فما زال الطريق طويلاً على لحظة الإكتشاف التي قد تكون وهمية او هو قد يراها وهمية , وذلك بعض ما يعنيه في الإهتزاز فهو ليس واثقاً من كل شيء ، ولنقل انه يحمل شكوكه دائماً حول كل شيء ، وما يساعد على هذه الحالة الغريبة ان أشياء كثيرة تحدث أمامه هي التي تبث الشكوك في روحه المخربة أساساً بفعل تأريخ من الأحداث الساخنة التي عاشها وكأنه يمشي على جمر ٍ متقد طوال رحلته الغريبة ، ولنقل طوال أنواع حياته التي لا تربطها الروابط ولنقل الروابط التي بحث عنها ولم يجدها فبدأت هذه الأنواع منفصلة عن بعضها ، لقد عاش أكثر من حياة هذا ما يريد أن يؤكده دائماً ، وهو ما سيحاول ان يؤكده في هذه التدوينات التي يأمل ان يستمر في إنجازها فهذا مشكوك في أمره ايضاً ، وهذا قد يعود ايضا الى الإهتزاز الذي يحدثكم عنه دائماً . أعرف .. أعرف ستذكرني وتقول وأين هو ابراهيم الذي القيت عليه الإتهامات دون ان توضح ذلك وأقول لك أنا الآخر لن أترك ابراهيم حتى أشفي غليلي منه سواءً كان هذا صائباً أو خاطئاً وسواء ًكان ابراهيم مذنباً أو بريئاً فليس أمامي من القي عليه تبعة هذا الخراب الذي حوّلَ حياتي الى أجزاء غير متماسكة ولا يسند بعضها بعضاً سواه .

 

أوراق من سيرة آدم

(2)

 فصل في حكاية جدتي

 

هادي الربيعي

     لا أشك لحظة واحدة ان جدتي هي التي اشعلت حرب داحس والغبراء لتدخل التاريخ من أضيق ابوابه ، كان الأولاد الذين اصبحوا بشوارب غليظة قد تزوجوا جميعاً ، وخلفوا الكثير من الخلق والغريب ان جميع اولادها من كانوا من الذكور ولم تخلف بنتاً على الإطلاق وكانوا يؤمنون بأن الخلفة هي رزق من الله دون أي حساب او تفكير بالطريقة التي سيتربى بها عيال الله لذلك التقطت الشوارع معظم عيال الله ليعملوا شتى الأعمال والمهن ومحظوظ ذلك الذي يستطيع ان يصل الى الدراسة الإبتدائية وهذه معجزة لم تحصل لدى معظم اولاد الجدة سُكنة التي كانت تتخذ من ابراهيم رأس الحربة في شن هجومات متواصلة على اولادها الذين تشغلهم زوجاتهم عن السؤال عن أمهم الوحيدة وكان ابراهيم هو الوحيد الذي يخشى الزواج لأنه يعرف نتيجة ما ستؤول اليه أوضاعه اذا تزوج لذلك ظل محافظا على عزوبيته وهو يستمتع بين الحين وألاخر بالهجومات التي كان يشنها على أخوته بدافع مباشر من مشعلة الحرائق وكأنه كان ينتقم لعزوبيته منهم أو أنهم العائق الذي كان يحول بينه وبين الزواج ، وعلامة الحرب التي لاشك فيها يعرفها الجميع دون استثناء حيث كانت الجدة تجلس في باب الدار في أحيان كثيرة فاذا رأى القادم طيف ابتسامة شاحبة على شفتي الجدة العجوز ، كان ذلك ايذاناً بأن الأمور على ما يرام ، والكارثة تحدث حين تجلس الجدة مقطبة الجبين وهي تشبك يديها وتدير اصبعين من أصابعها على شكل مروحة تدور ولا تتوقف ابداً ، عندها يعلم القادم ان هناك ثمة حرباً أكيدة على وشك ان تندلع وان عليه ان يعد العدة لإستقبال السنة النيران التي ستنطلق من شفتي الجدة العجوز والتي تنتهي غالباً بهجوم بالتواثي (أعني الهراوات ) التي تحتفظ الجدة بالبعض منها لمثل هذه الأيام الساخنة ، وقد لا توغر الجدة صدر ابراهيم فقط فدهاؤها قادر على أن يضيف معه احد الأخوة الآخرين بعد ان تتنازل له قليلاً عن رأيها فيه وعندها يهب هذا المسكين للمشاركة في الهجوم على أخوته وهو يعتقد انه قد تخلص من لعنات مشعلة الحروب والحرائق ، غير انها في الغالب كانت تعود الى سابق عهدها في التعاون مع هؤلاء الأخوة المتورطين في الهجوم على اخوتهم الآخرين وسرعان ما يكتشفون دهاء والدتهم محاولين التكفير عن خطاياهم أمام الأخوة الذين تعرضوا للهجوم ، ومآثر الجدة العجوز معروفة لدى جميع ابناء محلة العنافصة والله وحده يعلم معنى هذا الإسم الغريب ولكن آدم يعرف أن(المعنفص) هو في اقرب التعريفات الذي المعاند في أي موقف دون ان يستند على رأي ثاقب، وهو يسمع بين الحين والآخر من يقول (المطي عنفص) بمعنى انه عاند ولا يتحرك حتى لو اشتغلت عليه عشرات الهراوات والسب بسيط وواضح اولا لأنه اجلَّكم الله مطي وثانياً انه عنفص وربما لن يتحرك الإ بهمسات او توسلات مطي مثله وبهذه المناسبة اتذكر لكم حكاية السكيّرين اللذين كانا يقودان سيارة وهما يعودان في الليل الى بيتيهما وعندها رأيا حماراً يسد الطريق الضيق فنزل السائق مترنحاً وهو يحاول دفع الحمار بعيداً عن الطريق دون جدوى وعندها قال له زميله أنا من يدبر هذا الأمر فنزل مترنحاً وهو لا يكاد يسند طوله واقترب من الحمار وهمس في اذنه بعض الكلمات وحدثت المعجزة حيث تحرك الحمار بالفعل فاتحاً الطريق ولكن الذي كان يجلس أمام مقعد القيادة لم يتحرك وقال لزميله بربك قل لي كيف فعلت ذلك فضحك زميله وهو نقول ( لا تتعجب طلعنه عِرف) أنا طبعاً لا أحاول ان اسيء الى ابناء محلتني فأنا واحد منهم في كل الأحوال ولكنها محاولة في البحث عن معنى اسم اجهله وما وزلت اجهله منذ اكثر من خمسين عاماً وأظن انني سوف أظل اجهله لما تبقى من حياتي ايضاً ، وعادة ما يعود ابراهيم الى البيت متعباً فهو يعمل بنّاء للدور ومصلحاً للاساسات في بعض الأحيان وقديماً كانوا يطلقون على عملية تصليح الآساسات ( توزير) والتوزير هو حفر جانب من الأساس الذي تعرض للرطوبة واستبداله بطابوق مفخور جديد ولبخه بالسمنت ليتحمل الرطوبة لفترة زمنية اخرى وعادة ما تكون الحفرة التي يحفرها ابراهيم لا تزيد على الربع متر وعندما يكمل هذه المسافة ينتقل الى المسافة التي تليها والتي ترتبط بها ليحفر مساحة اخرى داخل الجدار المهتريءوهكذا يتواصل العمل حتى يتم توزير كافة مناطق الأساس التالفة طبعاً هذه العملية اختفت من الوجود تماماً ولم يعد هناك ما يسمى بالتوزير بعد ان وصل البناء الى ما وصل اليه ، أقول غالباً ماكان ابراهيم يعود متعباً واذا وجد المراوح مشتغله أعني إصبعي جدتي بطبيعة الحال فان عليه ان يتهيأ لمعركة اليوم الأكيدة رغم كل ما يعانيه من تعب ، وعبثا يحاول ان يوضح مدى تعبه فالجدة قادرة على إشعال نار الفتنة بقدرة قل نظيرها على هذه الأرض ، ونظراً لأن ابراهيم يحسب حساب العواقب ايضا وبأن هناك أولاداً قد يساعدون أباهم اذا تعرض لهجوم الجدة العجوز ، كان يضطر للاستعانة ببعض العمال الذين يعملون تحت يده وكان هؤلاء مرغمين على تلبية ندائه لا حباً بالحرب ولا حباً بابراهيم بل خوفاً منه لأنه سيبحث في هذه الحالة عن عمال آخرين ويعرضهم للبطالة ، وفي ذلك الوقت أعني قبل خمسين عاماً أو أكثر كان لكل بنّاء عماله الذين يعتمد عليهم بل ان الأمر يتجاوز ذلك فلكل عامل اختصاصه فمن ينشر الجص أمام البنّاء يختلف في مهاراته عن ذلك الذي يقذف بالطابوق ، فناشر الجص يستطيع ان يكون بالسرعة التي يريدها البناّء من خلال تواصل خبرته في هذا الإختصاص وهو يستطيع السير فوق السنتمترات التسعة وهي التي تمثل طول الطابوقة دون خوف أو ووجل مهما ارتفع البناء ، وكلما ارتفع البناء توضحت مهارة من يرمي الطابوقة الى الأسطه حيث يقذف بها من الأرض الى الطابق الثاني الذي وصل اليه البناء وهي تقع في يد الأسطه بالضبط ، وقد لا يعرف الكثيرون ان البنّاء في ذلك الوقت كان يبني ما لا يقل عن اربعة آلاف طابوقة في اليوم الواحد وكان البيت يُسلَّم الى الساكن خلال ستة وعشرين يوماً في اعلى الإحتمالات حيث يستلم مفاتيح البيت كاملاً خلال هذه الفترة ، وطالما تعرض أبي الى هجومات ابراهيم وأحياناً الى هجومات ابراهيم والعم فاضل الذي كان يشترك في مثل هذه الهجومات بين الحين والآخر ثم يُظهر ندمه وأسفه ليعود ثانية للمشاركة في هجوم جديد ثم يعود ليظهر ندمه وأسفه وهكذا كان يمشي على الحبلين في آن واحد بمهارة يُحسد ُ عليها فهو لم يخسر الجدة حتى رحلت عن هذه العالم وهو كذلك لم يخسر اخوته الذين كان يعتدي عليهم، بكثرة الأسف والقبلات المشهورة عنه حتى يزيل غضب الطرف المقابل أقول العامل الذي يطرده ابراهيم سيصيع في الشوارع كما يقول اخواننا المصريون وسوف يتعذر عليه الحصول على عمل فلكل بنّاء عماله والفرصة الوحيدة للحصول على عمل هي في مرض احد العمال وربما موته وعندها قد يحتاج الأسطه الى عامل جديد يضمه الى مجموعته الأثيرة وطبعاً مثل هذه الفرص نادرة جداً لذلك كان العمال يلبون نداءات الأسطه ابراهيم في شن الهجومات دون تردد ، ولكي يعوّض ابراهيم كبته الجنسي كان يذهب غالباً الى منطقة الميدان في بغداد حيث كانت هناك منطقة خاصة ببائعات الهوى مقابل دنانير معدودة كانت تعتبر ثروة في ذلك الوقت ونادراً ما كان أي انسان قادراً على حمل ورقة من فئة خمسة دنانير ، كانت العملة في الغالب معدنية ، فلس ، فلسان ، اربعة فلوس ثم اصبحت خمسة ، عشرة فلوس ، درهم وهو ما يعادل خمسين فلساُ ، مئة فلس ، خمسة وعشرون فلسا هذه هي العملات التي كانت تخرخش في معظم جيوب المواطنين واذكر ان احد اخوتي ابتلع عملة من فئة الفلسين فاضطر الى انتظار خروجه ليمسك بعملة الفلسين ويغسلها ويذهب الى العطار لشراء ما يشتيهيه بها وقد اطلقنا عليه لقب ( أبو الفلسين ) وظل يحمل هذا اللقب طوال اكثر من عشرين عاماً طبعاً حين بدأ الشيب يعسكر في شَعر معظمنا بدأنا نتحاشى الإشارة الى حكاية الفلسين التي ابتلعها وإن كنا نود ان نشير لها لا بسبب الإساءة بل لأنها تذكرنا بذلك الماضي الذي طواه الزمن لعلنا نحصل على صدى من ضحكات الماضي البعيد تلك الضحكات التي كانت تنطلق من الأعماق رغم كل الأسى الذي كنا نعيش فيه ، كان ابراهيم يعود من بغداد طلق المحيا ، بشوشاً ، رقيقاً مع عماله ، وقد يمتلك الجرأة لعدة أيام في مواجهة رغبات الجدة العجوز ولكنه مع زوال تأثير المخدر الذي تناوله لدى بائعات الهوى سرعان ما يعود الى سابق عهده .

