(ما حدث في حلبجة.(..

محي الدين زه نكه نه

 

من هذا العنوان البارد،الأبرد من الصقيع انطلق.وعبر هذه البوابة الجليدية، اريد العبور..والدخول، عفوا، الاقتراب،ما أستطيع، لو استطعت..من جحيم حلبجة، وملامسة نيرانها البركانية المندلقة،التي لا تخمد ولا تهمد..ولكن عن بعد!!

و..معذرة سلفا..إذا أخفقت ولم استطع..واني لمخفق قطعا..وغير مستطيع أكيدا..ومع ذلك..لابد من المحاولة..

ابتداءاً أرى أن الحديث عن حلبجة..وعن(ما حدث في حلبجة..)أقول الحديث حسب..ولا أقول إنشاء خطاب صداح..ولا تدبيج مقالة محكمة.. ناهيك عن ابداع قصيدة فريدة..أو ملحمة خارقة..في إطار خلاق..وتحت شكل بتول اعذر..لم يحرث أرضها قلم..وفي صياغة باهرة،بجمالها خاصة تليق بقامة حلبجة الشامخة..الشامخة على الرغم من سائر محنها.. ورغم انف كل القتلة..وتحديا لكل ما جرى ووقع وحدث فيها..لابد أن اعترف بأن حديثا كهذا..يتطلب ويستوجب لغة خاصة..لغة تنحت مفرداتها من خصوصية حلبجة نفسها..التي لا تضاهيها ولا تدانيها ولا تشبهها..أية لغة اخرى..

اني ودون الخوف من السقوط في المبالغة..أقول:

إن اللغة، أية لغة،أو على الأقل..لأقُل لغتي أنا،تحديدا وتخصيصا،وبعيدا كل البعد عن التواضع..عاجزة عجزا تاما وأكيدا..وسيلتف حولها الشلل،في أحسن الأحوال وأفضل احتمال..لا في مفاصلها واجزائها و وشائج أرتباطها ببعضها..أو في القدرة على صهرها وسبكها في قالب فني..وعقلاني حسب.ولا في حروفها وكلماتها التي تنبني منهما بالضرورة..وتخلق وتتكون بهما..فقط.وإنما وبالقوة نفسها.في روحها وفي نسغ حياتها وفي فتحات تنفسها ومسامات جلدها..وأيضا في عروقها..في أوردتها وشرايينها وشعيراتها التي تمدها بالدم والدفء والحرارة والديمومة..

وكل ذلك ليس بسبب سموم الخردل وسائر انواع السموم الفتاكة المتنوعة الأخرى..التي تفتقت عنها وأباحت استخدامها حفنة عقول مريضة شريرة..لكي تخترق أحشاء أرضنا الحنون المعطاء..فنزلت الى أعمق أعماقها..بعد أن جالت وتنزهت بابشع صورة،بأسنانها المنشارية في ارجائها الساكنة الآمنة،سيولا من الرصاص المصهور..وتاخبطت حول جذورها وفتنها لتبذر فيها العقم والجدب وتحيل ترتبها السخية الكريمة.. الى صخور متيبسة واحجار صلدة،هي في الأحوال كلها ارق وانعم من تصخر قلوب تلك المخلوقات المشوهة الشاذة التي زرعتها في رحم الارض والزرع والنسل..وأكثر إحساسا ورأفة من مشاعرها..إن كانت تملك،افتراضا،قلوبا ومشاعر وأحاسيس،بين ضلوعها..وإنما أيضا بسبب تلك الصورة الحيوانية–مع الاعتذار الشديد لكل حيوانات الدنيا..حتى أشدها وحشية وافتراسا..ولسائر الديناصورات والماموثات المنقرضة..والأفاعي والعقارب السامة-التي تتموضع في أطرها،مخلوقات شاذة منحرفة..تدعي زورا وبهتانا،انتسابها الى الإنسان..بلا خجل وبوقاحة ما بعدها وقاحة.وهي تتنفس.أو بالأحرى تختلس وتسرق هواء عصرنا..وتطفو على السطح..وتبحلق بصفاقة بعيون لاتستحي الى عيون الازهار والأطفال..والينابيع والجمال..لا لكي تتمعن فيها وتبتهج بها.. وانما لكي تفقأها وتطفئها.. في محاجرها..

كلما امتطيت اجنحة ذاكرتي المتكسرة..وحلقت بها الى الوراء،الى يوم السادس عشر من آذار–عام ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين،أي قبل واحد وعشرين عاما..وجدت نفسي أعيش يوما دمويا اخر بكل شعرة من شعرات جسمي..وما تزال ترشح به كل مسامة من مسامات جلدي.. وتحيا..فيه كل خلية من خلايا ذاكرتي..يوما اسود آخر من أيام الممارسات البعثية السود الطوال..العديدة التي لا تعد ولا تحصى والتي أتخمت بها ذاكرة التاريخ المعاصر حد الامتلاء والتقيوء..أيام البعث..ذي الرسالة..الدموية الخالدة..الأبدية في القتل والفتك والوأد..انه يوم 8 شباط الدامي من عام 1963،الذي عشته وعشت فواجعه حتى النخاع..وكاد يقضي علي كما قضى على عشرات الالوف من اخوتي وأحبتي..لولا كردستان التي ضمتني واحتضنتني..فأنقذتني من موت محقق..