كان ابراهيم مولعاً بشراء بطاقات اليانصيب الى حد يصعب وصفه ، يمكن القول انه كان مريضاً بداء شراء هذه البطاقات ولا يخلو جيبه ابداً من بطاقات جديدة والغريب انه لا يمزق البطاقات التي يتم سحبها فهو يكره تمزيق هذه البطاقات ، بل يحتفظ بها تحت فراشه ، ولو قلبت فراش ابراهيم لرأيت العجب تحت هذه الفراش ، آلاف البطاقات وبعدة أنواع تمتد على إمتداد هذا الفراش دون ان يفكر ابراهيم يوماً باتلافها أو التخلص منها ، بل انه كان يضيف لها الجديد الذي يلقيه بأسف شديد لعدم فوزه ، ولا يعني هذا انه لم يفز فلقد فاز بمبالغ قليلة وخلال فترات متباعدة مما دفعه للاكثار من عدد البطاقات التي يشتريها أملاً بالحصول على فرص أكبر في الفوز ، واعتقد ان الثروة التي انفقها ابراهيم على بطاقاته كانت تمكنه من شراء اغلى بيت في العنافصة ولكن ماذا تفعل لرجل تكمن سعادته في الترقب الدائم لمواعيد سحب اليانصيب رغم مئات حالات الفشل التي رافقته ، وحين امتلك ابراهيم الجرأة الكاملة للتحرر الكامل من سلطة الجدة العجوز وكان قد تجاوز الأربعين ولم يعد العمر يتسع لضياع آخر على طريق العزوبية المتواصلة ، وتجرأ بالزواج رغم عواصف الجدة العجوز وهي ترى آخر قلاعها تنهار في هذا العالم ، لم تحتمل هذه الصدمة ، الصدمة قليلة فلنقل لم تحتمل هذه الضربة القاضية التي جعلتها تخسر الجدار الوحيد الذي تستند عليه ورأس الحربة الوحيد الذي تحقق به سعادتها الدائمة في خلق الفتن وإشعال الحرائق لذلك انتفى مبرر وجودها في هذه الحياة فانتقلت الى العالم الآخر وهي تصب لعناتها حتى آخر لحظة على ابراهيم بسبب الجريمة النكراء التي ارتكبها بحقها ، ويخيل لي ان جدتي لم تولد ولم تعش إلإ لهدف واحد ، ان تشعل الحرائق اينما حلت واينما ذهبت ، فاذا زارت احد ابناءها فان المصائب تبدأ منذ بداية خروجها وأعتقد انني الوحيد الذي احبها من أعماقه ربما لأنها كانت تربت على رأسي بين الحين والآخر وهي تنظر ساهمة في البعيد وتنسج خيوط معركة جديدة تعد لها العدة مبكراً قبل ان يعود ابراهيم من العمل ، وكنت انظر بدهشة لإصبعيها اللذين لا يتوقفان ابداً وهما يعملان كمروحة تعمل بطاقة هائلة .

 

أوراق من سيرة آدم

(3)

فصل في حكاية العامل آدم

 

هادي الربيعي

    عملت عاملاً مع عمي ابراهيم رغم ضراوة المعارك التي كان يخوضها ضدَ أبي بين الحين والآخر ، بتدبير من مشعلة الحرائق جدتي سُكنة ولا ادري كيف اجتمع هذا الأسم الذي يوحي بالهدوء والسكينة مع جدتي التي لاتجد طعماً للحياة بدون الحرائق التي كانت تلقي الحطب اليابس في نيرانها بين الحين والآخر، ولابد انكم خمنتم انه كان ينتقم مني بشكل وآخر وكأنه ينتقم من والدي ، عملت معه في توزير أساسات البيوت وعملت معه في الدرازة والدرازة كلمة فقدت معناها مع فقدان الدرازة نفسها وباختصار شديد ، وتقريباً لمفهوم الدرازة تصور انك بنيت سياجاً لبيتك من 25 سافاً هل ساضطر ان اشرح الساف أيضا ؟ حسناً لنبق في الدرازة اولاً ، الدرازة هي ملء الفجوات بين السُوف بالسمنت بواسطة آلة بناء تدعى الجمجمة فقدت من الوجود هي الأخرى ، وها هو مصطلح جديد يبدو ان عليّ شرحه أيضاً ، ساضطر اذن الى شرح الساف ليتوضح ما أعنيه ، والساف هو عملية البناء بواسطة الطابوق في دورة كاملة للبناء الذي تريد ان تشيده ، ويجب ان لا يقل ارتفاع بناء المساكن عن ثلاثة أمتار ولا أدري كم سافاً تعادل ولكنني اتذكر ان سياج البيت الخارجي يجب ان لا يقل عن عشرين سافاً وكلما كان أعلى كان ذلك أفضل حيث لا يستطيع أن يشرف على البيت أحدٌ من الخارج ، ونفس المعدل ينطبق على سياج البيت العلوي ، والجمجه نوعان نوع صغير وهو ما يستخدم في الدرازة ونوع كبير وهو ما يسُتخدم في صب الأرضيات بالسنت بدلاً من الكاشي الذي قد لا تستطيع ان توفره بعض العوائل اثناء بناء مساكن لها لذلك تلجأ الى صب الأرضيات توفيراً للمبالغ ، وأعود لأقول عملت مع عمي ابراهيم في التوزير والدرازة ولكن هذا الرجل يحرص على ان يأخذ أعمالاً صغيرة ولا أدري حتى الآن لمَ كان يخشى أن يغامر في بناء بيوت كما يفعل عدد كبير من أسطوات ذلك الوقت في البناء ، ولا يفوتني ان اذكر كم كان هؤلاء الأسطوات دقيقين في عملهم ، حتى ان ألاسطه الحاج يحيى لمهارته العاليه كان لا يعمل في البناء وانما كانت مهمته الأشراف على الأسطوات الآخرين وكان يأخذ من الأجر ما يأخذونه وربما كان اكثر ، وهو يستحق ذلك باعتراف الجميع لأنه كان من الأسطوات النوادر ومن العقليات الكبيرة في البناء المعماري ، واذا طلب الحاج يحيى من أي بنّاء ان يهدم ما بناه لأن فيه خللاً لايملك كبار الأسطوات الا أن يفعلوا ذلك ، فهو الأسطه يحيى وحسبهم فخراً انهم يعملون بين يديه وتحت إشرافه وهذا شرف لا يُتاح للكثيرين فهي فرصة نادرة أن يسرقوا بعض ما يحاولون سرقته من خبرة هذا العبقري من خلال عملهم معه لتطوير مهاراتهم ومجرد عمل أي بنّاء هو شهادة من هذا الرجل العبقري للبنّاء الذي يعمل تحت يده ، وهو بهذه الشهادة يستطيع أن يجد عملاً متواصلاً لا توقفَ فيه والمواطنون الذين يريدون بناء دور لهم يثقون كامل الثقة بكل من يعمل تحت إمرة الأسطة الحاج يحيى ولم يكن الرجل صابئياً ومع ذلك لا أحد يعرف سر تسميته بيحيى وهو سر لا يعني أحداً بطيعة الحال وما زال سرِّاً خالداً حتى هذه اللحظة .

     في لحظات الغضب التي تنتاب عمي ابراهيم كان علي ان أحذره دائماً حيث كان يرمي فأس البناء من بعيد باتجاهي مصحوبة بالشتائم واللعنات ( ابن الكلب جُر عدِل ) (  ما يصير لك جارة مثل ابوك ) ( والله اليوم لنعل والد والديك ) وأي خطأ قد يجعل الفأس تسقط في رأسي او في أي مكان آخر من جسمي ، وكان  هذا يحدث باستمرار، وأحياناً تصيبني الفأس فعلا ولكن أحمد الله انها كانت لا تحدث الا جروحاً طفيفة ومع ذلك كان يقول دائماً بعدكل رمية فأس موفقةً كانت أم خائبة ( جيب الفاس ابن الكلب) وكأن هذا الكلب الذي يتحدث عنه لم يكن أخاه وابن أُمه ، فأعود له بالفأس التي رماني بها وأعطيها له وكنت أتمنى أن اهوي بها على الجرّاوية التي تخفي صلعته ، ولكنني مع ذلك اعود له واسلمه الفأس وأقول (تؤمر ستادي) وكأنني لم اتعرض لمحاولة القتل على يديه ، ومنذ ان توفى عمي ابراهيم قبل اكثر من عشرين وحتى اليوم وأنا أجهل قبره تماماً ولا أشعر بالرغبة في معرفة مكان هذا القبر ، واصارحكم انني في أحيان كثيرة وحين أقرأ الفاتحة على ارواح موتاي جميعاً اتجاهل قراءة الفاتحة على روحه خشية من ان يرحمه الله في الآخرة ، وكانت تشجعني على هذا الموقف الحاسم من عمي ابراهيم ضربة فأس انقضت كطائرة فانتوم على احد أصابعي فاحدثت أثراً رافقني طوال حياتي

ويختلف عمل عمي ابراهيم عن الأسطوات الآخرين في انه قد يتوقف بين الحين والآخر فليست كل البيوت بحاجة الى توزير ، وفي الوقت الذي يحظى فيه العمال الذين يعملون مع الأسطوات الآخرين بفرص الحصول على عمل متواصل بسبب كثرة الطلب على بناء البيوت الجديدة  كنا نعيش ايام بطالة قد تمتد اسبوعاً أو أكثر حتى يحصل عمي على عمل جديد  في التوزير أو الدرازة وكنا ثلاثة عمال يعتمد عليهم عمي عليّان وابو الديك وأنا ، قديأخذ عمي أحياناً أعمالا صغيرة للبناء ، اضافة غرفة مثلا الى بناء البيت او أي مرفق آخر يستهدف الساكن من خلاله توسيع سكنه ، والمشكلة هنا تكمن في العكادة وهي رصف طابوق سقف البيت ويجب ان لا تزيد المسافة بين شيلمانة وأخرى عن ثلاث طابوقات ونصف عند الرصف لضمان القوة في العكادة وضمان سطح ٍآمن في المستقبل وفي احدى المرّات ولعدم مهارة عمي ابراهيم اولاً ونوعية الجص الرديء المستخدم في العكادة سقطت علينا وكان الضحية عليّان الذي سقطت عليه مباشرة فقضى ما تبقى من حياته وهو يعاني من عرج ٍ شديد ، وكان عمي ابراهيم لا يستغني عنه رغم عرجه الشديد وكأنه يحاول بذلك ان يكفر عن ذنوبه تجاه هذا الرجل ، وكان يمكن ان أكون مثل عليّان لولا رحمة الله الواسعة التي جعلت طابوق العكادة يقع على بُعدسنتمترات مني ، ولا انسى ان أضيف دعوج الى قائمة الأسماء التي تعمل مع عمي ابراهيم فكان يعمل معنا بين الحين والآخر حسب طبيعة العمل الذي يحصل عليه عمي ابراهيم ، وكان دعوج من أطيب الذين عرفتهم في حياتي ، وكان مسالماً بشكل غريب وكانت على محياه ابتسامة دائمة لااسباب لها إطلاقا ، انه هكذا دائماً يبتسم في وجه كل من يراه ، وكان هناك خلل واضح في انفه وهذا هو سر تسميته بدعوج أما اسمه الحقيقي فيشهد الله انني لا اعرفه حتى الآن رغم مرور اكثر من نصف قرن على معرفتي به ، وقد تستغرب اذا قلت لكان هذا الرجل الطيب كان يدخل في مشاكسات ومعارك مع بعض من يدعي الرجولة والبطولة فكان يقضي عليه  دائماً ولم اجد رجلاًمثل دعوج يجمع بين الطيبة المفرطة وبين اخلاق رجال العصابات بهذا التوازن العجيب ، كنا ندرس في المدرسة الأبتدائية معاً وكنا نعود من العمل مباشرة الى المدرسة وكانت أظافرنا دائمة كالحة ببياض الجص الذي لا نستطيع ازالة آثاره وحين نصل الى مقاعد الدراسة يكون التعب قدحل بنا تمامً وكان دعوج هو المنقذ فهو الوحيد القادر على احداث فجوة في سياج المدرسة الحديدي تكفي لأن نخرج منها هاربين من مقاعد الدراسة الى بعض المقاهي لنخبر الأهل بعد ذلك اننا كنا في المدرسة، وكان فتح ثغرة السياج من قبل العملاق الطيب دعوج صاحب العضلات المفتولة مصحوبا بتشجيعنا ونحن نصفه بترنتي وهو احد أشهر ابطال السينما ذلك الوقت واعتقد ان الممثل ستيف ريفز كان يقوم بدور ترنتي القادر على رفع صخرة رخامية من أحد الأعمدة ليلقيها على اعدائه وسط صيحات اعجابنا الشديد ، وكان مدير المدرسة يعيد استقامة السياج الحديدي بعد كل مرة يسجل فيها دعوج مأثرة فتح السياج الحديدي الذي كان لا يستجيب الا لعضلات دعوجوحده  وبعد ان نأكل المقسوم من مسطرة المدير الذي يقدر عدد المساطر كما يشاء ، عشر مساطر وتهوي المسطرة عشر مرات على راحة اليد المفتوحة ، حقاً كان الألم لا يُطاق ومع ذلك فان هذا لا يُقاس مع مسطرة مدرس اللغة الأنكليزية في الصف الخامس الأبتدائي وكان يحضر كوباً وملعقة ًوإناء يوضع فيه الكوب ويشير بمسطرته التي يتطاير منها الشرر: ذس از ا كاب... ذس از أ سوسر.. ذس از أسبون .. واتز ذس؟