ان يوم السادس عشر من آذار..قد خرج من رحم الثامن من شباط النتن الموبوء..الذي أطلقوا عليه،من شدة تعلقهم به "عروس الثورات!!!" العروس التي واقعها كل زناة الليل والنهار..فلم تلد إلا الشواذ والمنحرفين والمشوهين..من اعتى أنواع القتلة والمجرمين.

من المؤكد ان كلمات من قبيل،فاجعة،مأساة،كارثة،جينوسايد.وسواها وسواها من المفردات والالفاظ والعبارات والتعابير التي تزخر بها قواميس المترعين بالحقد والكراهية والبغض..والعداء لكل ما هو إنساني وجميل،تغدو كائنات أو بالأحرى أشياء،بلا روح ولا دم ولا خجل..وفي برودة..الصقيع والجليد والموتى..بلا قدرة على التحليق في فضاءات الكون..لتتحدث وتتكلم..وتعلن الأقل من القليل..من.(ماحدث في حلبجة ..) أو قد جرى و وقع في "شباط" الاسود.

وهي جازما..مبتورة الأرجل..لا تستطيع إن تدب في دروب الدنيا وأزقتها..وفي طرقها ومسالكها..لتبث في هوائها رائحة التفاح المتعفن..الموبوء والمجرثم حتى النوى.ولا تروي للعالم الحقائق والوقائع الدامية عن الانسان الكردي الذي يذوي واقفا..ويتجوف من كل ماتحت الجلد من لحم وعظم..ويغدو كيسا مفرغا من الهواء ثم لا يلبث الكيس ان يحترق..ليتلاشى هذا الإنسان الذي كان قبل هنيهات حسب مليئا بالامال والاحلام ومشاريع الحياة الزاهرة..ولا يعود سوى اثر بعد عين..شاهدا على إنسانية هذه الحيوانات المفترسة،المنتصبة على ساقين.ويروي حكايات عن الشجر الذي يتداعى على عرشه..والعصفور الذي يتفحم في عشه..بين أفراخه..والعشب الأخضر الطري..المبلول بعرق الجد والكد..والمنقوع بدموع عذابات السنوات الطوال وأوجاعها..تتغير ألوانه المتعددة الزاهية..ليجلله لون واحد..مستقى من أحقاد القلوب السود..

لكن العشب..المكلل بالسواد..يبقى أكثر طراوة وأوفر جمالا..واشد اشعاعا..واشراقا..وابهى رونقا..من "هم" أصحاب الوجوه السود..والأرواح السوداء والأنفاس الشريرة الشوهاء.

تتردد اللغة..لغتي..وتراوح في مكانها..بل وترتد الى الجوف..او تختنق. وهي في طريقها الى حلبجة..وإذ تبلغها تحترق في سعير(ما حدث في حلبجة..)حالها حال عصافير كردستان واعشاب كردستان ومياه كردستان..فلا تقوى على البوح..بـ..(ما حدث في حلبجة..)إذ تخفق في الانتظام في قلائد تعانق جيد حلبجة..أو تتحرك عبر افعال تحريضية.. وتسلسل في حروف من نار..و..نور..لتطوف الدنيا تتخطى الزمان وتتجاوز المكان..الى كل زمان وكل مكان..وتحقق وجودها في زمان حلبجة..وتسكن في سويداء حلبجة..وتخاطب الكون والوجود..عن.. (ما حدث في حلبجة..)

ان المقارنة بين(ما حدث في حلبجة..) وما حصل في اي مكان من الامكنة وفي اي زمان من الازمنة.. منذ زمان نياندرتال وقابيل الذي قتل اخاه هابيل..تعد نوعا من الفكاهة السمجة..لأنه ببساطة شديدة لاوجه للمقارنة.. وحتى ساعة داست قدم اخر انسان وجه القمر..

 في تلك الايام الاذارية الصافية ولياليها البيض..الأكثر صفاء وألقا..بنجومها المعلقة في السماء..وأضوائها المرشوشة على الأرض..التي تهفو فيها القلوب وتتعانق..وتنطلق الأرواح وتتداخل..في محبة ووئام وسلام..وحيث الطبيعة كلها تشارك الانسان الكردي الأفراح..وتصلي..وتترقب العام الجديد..تجدد ذكرى كاوه الحداد..الإنسان البسيط..الشجاع..الذي تمثلت في مطرقته..إرادة الشعب..والتاريخ....أن تغني.. وتنشد.. انشودة انتصار الانسان القادر على خلق قدره..و وجوده..وغده..هرع أحفاد ضحاك الذين لايروق لهم الغناء..فعمدوا الى إسكاته بسمومهم وحقدهم الاسود..

 ولكن هيهات:ستغني حلبجة..أغنيتها..للحياة..للحرية..لكردستان..وسيظل غناؤها..يعلو ويعلو..يوما بعد يوم..وعاما بعد عام..مادام..ثمة زمان.

لسنا من دعاة الثأر..ولا من طلاب الانتقام..ولم نكن يوما كذلك..ولن نكون ولكن لاينبغي ان ندع الجريمة تمر بلا عقاب..فأتعس الأزمنة زمان..ترى فيه الجريمة..ولا ترى فيه العقاب..

2/3/2009

السليمانية