   وتختلج الشفاه المتعبة والعقول التي هدها عناء العمل اليومي وترتبك بتقديم الإجابة وعندها تهوي المسطرة النارية وهي تصب نيران جهنم في راحاتنا المفتوحة ، وحين استعيد ذكرى هذا الرجل الذي ما زلت اكرهه حتى الآن رغم انني اعرف تماماً انه كان يحاول اصلاح عقول مخربة بعناء العمل أدرك مدى الخطأ في استخدام ضرب التلاميذ مهما كان السبب ، فلابد من طريقة أخرى ..لابد من ذلك ، وكل الأساليب قد تكون مقنعة الا الضرب ، انه إهانة يظل الطالب يحملها طوال حياته ، وكان بعض الطلاب يحاولون الإنتقام من مدرس اللغة الإنكليزية بهذا الشكل او ذاك ولكن النتائج تتحول الى كوارث أحياناً ، اذكر ان احد الطلاب حاول ذلك فكنت أنا من اوقع به بدون قصد،ومعروف ان معلمي أيام زمان كانوا يمشون على امتداد الممرات داخل الصفوف فكان زميلنا الطالب يمشي خلف معلم اللغة الأنكليزية بخطوات لا تُسمع وهو يرقص خلفه ساخراً منه وحين يستدير المعلم ليعيد الجولة من حيث بدأ يجلس زميلنا وعيناه غارقتان في الكتاب بانهماك ٍ عجيب وحين يواصل المعلم سيره يعيد زميلنا رقصته الساخرة ثم يعود ليجلس فجأة الى كتابه وكأن شيئاً لم يكن والغريب  انني كنت  الوحيد الذي لم يحتمل هذا فاطلقت داخل الصف ضحكة مجلجلة أثارت دهشة المعلم فهو لم يجد سبباً لضحكة بهذا الحجم وعندها فقط ادركت  ان هذا المعلم هو واحد من ابطال العالم في المصارعة والعاب القوى فقد حملني بسهولة بيديه فرأيت نفسي في الهواء لأصطدم بعد ذلك بالسبورة وأسقط في أسفلها ثم واصل عمله بعد ذلك بسيل من الدفرات والركلات في كل مكان من أجزاء جسمي وحين اعترفت بما حدث وأنا نادم على ذلك حتى اليوم دفع التلميذ الراقص ثمن رقصته الساخرة فأخذ أضعاف ما أخذته من عقاب .

     حين أعود الى المدينة التي خرجت منها قبل اربعين عاماُ بين الحين والآخر وأدور في شوارعها وأحدق في عشرات البيوت التي ساهمت في بنائها ليس مع عمي ابراهيم ولكن مع أسطوات آخرين أشعر باحساس غريب ، أشعر انني موجود في كل هذه البيوت بشكل أو بآخر واحياناً اسمع أصداء لأصوات بعيدة قادمة من الماضي البعيد وكأنها تحدثني لأصوات لحسن خالو ومرندج وأصوات كثيرة أخرى تنبعث من هنا وهناك ، غير ان الإحساس بالأسى هو ما يرافقني دائماً في هذه الجولات الحزينة وأنا أرى كل ما ساهمت في بنائه يتعرض للتآكل تحت مطرقة الزمن فالبيوت التي كانت تلهث من اللمعان سرعان ما اصبحت منطفئة وهي تتعرض للآنهيار يوماً بعد آخر ، ولكم احسست ان وجودي أنا .. هو الذي يتعرض للآنهيار ، وأعود فأقول ..ما الفرق ؟؟ كلانا يتعرض لهذا الإنهيار بنفس الضراوة، الم أقل لكم ان هناك قطيعة في رحلة الزمن  فمن هو العامل آدم الذي لا أكاد اعرفه الآن ؟؟واين اصبح الزمن الساخن الذي كنا نعيشه ؟؟أين عليّان ؟؟ وأين ابو الديك ؟؟ وأين هو دعوج؟ أين هشام ابن الثري الكبير الذي كنا نتسارع نحن الفقراء لنفخر بصداقته أمام أنظار الآخرين ؟أين هي مقهى عبود التي كانت تستقطب قلوبنا وأرواحنا ؟؟ أين ذهبت كل تلك الحياة الصاخبة؟؟ أصارحكم الحقيقة انني على وشك البكاء الآن  .

 

 

 أوراق من سيرة آدم

4

 فصل في حكاية نصيحة جدي

 

هادي الربيعي

جدي لأُمي يمكن وصفه بأنه الطيبة الكاملة التي تمشي على الأرض ، رجل بسيط ولكنه مثابر، لم أشاهده متبرماً من أي شيء في كل الأوقات ، ابتسامة شاحبة يقابل بها ما يأتيه من كوارث وكأنه كان على موعد سابقٍ معها، قابل الحياة بما يشبه السخرية فعاقبته الحياة بموت يشبه السخرية ، وكنت معه في آخر مراجعة لأحدى المستشفيات وعندما زرق له احد المضمدين إبرة العلاج كان بحاجة لبعض الراحة لقوة الدواء الذي لم يستطع أن يحتمله ولكن احد العاملين في المستشفى صرخ بوجهه طالباً منه الخروج ودفعه بقوة وهو يحاول إنهاضه وعندما نهض سقط على الأرض وفارق الحياة ببساطة غريبة ، كان يقول دائماً ، النساء ناقصات عقول ، ولا أدري كيف عاش طوال حياته وهو في خصام دائم مع المرأة التي شاركته رحلة حياته الطويلة  ، ولقد أدمن المشاكسات حتى اصبحت جزءاً لا يتجزأُ من يومياته ، فلم تعد تثيره العواصف مهما اشتدت ، وكان يقابل الإنفجارات الداخلية برباطة جأش ما زلت احسده عليها ، بل انه كان يبتسم في معظم الأحوال وهو يهمس لي بين الحين والآخرأثناء حدوث مثل هذه الإنفجارات : الم أقل لك ان النساء ناقصات عقول ؟    ذات يوم همس في اذني : اريد ان اقدم لك نصيحة تنفعك في حياتك ، وكنت حينها في بداية حياتي الزوجية ، قلت له : قل يا جدي ، فاجاب بصوت هامس : ليس هنا أخشى ان تسمعني زوجتك فتكرهني طوال ما تبقى من حياتي فلنذهب الى مقهى المفرق ، وكان المفرق أحد الأحياء التي تشكلت حديثاً بعيدا عن مركز مدينة بعقوبة بكيلومترات قليلة ، وسرنا طوال الطريق الى المقهى وهو صامت وكان غالباً ما يظل محدقاً في الأرض اثناء صمته الذي يمتد احياناً وكنت لا أجرؤ ان اقطع عليه هذا الصمت فاظل صامتاً أنا الآخر ، حتى يكسر صمته الطويل فاعود الى مشاركته في الحديث ، جلسنا على احد الأسرّة المصنوعة من جريد النخل وكانت اغلب مقاعد المقاهي تُصنع منه في ذلك الوقت ، اعني قبل أكثر من اربعين عاماً ، وشربنا قدحين صغيرين من الشاي الأسود السنكين ، همس بعد ان أخذ رشفة من قدح الشاي ، النساء بيت البلاء، انهن ناقصات عقول ، ومسكين من يخضع لرغباتهن ، ألم تسمع عن آدم كيف خرج من الجنة بسبب عقل إمرأة ؟ قلت : سمعت ُ يا جدي ولولاها لكنا جميعاً في الجنة قال ضاحكاً عليك نور يا ولدي ها انت بدأت تفهم ما اقول ، اقدم لك نصيحتين ضعهما (ترجية) في أذانك واحذر ان تنساهما ،  والترجية كما تعرفون حلية توضع في إذن المرأة بعد ثقبها ، وقد بلغ من حب والدتي لي انها ثقبت أذني ووضعت لي تراجي لتؤكد لصديقاتها مدى محبتها لي فأنا أول ابنائها ورغم مرور هذا العمر الطويل مازال الثقبان يأبيان مغادرة أذني وكم سبب هذا لي من إحراج مع الفتيات اللواتي كن يتسلين بأذني ويتضاحكن وهن يعبثن بالحلية الفقيرة التي وضعتها امي في اذنيَّ ، قال جدي : النصيحة الأولى ، لا تشعر زوجتك ابداً انك تحبها ، قلت : كيف هذا يا جدي اعتقد انني إذا اظهرت لها حبي فانها ستزيد حبها لي قال ضاحكاً اعتقد ما تشاء ، انك قد لا تفهم هذا اليوم ولكنك ستفهمه غداً ، وحين تخوض غمار المصائب التي تنتظرك في الطريق ستتذكرني وتقول رحمك الله يا جدي كم كنت مُصيباً ، وبداية مصائبك في خضوعك لزوجتك اوصيك ان تتذكر هذا ، حدقت في وجه جدي طويلاً وأنا أحاول اكتشاف ما وراء نصيحته ، ولكن خبرتي في الحياة كانت اقصر من ان تصل الى قامة هذه النصيحة التي لم استوعبها تماماً ، حسنا يا جدي اقول لك انني سمعت النصيحة ولا أدري ان كنت مؤمناً بها ولا أدري ان كنت ساطبقها او سأكون غير قادر على تطبيقها في حياتي قل لي حكمتك الثانية قال : لا يا ولدي عدني ان تتذكر هذه النصيحة ، تذكرها دائماً لا أستطيع ان افرض عليك العمل بها ولكنك ستعمل بها ، ستكون مضطراً لذلك وأنا أختصر لك المسافات وأختزل لك التجارب فلماذا تضيّع هذه الفرصة ؟ ستقول ذات يوم رحمك الله يا جدي ، قلت : سأقول ذلك بالنصيحة او بغير النصيحة قال : بل ستقول ذلك بسبب النصيحة أنا واثقٌ من ذلك قلت: اعدك انني سأتذكر ياجدي فقل نصيحتك الثانية ، طلب قدحاً آخر من الشاي وأخذ رشفة منه ثم قال : إذا رأيت غريقاً يستنجد بك فاحذر ان تنقذه وتمد يدك إليه ، نظرت الى جدي مستنكراً ، ما هذا يا جدي ؟ ألست مساماً ؟ هل يقول الإسلام اتركوا الغريق يغرق حتى يموت ؟ اين الإنسانية يا جدي ، هل تريدني ان اخرج من الإسلام بسبب نصيحتك ؟ ضحك وهو يقول : هكذا أنتم دائماً لا تنظرون الى ما هو ابعد من أنوفكم قلت بصوت لفت أنظار بعض الجالسين في المقهى : إقنعني يا جدي ، غريبٌ ما اسمعه منك ، لقد شاء الله ان يجعل الغريق غريقاً لأنه يستحق ذلك ، هناك عقابان ، عقاب الدُني وعقاب الآخرة ، وبعض البشر ينصب عليهم غضب الله في الدُنيا فهل تستطيع أنت ان تنقذ انساناً اراده الله تعالى هكذا لحكمة ٍ لا نفهمها نحن ، انها حكمة الله يا ولدي ، مهما حاولت سيغرق لأن الله اراد له الغرق فكيف تخالف إرادة الله تعالى في خلقه ؟ من أنت َ لتفعل ذلك؟ قلت : يا جدي انت تعرف انني احبك ، وتعرف كم أحبك ، قد اقتنع بحكتك الأولى في يومٍ ما، اما حكمتك هذه فلا اعتقد انني استطيع الإقتناع بها قال ستقتنع بها ذات يوم وستقول رحمك الله يا جدي على  حكمتك الغالية

 

         وتمر السنوات سنة تطوي اخرى ، وكلما تلاشت ملامح جدي من مخيلتي ، توهجت نصيحته وكأنها معدنٌ نفيس ٌ يزدادُ بريقاً مع تقادم الزمن ، وحقيقة الأمر إنني لم أتعمد عدم إظهار محبتي لزوجتي ، ولكن الظروف هي التي صنعت ذلك فقد نُقلت نقلاً سياسياً الى مدينة بعيدة وعندها رفضت زوجتي القدوم معي لتظل قريبة من اهلها ، وهكذا تكشف الحب الذي كانت تظهره لي على شكل مصائب لم أتوقعها إطلاقاً ، وبقيت أكثر من سنتين وأنا أعاني من معضلة عدم قدومها ، وحين يقول جدي ان النساء ناقصات عقول ، فهو محقٌ في ذلك فالتبريرات التي تقدمها المرأة أحياناً مقابل حجم المشكلة التي تعيشها أنت على أرض الواقع ، لا تبدو ساذجة فحسب بل انها مثيرة للسخرية فتهمس بالمثل الذي يقول وأنت تضحك ( عرب وين وطمبورة وين) وحكاية هذا المثل تقول ان رجلاً تزوج إمرأة اسمها طمبورة وكانت خرساء وقد علمها الرجل انه اذا ارادهُ ما يريد الرجل من زوجته سيرفع لها أذيال ثوبه دليلاً على ذلك ، وحدث إن غزت احدى القبائل عشيرة الرجل فعاد الى البيت وهو يلهث باحثاً عن بندقيته ليساهم في رد الهجوم مع ابناء عشيرته فرفع ذيل ثوبه وعلقه في حزامه وهو يحاول الوصول الى بندقيته وعندها استلقت طمبورة على الفراش دون ان تعرف حكاية الهجوم فضحك الرجل وهو يهز يديه ويقول ( عرب وين طمبوره وين ) والحكمة التي ما زالت أصداؤها تأتي من الماضي البعيد ما زالت تتوهج وكأنها قد قيلت بالأمس ، أدرك الآن لماذا تبقى الأمثالُ خالدةً في ضمائر الناس وقلوبهم ، والسبب بسيط لأنها تختزل حكمة البشر ، وتضيء الطريق دائماً أمام الأجيال الجديدة ، وكلما كمن فيها المعنى ألأقوى و الحكمة الأبلغ

 

زادت قدرتها على البقاء تحت مطارق الزمن ، نعم كلما ابتعدت عن المرأة تعلقت بك أكثر ، لأنها تظل في خوف دائمٍ من أن تفقدك ، وأنت بهذا الإبتعاد تزرع هواجس كنت تتمنى لو انك زرعتها منذ أمد ٍ بعيد لتحصد نتيجة أفضل في حياتك ولقد تحققت نبوءةُ جدي حقاً فها أنا اقول بعد أكثر من خمسين عاماً ،أقول فليرحمك الله يا جدي على نصيحتك الغالية التي لم اعرف قيمتها إلا متأ خراً ، وتلك هي مصيبتي فأنا المتأخر دائماً كما تعرفون ، وأنا المتشكك دائماً ، وقد حاولت تسجيل هذه الهواجس والشكوك في احدى القصائد فقلت:

وما مستقري بأرض الريـاح              ألاّ ريـاحٌ بلا مُســـتقرْ

رحيلٌ بروحي في اللامـكان                وفي اللازمان قديم الأثــرْ

 جوادي يطوي رحاب الوجود               وتحسبنـي واقفاً في السفرْ

 

  ثمة صفحاتُ طويلة تنتظر ان أصل اليها لأسرد بعض جوانب هذه الحقيقة بشكل آخر، ولا أدري لماذا أرى هذا مهمّاً مع عدم إقتناعي باهميته ،وما افعله في كل الأحوال نوعٌ من محاولة الوصول الى اقرب الحافات من قلب الحقيقة وهذا ما أحاول ان أفعله واشك انني قادرٌ على ذلك.

 

 أوراق من سيرة آدم

(5)

 فصل في حكاية ظل المنارة وعجاج الطبل

   تأثير الخديعة قد يكون احيانا ابلغ من جرح الكرامة ، ذلك ما احسّهُ تماماً وانا أحاول الكتابة عن العم خضر، ما زلت اتذكر ذلك المحل الذي ارسلني اليه والذي يقع مباشرة تحت مئذنة احد الجوامع وهو يعطيني عشرة فلوس لأشتري له في المنارة وعجاج الطبل و(الفي) هو الظل كما تعرفون ، ربما كنت في السابعة من العمر في ذلك الحين وقد توجهت الى السيد مهدي صاحب المحل وقلت له عمي خضر يسلم عليك ويريد بخمسة فلوس في المنارة وبخمسة فلوس عجاج الطبل ، ضحك السيد مهدي طويلا وهو يهمس لي عمك يضحك عليك فلا يوجد في منارة ولا عجاج طبل ولكن قل له السيد يقول (خلصّنه) وعدت الى البيت وانا في ذروة غضبي ولا استطيع ان انسى حتى اليوم في المنارة وعجاج الطبل وقد نمت بذرة كراهية غريبة لعمي بسبب هذه الخديعة ما زال تأثيرها حتى اليوم رغم ان العم خضر رحل عن هذا العالم منذ امدٍ بعيد . ولم يكن امر العم خضر يعني كثيراً لدى الجدة سكنة فهي تعرف ان الخمرة لا تفارق شفتيه ليل نهار ، كما انها لا تستفيد منه في غزواتها على الأخوة بين الحين والآخر، بل ان الكثير من الغزوات استهدفته هو بالذات لأنه لم يكن  يقوم بواجب رعايتها وواجب الرعاية هنا هو ان يضع بين يديها مبلغاً من المال بين الحين والآخر تضيفه الى محتويات صرَُّتها السوداء التي تحتفظ بها دائماً في الجانب الأيمن من جيب ثوبها الأسود وحين يدخل العم خضر الى بيت الجدة فانها تستعيذ بالرحمن لأن رائحة رائحة عرق هبهب تهب مثل عاصفة ٍ في البيت وكم حاول العم خضر ازالة هذه الرائحة غير ان جميع المُعطِّرات التي استخدمها كانت عاجزةً في الوقوف أمام هذه الرائحة التي كانت تخترق حتى جدران البيت وربما تجاوزت ذلك فاخترقت حتى جدران البيوت المجاورة وكانت الجدة تعتبر العم خضر نجساً فاذا حاول تناول الطعام عندها فانها تقدم له الطعام على مضض في أطباق معدة له فقط فهي غير ( معلولة ) بمعنى انها غير نظيفة ولا تهتم بغسلها لأنها معدة اساساً لرجل نجس فما الحاجة الى تطهير اناء يأكل فيه رجل نجس؟؟

     حين يمشي العم خضر فإن جانبه الأيسر يتقدم على جانبه الأيمن دائماً ويده اليسرى تتقدم على يده اليمنى ومع ذلك فأنه يمشي لمسافات طويلة وبسرعة غريبة ولا يمكن لآحد ان يلحق به وكل من يسيرون معه يتخلفون وراءه بمسافة بعيدة وكان يلتفت الى الوراء بين الحين والآخر ليعرف مدى المسافة التي تفصله عمّن وراءه وهو يبتسم ولو شارك العم خضر في أي سباق ماراثون للمسافات الطويلة فانني واثقٌ انه لابد ان يحصل على احدى المراتب العليا إن لم يكن الأول وهذا ما أؤمن به تماماً وكان الرجل مجاهداً من اجل لقمة العيش من طرازٍ فريد فتراه يعمل كل شيء من اجل أي شيء ، وقد القى باولاده الى الشوارع من اجل العمل ايضا فما كان يحصل عليه لم يكن يكفيه خاصة وان الله قد ابتلاه بشرب العرق بشكل دائم وصل به الى الإدمان وأي عرق كان يشربه ؟، انه عرق هبهب وما ادراك ما عرق هبهب وصناعة هذا العرق تعتمد على التمور الرخيصة الفاسدة التي تزكم رائحُها الأنوف ، وتُعصَرًُ هذه التمور من خلال نشرها على الأرض اولا حيث يتوافد عدد من الرجال الحفاة باقدامهم القذرة  ليدوسوا على هذه التمور كمرحلة اولا ومن ثمن تؤخذ عصارة هذا التمر لصناعة عرق هبهب وربع قنينة من هذا العرق كافية لطرح اكبر فيل هندي على الأ رض دون حراك وعشاق هذا العرق الخطير كثيرون وفي مقدمتهم العم خضر وحين تحدق في قنينة عرق هبهب فانك ترىكائنات غريبة عجيبة وهي تسبح داخل القنينة بحيوية بالغة وقد يسخر المدمنون على هذا العرق من افخر المشروبات الكحولية في العالم وقد يستبدلون افخر قنينة من هذه المشروبات بقنينة عرق هبهب السحري العجيب وكان بعض المدمنين ينامون في الشوارع ليلاً لأنهم لا يستطيعون الوصول الى بيوتهم لشدة تأثير هذا العرق عليهم ومن المعتاد ان ينسوا ملامح الطريق الى بيوتهم فيختصرون الطريق وينامون على الأرض غير شاعرين بأي شيء فعرق هبهب درع حديدي ضد البرد والحر وكل عوارض الطبيعة القاسية وحدث ذات مرة ان مصوِّرَين احدهما عصمت والآخر سهيل حدث انهما اضاعا الطريق الى البيت فظلاّ يسيران على غير هدى حتى دخلا معسكرا للجيش وعندها سحب العسكري المكلف بالواجب الليلي الأقسام وهو يصرخ بهما : سِرْ الليل؟؟؟؟ ولما كانا لا يعرفان اساساً انهما داخل معسكر للجيش اجابا ببرود غريب : عصمت وسهيل وكادا ان يذهبا ضحية ً لعرق هبهب  لولا ان الحارس عرفهما وقذف بهما الى خارج المعسكر ،  أما ابو الكِش فهو اشهر المدمنين لهذا النوع من العرق العجيب ولا احد يعرف الإسم الحقيقي لأبي الكش غير ان المدينة كلها تعرفه تماماً فهو اشهر من نار على علم وكان يسير طوال الليل وهو يحمل قنينة عرق هبهب العجيبة ويدور في الشوارع وكل من يحاول ان يحدثه يسخر ضاحكا وهو يقول جملته الشهيرة ( يابه دكش) ورغم مرور اكثر من نصف قرن ما زلت اجهل معنى هذه الجملة ومن طرائف ما يروى عن ابي الكش حقيقة يؤكدها الجميع حيث كان ابو الكش يتجول ليلاً في الشوارع وهو يحمل قنينته السحرية التي تسبح فيها عجائب المخلوقات ويرفعها الى شفتيه بين الحين والآخر ويقضم خيارة يضعها في احد جيوب سترته القذرة الممزقة بعد كل رشفة يرتشفها من السائل السحري وعندها توقفت سيارة تحمل الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق وصانع ثورة تموز ، توقف عبد الكريم قاسم ونزل من سيارته وتحدث مع ابي الكش ناصحا اياه بالحفاظ على صحته وكان لا يستطيع الوقوف من شدة تأثير المشروب عليه فكان يترنح ذات اليمين وذات الشمال وهو يرفع بصره بالكاد ليرى من يحدثه والزجاجة في يده وكأنه كان ينظر الى صحراء مترامية الأطراف قال الزعيم أنا عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق ، انتابت (ابو الكش) نوبة ضحك مجلجلة ) قال وهو ما زال تحت تأثير نوبته الساخرة : شوف هذا المخبل ، لك يا عبد الكريم قاسم يا نجيب الربيعي وكان نجيب الربيعي رئيس جمهورية العراق في وقته ، يابه دكش ( اذا جنت عبد الكريم قاسم من صدك روح شوف الافران وروح شوف خبز المخابز كل كرصه صايره بكد الدرهم -والدرهم  عمله معدنية صغيرة- شوف الفقرة شكو مكابلني بهل الليل ) أدرك عبد الكريم قاسم عدم جدوى التحدث مع ابي الكش وهو يترنح غير قادر على ان يسند طوله فاعطاه عشرة دنانير كانت مبلغا خيالياً في ذلك وحتى ابو الكش لم يعرف قيمة المبلغ الذي استلمه من الزعيم فقد القى الورقة النقدية في جيبه الممزق دون ان ينظر اليها وعاد ليأخذ رشفةً اخرى أمام انظار الزعيم ويقضم ما تبقى من الخيارة القذرة ، والغريب ان عبد الكريم قاسم اقتنع برأي ابي الكش فذهب في تلك الليلة في جولة لتفقد جميع افران الخبز وحينها اطلق العبارة الشهيرة التي يعرفها جميع العراقيين لجميع اصحاب افران الخبز ( صَغّروا صورتي وكَبّروا رغيف الخبز) وبالفعل تحسن وضع الرغيف بشكل كبير بعد ليلة لقاء الزعيم بأبي الكش ، اعود الى العم خضر الذي كان لا يحلو له الشرب الا عند النهر فكان يأخذ مستلزمات المشروب ويندفع عبر طريق يشق البساتين الكثيفة وصولا ً الى النهر وهناك يفترش الآرض ويفرش ما لديه ويبدأ في رحلة الخيال اللانهائي وهناك يحقق سعادته القصوى وعائلة العم خضر تعرف انه قد يعود وقد لا يعود فاذا تمكن من التعرف على طريق العودة فقد يعود واذا لم يستطع يبقى مستلقيا على ضفاف النهر حتى اليوم التالي ولا احد يعرف متى يصحو ليعود الى هذا العالم وربما كان عرق هبهب وراء ابتسامة العم خضر الدائمة فهو رجل دائم الإبتسام بسبب او بدون سبب وكان لا يحسن لف ( الجرَّاوية البغدادية ) التي يضعها على رأسه فتراها مرتبكةً دائما وقد يظهر منها ذيل ٌ قد يأخذ أي اتجاه ٍ من الإتجاهات الأربعة لا ينتبه له العم خضر ابداً ولا يريد ان ينتبه فمثل هذه التوافه لا تعنيه بشيء فهو صاحب اسوأ مظهر خارجي في التأريخ ولم يعرف كي اية قطعة ملابس طوال حياته وابزيم الحزام قد يكون على الجانب الأيمن بينما يستدير البطلون الى الجانب الأيسر ومن السهولة ان يرتدي العم خضر جوارب بلونين دون ان ينتبه ولا يهمه ان ينتبه والجوارب في جميع الأحوال ممزقة ، وقد يأخذ العم خضر معه الى النهر صنارةً لصيد السمك حيث كان يعد الحطب على الضفاف ليشوي السمكة التي يحلم باصطيادها ولكن يده كانت تتراخى دائماً بعد ان يصعد الشعاع السحري الى رأسه فتسحب السمكة الصنارة وتهرب بها فلم يكن قادراً على الإمساك بعود الأغصان الذي يربط به الصنارة عادة ومع ذلك قد يكذب العم خضر وهو يروي تفاصيل اصطياده لسمكة كبيرة وكيف جلس على ضفاف النهر وهو يستمتع بلحمها مع عرق هبهب الشهير الذي وصلت آفاق شُهرتهِ الى العديد من البلدان الأوربية وينطبق قول الشاعر القديم : إذا متُ فادفنني الى جنب كرمةٍ / تروِّي عظامي بعد موتي جذورها على العم خضر تماماً ولو كان مثقفاً لعبدَ هذا الشاعر الذي يعبر عن اعماقه وعن مدى حبه لعرق هبهب الذي لا يعادله بكل ما في الأرض من خمور مهما كانت أنواعها ، وكاد العم خضر ان يموت فعلاً وهو يستلقي على ضفة النهر حين اندفعت افعى من البساتين القريبة لتلدغ العم خضر وقد لا يصدق احد ٌ ابداً ان الأفعى التي لدغت العم خضر ماتت بعد دقائق لأن سموم العم خضر كانت اقوى من سموم الأفعى وربما كان اول رجل في التاريخ يقتل افعى بسمومه ولم يصدق الكثيرون بحكاية قتل الأفعى غير ان العم خضراقتاد البعض بالفعل عبر طريق البساتين الذي اعتاد على عبوره وهو في طريقه الى النهر ودلهم على مكان الأفعى الميتة وهي ملقاة على ضفة النهر فعادوا وهم يؤكدون للأخرين حكاية موت الأفعى بسموم العم خضرفانتشرت الحكاية في المدينة وكأن العم خضر قام بفتح عظيم يدخل به التاريخ من أوسع ابوابه ولو كان العم خضر  حياً كان من الممكن بسهولة ان يدخل كتاب غينس للارقام القياسية باعتباره المتفرد الوحيد في العالم الذي استطاع ان يقتل افعى بسموم دمه وكان من السهولة ايضا ان يكون من أشهر عدائي الماراثونات في العالم وسرعان ما انتقل العم خضر الى العالم الآخر بسبب دمه الملوث الذي لا يمكن لأي علاج في العالم حينذاك ان يجد له حلاًّ فقد احترق دمه تماماً بنيران عرق هبهب  ولا بد ان اعود الى جميع الآباء لأقول لهم ان جرح الخديعة قد يكون ابلغ من جرح الكرامة فاحذروا ظل المنارة وعجاج الطبل .

 

أوراق من سيرة آدم

(6)

فصل في حكاية  الموسيقار فرمان

هادي الربيعي

    حين أحدق في النجوم البعيدة ليلاً، اسمع صوت آلتهِ الموسيقية العجيبة قادماً من أبعد النجوم، وقد لا يصدق الكثيرون انهُ كان عازفاً في الفرقة السيمفونية العراقية، وانه كان واحداً من الخالدين الذي لا يعرف بهم أحد، وقليلون جداً في هذا العالم الغريب من يعرف هذا الكائن الرائع، ويشرفني انني كنت واحداً ممن تشرفوا بالتعرف على هذا الكائن الإنساني المتفرد الذي يسمى فرمان، ولن انسى ابداً الجهاز القديم الذي كان يستخدمه لسماع الاسطوانات القديمة  واعتقد انني سوف أظل احمل صورة ابتسامته الخالدة ونبرته الساخرة إلى الأبد، اعني ما دمت حياً، وسوف تظل كلماته خالدة في ذاكرتي على الرغم مما أعانيه من نسيان مزمن فهناك دائماً من يحضرون في ذاكرتك ذكريات لا تنسى وفرمان كان واحداً من هؤلاء الذين لا يمكن ان تنساهم ابداً لأنهم يحفرون وجودهم في قلبك وذاكرتك بطريقة سحريةٍ عجيبة .

ترك الفرقة الموسيقية لأن راتبها لم يكن يكفي طعاماً لأولاده، ففتح محلاً لبيع الكباب، وبوجهه البشوش ونبرته الساخرة ومحبة الناس استطاع ان يعيش مكتفياً بذاته، فكان محله ملتقى المبدعين والمثقفين والموسيقيين، وكان كل هؤلاء من التقدميين الذين تتابع خطواتهم قوى الظلام خطوة خطوة، اذكر أن احدهم كان يتابعني كظلي تماماً، وكان ينهي يومه بإيصالي إلى البيت، ولا أدري ما الذي دفعني لأن أدعوه ذات يوم إلى تناول العشاء معي بعد ان اخبرته اننا نلتقي باستمرار بشكل يكاد يجعلنا أصدقاء، اذكر انه ضحك بشكل لم اكن أتوقعه وغادرني وهو يضحك من دون ان يقول شيئاً، واذكر ان هذه الحكاية أصبحت موضع تندر العديد من الأصدقاء ومن بينهم فرمان الذي تعهد بتوفير الكباب لهذا المتابع اليومي  إذا عاد إلى عادته في إيصالي إلى البيت يومياً.

      حذرني فرمان والحزن بادٍ على ملامحه وهو يؤكد عليّ ان اكون أكثر حذراً، وحين سألته عن أسباب تحذيره اخبرني أنهم استدعوه وانه عانى الكثير من التعذيب وانهم اجلسوه على قنينة مشروبات روحية عدة مرات، ولكنه لم يعترف على الرغم من كل ما عاناه، وكان هذا يشعره بالفخر بالدرجة التي كنا نحن أيضاً نشعر بالفخر ونحن نشاهد معنوياته العالية، على الرغم من الألم الذي بدأ يترك تأثيره الواضح في ملامح فرمان، و على الرغم من القلق الذي بدأ يرافقه وهو يعلم ان هناك استدعاءات أخرى قادمة في الطريق إليه، وحقيقة الأمر انني أنا الآخر بدأت اشعر بالقلق، ونقلت تحذير فرمان إلى آخرين قد يتعرضون لما تعرض له، وقد توضح ان قوى الظلام بدأت تشدد قبضتها وتزيد من فعالية حركتها بعد ان وصلتنا أخبار آخرين تعرضوا للاعتقال والتعذيب كما تعرض له فرمان.

كان علينا ان نكون أكثر حذراً في تحركاتنا، خاصة وأننا معروفون لديهم جيداً، وحين كنت أمر على فرمان، كنت أدرك تماماً ملامح القلق على وجهه على الرغم من ابتسامته التي لا تكاد تفارقه أبداً، وكان هذا القلق مشتركاً بيننا على الرغم من إننا لا نتحدث فيه أبداً، حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه فرمان منهاراً وهو يطلب مني أن أزوره في البيت، فبقيت أنتظر الساعة السادسة على أحر من الجمر، وأنا اتحرق شوقاً لمعرفة الجديد الذي تعرض له فرمان، فحركته وانفعاله وطريقة كلامه ونظرة الحزن التي اعرفها جيداً في عينيه حين يتعرض لمشكلة كبيرة محزنة، كلها علامات سبق وان عرفتها في فرمان، وعند السادسة كنت أطرق الباب ودخان السيكارة يصعد غيوماً من شفتي، فتح لي الباب وكان متعباً بشكل لم يسبق لي أن رأيته فيه، رحب بي وسرت وراءه إلى داخل البيـت، ولاحظت ثقل خطواته وهو يمشي أمامي هو الذي كان ينهب الأرض في سيره، أدركت ان كارثة قد وقعت، وكل ما يتوجب عليّ هو ان انتظر تفاصيلها، كانت علاقتي الروحية بهذا الكائن الحبيب لا يمكن وصفها، لأنها علاقة ترتبط بالأحاسيس والكلمات تقف عاجزة في معظم الأحيان عن وصف ما يعتمل في الداخل لأنه يحس ولا يوصف، فبدأت خطواتي تتثاقل وأنا أسير وراءه، وأنا انتظر تفاصيل الكارثة، كانت العاصفة التي تهب عليه تأخذ دورها لكي تهب علي أنا أيضاً، وكانت الغيمة التي تمطر عليه تأخذ دورها لتمطر عليّ أيضاً، كانا أخوة حقيقيين في الألم والفرح، على الرغم من ندرة افراحنا، ألقى بجسده المتعب وجلست إلى جواره وسرعان ما انهار وأجهش بالبكاء، وألقى رأسه على كتفي، مررت يدي فوق رأسه وقبلته من دون أن اتسرع في سؤاله عما حدث له، على الرغم من ان القلق بدأ ينهش قلبي بمخالف فولاذية، استراح قليلاً ثم قال لقد اعترفت، بقيت صامتاً وأنا انتظر منه التفاصيل فاسترسل وهو يقول لي انهم جاءوا إليه وحملوه في سيارة إلى ضاحية بعيدة عن مركز المدينة بعد ان عصبوا عينيه لكي لا يعرف الطريق، وهنا ادخلوه إلى بيت شاهد فيه ابنته التي خطفوها وامامها ثلاثة من الرجال شبه عراة، قال له الذي رافقه في السيارة هل تعترف أم يعرف الشباب شغلهم؟ وامام منظر ابنته وهي تبكي امام ثلاثة من أقذر مخلوقات الله، وأمام عرض مرافقه لاصطحاب ابنته معه في حالة اعترافه أعلن الاعتراف، قلت له لقد وقفت كما ينبغي لرجل شريف ان يقف في موقف كهذا لا بأس عليك أيها الرجل، قبلته عدة مرات وأنا أؤكد عليه ان موقفه كان شريفاً ويليق برجل اسمه فرمان، اما الخسائر فهي محتملة في كل وقت، وأن هذا لا يمكن ان يقلل من قيمته كانسان، بل ان هذا يؤكد قيمته كانسان حقيقي شريف حافظ على شرف أبنته وشرف عائلته في أقسى ظرف يمكن ان يتعرض له انسان وربما ارتاح فرمان لكلماتي  غير انه ظل في دوامة الغبار التي كانت تعصف في داخله وربما خففت كلماتي المتواصلة شيئاً من احزانه، ولكن القاع كان ساخناً وملتهباً بالمشاعر الحزينة، المشاعر التي تركت آثارها القاسية على قلبه الكبير أكاد ألمسُ رياحها الحارة في أعماقه المضطربة، كانت أمسية سوداء بكل المقاييس وكانت آخر أمسية اقضيها مع فرمان فقد صدر أمر نقلي سياسياً مع أحد عشر سياسيا آخر فانتقلت إلى مدينة أخرى، وكنت انتهز فرصة زيارة المدينة لألتقي بفرمان وكانت لقاءات فرض عليها الزمن أن تكون متباعدة، ووصلني الخبر المرعب الذي يؤكد ان فرمان قد أصيب بالشلل، ذهبت إليه على وجه السرعة فشاهدت كتلة النور وقد تحولت إلى خراب بالكاد يمشي على قدميه ، احتضنته وبكيت وهذه هي المرة الأولى التي أبكي فيها على كتفه وأنا اعاتبه على ما وصل إليه، لم يكن الأمر بيده، كان الخراب الذي زرعته قوى الظلام قد وصل إلى قلبه، وكان هذا الخراب سرطاناً لاشفاء منه لدى رجل بالغ الحساسية مثل فرمان، كان حديثه متقطعاً ولم أكن افهم بعض كلماته، ومع ذلك أدركت ومضة سرور لمعت واهنة على وجهه الذي فقد بشاشته وهو يحاول الاحتفاء بي، وحين فارقته احتضنته بقوة ولم امتلك السيطرة على قطرات الدموع التي انسابت طبيعية من دون امتلك قدرة السيطرة عليها، كان فرمان جزءاً مني، وقد انتقل هذا الخراب الهائل ليسكن جسدي، شعرت حينها بان جيشا من المكروبات قد أقام معسكره في جسدي إلى الأبد، ولم أكن اعلم ان هذا سيكون آخر لقاء لي مع فرمان، فما ان دارت عجلة الزمن بضع خطوات حتى سمعت أن فرمان قد انتقل إلى رحمة الله أثر مرضه العضال الذي أودى بحياته، ومنذ رحل فرمان عن هذا العالم مضيئاً بكل القيم التي زرعها في أعماقي وأنا أمضي في هذا العالم بأمراض عديدة لم تفارقني يوماً حتى الآن وأعرف أنها لن تفارقني إلى الأبد.

    الآن اشعر بانني قد استرحت قليلاً، لأنني قد استطعت ان أقول ما لم استطع قوله طوال أكثر من ثلاثين عاما، وأن افتح شيئاً من جراح الصفحات التي ما زالت مطوية في الأعماق، وأن أؤكد حقيقة ان هناك رجالاً خالدين قد لا يعرف بهم احد، رجالا لم يتركوا مؤلفات خالدة، أو اعمالاً خارقة، وكل ما فعلوه انهم عاشوا بامتلاء فوق هذا الكوكب، عاشوا متوهجين بانسانيتهم وحبهم المعاني الكبيرة التي كرسوا لها حياتهم وكان فرمان واحداً من هؤلاء الخالدين الذين لن تتذكرهم الكتب، فالقلوب وحدها هي التي تتذكر مثل هؤلاء الرجال، وحين أحدق في النجوم البعيدة ليلاً اسمع صوت آلة فرمان الموسيقية وهو يأتي من أبعد النجوم.